مقدمة
الهوية هي المعرف عن فرد أو مجتمع أو دولة، تدلنا على الثقافة والأيديولوجيا السائدة وطابع العادات والتقاليد، فترسم معالم المشهد الإنساني و طريقة تفاعله مع ذاته ومحيطه.
فتكون بمثابة المفتاح الذي من خلاله نقرأ داتا الفرد والمجتمع، ومن خلالها تتضح آليات التواصل والاتصال بين مختلف الشعوب والمجتمعات والأقطار.
التفاعل الحضاري:
للهوية معالم ثابتة تعبر عن شخصية اعتبارية لحاملها وتؤثر في محيطها، ولكن لها في ذات الوقت جانب متأثر تأثرا خاضعا لظروف العصر أي الزمان والمكان، حيث جانبها المتغير الذي يتطور من خلال التغافل الحضاري مع الثقافات الأخرى، وما أعنيه بالتفاعل الحضاري هنا هو تداخل أيجابي يؤثر ويتأثر، ويطور و ينهض من خلال استفادته من تجارب الهويات الأخرى الإيجابية النهضوية، دون ان تتغير ملامحه الثابته التي تمثل بصمته الخاصة.
الغرب بين الإحلال والتفاعل:
جاء المشروع الإسلامي بفهم حضاري للتفاعل يهدف منه أمرين:
الأول : تفعيل القيم الثابتة في فضاءات المعرفة لكل ما هو خارج الجسد الإسلامي، حيث القيم الثابتة جزء من الفطرة الإنسانية وتفعيلها كسلوك، حيث التفاعل يعمل على إزالة الحجب عن النفس لتمرير تلك القيم التي تمهد الطريق لتحقيق العدالة بين كل البشر. وهو ما يتطلب لوازم أهمها امتلاك هذه الحضارة مقومات التأثير من مكنة واكتفاء ذاتي و تكافؤ علمي و تحقيق منجز حضاري فاعل في حياة الإنسان يسهل عملية السريان المعرفي بين الإسلام وغيره من الحضارات.
الثاني: المواكبة والمعاصرة التي لا تتحقق إلا من خلال الاطلاع على تجارب الحضارات الأخرى والاستفادة من إبداعاتها العلمية، ونهضتها القيمية في الجانب المشترك الإنساني مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات المنهجية والمنطلقات القاعدية لكل حضارة، أي هو تواصل واتصال ومشاركة و اكتساب خبرات تفعل المسكوت عنه في اللاوعي الإنساني، وتطور من نظرة المجتمعات للحياة، وتزيل الأغلال الغير سليمة التي توارثتها المجتمعات عن الآباء دون وجود مسوغ عقلي وشرعي لها.
أهمية التفاعل:
تكمن أهمية التفاعل في أمور عديدة أهمها:
– توسيع المدارك المعرفية وتنضيجها بالاطلاع على تجارب الآخرين البشرية.
– تفعيل مفهوم التعدد الإيجابي، و ثقافة الخروج من الصندوق، وإرساء مفهوم تعددي يوسع مساحات الإشتراك المعرفي وبالتالي يفعل عمليا مفهوم التعايش والتسامح الحضاري على أساس التكافؤ الإثني وليس الإحلال والإلغاء.
– ينضّج القدرات العقلية في فهم الدين بما يحفظ خاتميته ودون المساس بخلوده. و يعمل على تذليل العقبات أمام العقول من خارج الجسد الإسلامي لفهم هذا الدين الخاتم ومحاولة ترصيف رؤيتهم الكونية بمفاهيمه عن التوحيد والعبودية.
– يبسط نفوذ الله قبال نفوذ القداسات السياسية والدينية، حيث تفعيل مفهوم العبودية والحرية الحقيقية يزيل كل الحجب العقلية في لا وعي الشعوب التي اشتغل عليها المستبد أيّ كان لاستعباد الجمهور وتمكين سلطته عليه.وهو ما يستدعي تفاعل مقتدر ومدرك للآخر ويمتلك المكنة في اختراق لا وعيه بوسائل يفهمها هو ويمكنها الوصول إلى عقله وقلبه.
