الإيمان بعقيدة المنزلة بين المنزلتين في أفعال العباد وإن كانت داخلة في ما ينبغي أن يعلم ولكن أثارها العملية تترتب على السلوك الخارجي ، الذي قد يخالفه من ناحية عملية ، فالتوحيد مثلا مما ينبغي أن يعلم ، قال تعالى: ﴿فَاعلَم أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ﴾[محمد: ١٩] . غير أنه من ناحية عملية قد ينافيه السلوك العملي ، كما في قوله تعالى : ﴿وَما يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلّا وَهُم مُشرِكونَ﴾[يوسف: ١٠٦] .
وفي البحار نقلا عن عدة الداعي للشيخ ابن فهد الحلي رضوان الله عليه حيث قال : ( عن ابي عبدالله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى (( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون )) قال : هو قول الرجل لولا فلان لهلكت, ولو لا فلان لما أصبت كذا وكذا, ولو لا فلان لضاع عيالي ؛ ألا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه ؟ قلت : فنقول : لولا أن