معايير التفاعل الحضاري:
– يحتاج التفاعل مكنة وقدرة واكتفاء ذاتي يكون إما متكافئ مع الآخر أو يسبقه بدرجة، و هذا من مقومات التحصين الذاتي للثوابت ومقومات الوجود، فيكون التفاعل من موقع التأثير والتأثر الإيجابي. هذا لا يعني عدم توفر المكنة كما هو حالنا أن ننغلق على ذاتنا، ولكن تصبح مساحة التفاعل أضيق حفاظا على الهوية لعامة الناس، فيكون التفاعل مقتصر على طبقة النخب والتي تسعى بتفاعلها هذا لتحصين الداخل وإيجاد إجابات للتساؤلات المطروحة نتيجة تسرب ثقافة الآخر للجسد دون وجود ضوابط ولا حصانة ولا مكنة، فتكون النخبة بمثابة الفلتر الذي يحاول تثبيت الثوابت و غربلة الشوائب وممارسة عمل تحصيني قادر لا أقلا درء الشبهات و حماية الهوية دون أن يطمح للتأثير إلا في نظاق النخبة عند الآخر فتتغير الأولويات هنا نتيجة عدم توفر المعايير من أولوية التأثير الواسع إلى أولوية التحصين مع التأثير المحدود والسعي الدؤوب لتوفير معايير التفاعل الحضاري.
– لا يمكن أن يتم التفاعل الحضاري مع توفر معاييره إلا إذا كانت بنية الأمة قوية وهويتها محصنة بشكل علمي برهاني، بل لديها فلتر للشبهات وقادرة على مواجهة كل محاولات الإقصاء، وتمتلك العزة والكرامة وهما قيمتان تحافظان على الهوية من خلال تحقيق حالة الاعتزاز بها، وهذا لا يحدث إلا من خلال تأسيس المجال الإدراكي للأمة، و تحصينها بالعلم والمنهج البرهاني الذي يحاور ويمتلك وعي وجودي ومنفتح على الآخر ومدرك له ولمبانيه. فالعلم معيار أساسي في عملية التفاعل الحضاري واعني هنا معرفة الذات معرفة عميقة، ومعرفة الآخر أيضا معرفة عميقة وامتلاك أدوات منهجية علمية رصينة في مشروع التفاعل الحضاري.
الغرب ونزعة الهيمنة:
تاريخيا نشأت أوروبا على أساس نزعات الهيمنة والتوسع، وكانت الحروب والإغارات الوسيلة الأنجع في بسط النفوذ وفرض النموذج الثقافي والسياسي، و مع التقادم وبعد عصر التنوير بالذات وتضاؤل هيمنة الكنيسة، وما حققته أوروبا من اكتشافات علمية هائلة مكنتها فيما بعد من الهيمنة على الطبيعة، لم يغير ذلك من نزعتها للتوسع والهيمنة باحثة عن الثروات الجغرافية والمعدنية وعلى رأسها ثروة الطاقة، فقامت باستعمار كثير من دول منطقتنا، وخلال الاستعمار العسكري مارست استعمارا ثقافيا حاولت من خلاله السطو على المجال الإدراكي للشعوب المحتلة، حيث ركز المستعمر على المجال التعليمي ففتح مدارس تابعة له وهو من يضع مناهجها، وكان من خلال التربية والتعليم يفرض قيمه ونظرته الوجودية ورؤاه المعرفية وبنيته القيمية، دون أن يعمل أي اعتبار لاختلاف الثقافات والهوية، بل كان من موقع القوة والنفوذ لا يريد فقط أن يهيمن على الأرض والثروات بل حتى على عقول البشر ليمحو كل اتصال لهم بهويتهم الخاصة ويرسم لهم معالم هوية جديدة مرتبطة به هو حتى يتحول وجوده في ذهنية الشعوب المحتلة من مستعمر إلى وجود ضروري تحتاجه الشعوب لتحقيق طموحاتها في العلم بعد أن كانت ترزح تحت وطأة الاستبداد العثماني لترى فيه الخلاص، كما كان يطمح المستعمر أن يطرح نفسه لتلك الشعوب على انه خلاصها من الاستبداد.
في هذه المرحلة من الاستعمار العسكري لم تفلح محاولاته تلك بل تحول من مخلص إلى مستعمر تزى فيه الشعوب وحشا يريد أن يفتك بها، فكان القرار هو المقاومة التي تعني مزيدا من التمسك بالهوية ورفضا لكل ما له صلة بهذا المستعمر، وهذا لا يعني عدم تأثر كثيرين بهوية هذا المستعمر و ببنيته الفكرية والفلسفية، لكن كان الجو الغالب هو الرفض والتحصين ومزيد من التمسك بالهوية.
وهنا تشكلت لدينا تيارات في كيفية التعامل مع المستعمر للأرض:
– تيار وجد فيه الخلاص وانجذب لكل محمولاته العلمية والثقافية واندك به ليصبح جزء منه ولم يتوان هذا التيار حتى من التعاون عسكريا معه ضد أرضه وشعبه، كون مكنة المستعمر العسكرية والعلمية استطاعت السطو على المجال الإدراكي لكثير من النخب الذين بهرتهم الانجازات العلمية والحضارة الغربية ببعدها المادي الذي قدم خدمات للإنسان و سهل عليه حياته كما يظهر للوهلة الأولى.
– تيار رفض رفض رفضا كبيرا وحاسما كل ما له علاقة بهذا المستعمر حتى لو كان على مستوى العلم والثقافة بما هو نافع ويمكن أن يقدم تجربة بشرية تدفع باتجاه مزيد من توسعة المدارك، وذلك لأن المستعمر هيمنته العسكرية ومطامعه التوسعية و نزوعه نحو إقصاء الآخر استخدم العلم ليس لأجل خدمة الآخر، بل كوسيلة للهيمنة عليه و إقصاء ثقافته وهويته لتحل محلها الهوية الاستعمارية وثقافتها.
– تيار امتلك نوع من المرونة، واستطاع الاستفادة من المنجز العلمي ولم يسمح مع ذلك من تغيير الهوية ولا الاحلال الثقافي بل كان محصنا ضد اي نوع من الإحلال ولكنه استفاد من منجزات الغرب الحضارية والعلمية. وهم في ذلك الوقت قلة لكنهم نخبة.
وبعد الانسحاب العسكري نتيجة ضربات المقاومة وتقسيم المنطقة، ووضع أنظمة مستبدة وموالية للمستعمرين بدأت عملية غزو وحرب من نوع آخر، تهيئ أرضية وقابليات الشعوب لتصبح سوقا استهلاكية لسلع الغرب.
وظهرت ازدواجية الغرب في رفع شعارات حقوق الإنسان وفي ذات الوقت دعمه لأنظمة استبدادية قمعية، وكانت شعارات الديمقراطية والحرية و حقوق الإنسان كورقة ضغط في يده، يستخدمها ضد الأنظمة لتمرير مشاريعه وخاصة تلك المتعلقة بتمكين الشركات الكبرى في الغرب من السيطرة على الأسواق الداخلية.
وفي تقرير حول ممارسات صندوق التقد الدولي يوضح وحشية الممارسات التي يقوم بها هذا البنك تحت شعار الإنماء و سد العجز حيث يوضح التقرير بان الصندوق يعيد خلق العالم على صورته ويوضح كيف يبشر بـ«دين» أوحد للتقدم ، ويذكر التقرير أنه” عندما تم إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في سنة 1945، مباشرة بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية؛ كان الهدف المعلن من هذه المؤسّسات الماليّة العالمية هو العمل على «تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي على مستوى العالم»، لكن وبعد تتبّع آثار تدخّلات هذه المؤسسات في البلدان الناميّة خصوصًا، يتّضح وجه آخر لتعاملات مشبوهة غير تلك المعلنة، فمن خلال استخدام الشروط نفسها والحلول الماليّة نفسها في التعامل مع مختلف الدول التي تطلب القروض من هذه المؤسسات، تدفع بأجندة تخدم مصالح الشركات الكبرى وأصحاب الأموال من جهة، بالإضافة إلى الدول التي تملك نفوذًا كبيرًا داخل هذه المؤسسات بطبيعة الحال.
وتروّج هذه المؤسّسات الماليّة العالميّة لسياساتها على أنّها المنفذ الوحيد للدول التي تعاني عجزًا ماليًّا، وبتقديمها للقروض الماليّة المشروطة بتنفيذ هذه الدول المعنيّة سياساتها الليبراليّة؛ فإنها تُحكم قبضتها على الاقتصاديات الناشئة وترهن مستقبلها، وتجعل أسواقها في أيدي الشركات العالمية الكبرى بعد فتحها ورفع أيدي الدولة عن التنظيم ومتابعة السوق، مما يدخلها في منافسة غير متكافئة.
ما أن تلجأ أيّ دولة لأخذ قرض من صندوق النقد الدوليّ فإنّ الصندوق يبدأ في تشغيل الأسطوانة نفسها، وتلاوة القائمة المتكرّرة من الشروط والطلبات: إصلاحات هيكليّة في الاقتصاد تتضمّن بيع الشركات المملوكة للدولة، وتقليص الموظّفين في القطاع العمومي وتقليص رواتبهم، وفتح الأسواق للاستثمارات الأجنبيّة بلا شروط، وتشجيع الاستيراد وتقليص الدعم الحكوميّ للفئات الفقيرة، والتخلّي عن حماية العمّال والفلاحين وإضعاف النقابات.”
ويذكر التقرير تجربة الصندوق مع مالاوي قائلا:”تحولت مالاوي إلى مجرّد أراضٍ زراعيّة يتحكّم فيها لوبي السجائر العالميّ ويحرص على مصالحه التجاريّة بشكل قانونيّ تمامًا، بفضل السوق المفتوحة التي فرضتها المؤسسات الماليّة العالميّة. ومن أجل أن يدخّن الأوروبيّ أو الأمريكيّ السجائر بأرخص سعرٍ ممكن، لا بأس أن يجوع الملايين في مالاوي وغيرها من البلدان النامية التي زارها مسؤول من صندوق النقد.”
حيث ” أشار تقرير للجارديان البريطانيّة إلى أنّ سياسات صندوق النقد الدوليّ قد «أدّت بمالاوي إلى المجاعة»، فالدولة الأفريقيّة التي قرّرت – تحت ضغط الصندوق – خصخصة قطاع البذور وتحريره من يد الدولة التي كانت تنظّم الأسعار وتضمن اكتفاءً ذاتيًّا من البذور، وجدت نفسها في سنة 2002 أمام مجاعة هي الأسوأ منذ 1949. وقد بلغت خدمات ديون مالاوي في تلك السنوات 70 مليون دولار أمريكيّ، أو ما يمثّل 20% من ميزانيّة الدولة، وهو ما يمثّل أكثر من ميزانيّة الصحّة والتعليم والزراعة مجتمعة، في بلد ما زالت أوضاعه الاقتصاديّة معلّقة بيد دائنيه، وتقلّبات الأحوال الجويّة.” [1]
هذا النموذج الذي يفرض وجوده ثقافيا واقتصاديا من خلال ضرب كل مقومات الاكتفاء الذاتي للدول المقترضة، لتصبح أسيرة بشعبها لقرون لشره نخبة اقتصادية تهيمن على كل مداخيل الدولة لإفقار أهلها وتجردهم من كل مقومات الحياة، وبذلك تحقق استعمارا خفيا تحت شعار الدعم والمساندة.
وبعد العولمة بالذات ورفع شعار صدام الحضارات، والمتصل بماضي الغرب في شرهه للتوسع والهيمنة وإحلال قيمه وهويته، فقد برزت حربا ناعمة تستهدف الهوية في عمقها الوجودي، تاريخيا بضرب كل جذورها المتصلة بالماضي، وقيميا بضرب قيمها المعنوية والثابته وإحلالها بقيم مادية استهلاكية شرهة.
ونتيجة الاستبداد وإفقار الشعوب ماديا وعلميا وتحويل وجهة أغلب هذه الشعوب، من هدف طلب العلم والنهضة والكرامة والحرية والعدالة، إلى السعي الدؤوب اليومي الذي يلهث فيه الفرد لسد رمقه ورمق عائلته، أي سعيا حثيثا وراء رغيف العيش، ورغم أن هناك دول غنية جدا بثرواتها المالية، إلا أن معدلات الفقر والبطالة فيها مرتفعة بسبب فساد السلطة، و سيطرة نخبة طبقية على مقدرات الشعب، و شراء ذمم الغرب بشره شراء السلاح بحجة الأمن على حساب التنمية والاستثمار الحقيقي في الإنسان.
ولأن الغرب متقدم علميا وتكنولوجيا بما يخدم الإنسان في بعده المعيشي الدنيوي، ومع تقديم نموذج للإسلام متخلفا، اقتنعت أغلب الشعوب وتم تحت هيمنة الاعلام العالمي القوي الربط بين الإسلام والتخلف، والغرب والتمدن والحضارة، ومع تقصير كثير من الاصلاحيين و النهضويين من تقديم نموذج سلوكي حضاري للإسلام تظهر آثاره في الدنيا على نهضة الإنسان، فإن ذلك أزال كل العقبات أمام عولمة النموذج الغربي في كل أبعاده الحياتية والسلوكية والقيمية. حيث هيمنت المدرسة الوضعية الغربية على مجالنا الإدراكي، وبات كل شيء خاضع في تقييمه للتجربة والحس، واضمحل عالم الغيب والمعنى، بسبب عدم وجود نموذج عملي سلوكي يقدم الإسلام على أنه واقعا دين حياة.
رغم ان الدين هو للدنيا والآخرة، إلا أن عوامل كثيرة أدت لتنحيته عن الدنيا وتشويه صورته وحرف دوره النهضوي لدور تعطيلي تخديري بعيد عن كل دعوات النهضة والحياة.
ولكن كيف واجهت منطقتنا المنكوبة بالاستبداد، والمكتوية بالتطرف، و المثقلة بحجم التآمر عليها، كيف تواجه العولمة والحرب الناعمة على هويتنا بل وجودنا؟
الزوال الاندماجي:
يقوم على أساس الاندماج الغير مدروس مع الثقافات الأخرى، بحيث تقوم القوى الناعمة على اختراق الهوية الخاصة وتفكك بناها الأساسية التي تقوّم وجودها، ومن ثم تعمد إلى تفكيك منهجي لكل مقومات الهوية، و تعيد تشكيلها من خلال عملية الإحلال لثقافتها ومع التقادم تذوب المجموعة المندمجة في هذه الثقافة، وتزول معالم هويتها تماما، و تنشأ أجيال على الهوية الجديدة التي تشكلت نتيجة الاحلال الناعم.وهذا ما تقوم عليه فكرة الاستعمار بل والعولمة والتي هي استعمار خفي.
هذا ما أدركه اليهود، ودفعهم تحت عنوان شعب الله المختار إلى الانعزالية، وتشكيل جيتو خاص لهم، يضمن الحفاظ على هويتهم اليهودية، و يمنع أي عملية زوال اندماجي مع التقادم.
لكن الله رسم معالم الاندماج الصحيح حينما أسس له أسسا تمنع الاندماج الغير مدروس، ولكنها تتفاعل مع الثقافات والمجتمعات الاخرى على أساس :
- التعارف القائم على تبادل الخبرات والاحترام المتبادل للخصوصيات، والاستفادة من النافع لتطوير الهوية وتطوير القراءة للحياة.
- التقوى التي يراعي فيها كل طرف حدود الله بحق الطرف الآخر، وهذه المراعاة تحقق العدالة وتمنع الظلم.
- التفاضل مشروط بالتقوى وأن الأفضلية هي من تصنيف الله وليس من شأن البشر.
حيث قال عز من قائل : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ“
فتصبح الفكرة:
التفاعل الاندماجي الذي يطور الهوية، ويعزز وجودها وينقلها بصيغ متطورة للأجيال، محافظا على ثوابتها، ومطور متغيراتها الخاضعة للزمان والمكان، ومعززة لكرامتها بالتقوى التي تدفع المجتمعات للتفاعل ضمن دائرة العدل وعدم الظلم وحفظ الحقوق.
إلا أن الواقع اليوم يميل ليس للتفاعل وإنما للزوال الاندماجي، الذي يحاصر هويتنا من كل جهة ونتيجة هذه المواجهة الناعمة ظهر مدارس عديدة في التفاعل مع هذه الحرب الناعمة:
– التفاعل مع روح المدرسة الوضعية وإخضاع الواقع كله للحس والتجربة ورفض كل ما هو خارج هذا الإطار، وهؤلاء رفضوا كل مصادر المعرفة الإسلامية الغير خاضعة للحس والتجربة بما فيها القرآن والتراث الحديثي.
– الرفض المطلق لكل ما هو غربي والانكفاء على الذات والتمسك بالماضي بكل مثقلات وأحيانا العيش به.
– محاولة المواءمة التلفيقية الترقيعية بين الإسلام والغرب دون الالتفات للاختلاف الجذري في البنية الفلسفية والمعرفية بينهما، ومحاولة ترقيع اصطلاحي لكثير من المعارف الغربية مع متشابهاتها الظاهرية في الإسلام، مما أنتج جنين مشوه غير قادر فعليا على التطبيق نتيجة المغالطات و التناقضات الكثيرة أثناء تطبيق هذا النموذج الترقيعي التلفيقي.
– تيار استطاع الاستفادة من الأدوات المعرفية المتطورة وتجربة الغرب الغنية في المجال المعرفي والمنهجي، مع الأخذ بالحسبان الاختلاف البنيوي بين المدرستين الاسلامية والغربية، إلا أنه تفاعل تفاعلا حضاريا نديا محتفظا على ثوابته و مستلهما مناهجها و أدوات جديدة في إعادة قراءة تراثه واستكشاف كنوزه المخبوءة خلف النمطية والتقليدية والانغلاق على الذات وخلف البيئة والقبليات الحاكمة. فمارس محاولة خروج من الصندوق و انتفع بالأدوات والمناهج المعرفية المتطورة، وتفاعل بضوابط نهضوية وليست اندماجية مشوهة للهوية ولا ماحية لها، بل ناهضة بها وفق متغيرات الزمان والمكان. مفرقا بين السياسة الغربية ومقاصدها التوسعية الغربية، وبين المعارف والتجربة البشرية المعرفية دون إغفال خلفيات تلك الثقافة وطموحها.
إذا نحن لا ننكر أننا أمام مرحلة تاريخية حساسة تعرض المشروع الإسلامي برمته للخطر في ذهنية الأجيال الحالية والقادمة، التي باتت بحاجة ملحة إلى أن يقدم الاسلام نموذجا حضاريا للدنيا يحل لها كل إشكاليات الراهن ويقدم حلولا واقعية تلمسها في أبعادها العلمية والعمرانية والذاتية. لم تعد التنظيرات حول أن الإسلام
هو الحل، ولا أنه دين حياة مع استحضار أدلة نظرية على ذلك مجديا نافعا ومقنعا، مع انفصال هذه النظريات عن الواقع الحياتي والسلوكي، هذه الفجوة بين النظرية والواقع كفيلة في نسف النظرية مع صحتها من أذهان الأجيال القادمة، ونسف كل منظومة القيم والمبادئ والمعايير والثوابت معها، تتبلور قيم ومعارف ومعايير مختلفة تماما ويتحقق الإحلال الثقافي التام وتتبدل الهوية إلى هوية مختلفة تماما عن تلك التي أرادها الإسلام وصنعتها أيدي رجال التاريخ من الأنبياء وتضحياتهم العظيمة لأجل ذلك، فهم سعوا لتقديم نموذج ديني حياتي قادر على حل الإشكاليات التي تواجه الإنسان، لكن تحول بعد ذلك على أيدي المستبدين الدين إلى وسيلة للقمع والتخدير وسلب الإنسان إنسانيته وتعويضه عن ذلك بآخرة لا يمكن أن تكون كما صنعوها الفراعنة، كون الدين لصناعة دنيا عامرة بذكر الله، لتعبر بالإنسان إلى آخرة يكون فيها مخلدا في النعيم، إلا أن المستبدين الذي استعبدوا الناس باعوا لهم آخرة من صنعهم هم، وعطلوا دنياهم يتحول الدين إلى أغلال العبودية بعد ان جاء ليحرر تلك الأغلال و يصنع إنسانا متألها.
التحدي الكبير اليوم هو النموذج العملي للإسلام الذي يقدم برنامجا عمليا سلوكيا للحياة، ينهض بالإنسان ويحقق طموحه في الدنيا في العمران والعلم والنهضة. وليس فقط مجرد نظرية بأدلة علمية غير خاضعة للتطبيق.
و أمام هذا التحدي نقف عند مفترق طرق أحدها إلى الآن مهيمن ومستمر في دك الهوية وإحلالها بهويته الخاصة التي تصب في صالح استعباده للعالم وفق شرهه الرأسمالي، والثاني يترنح بين المواجهة والاستسلام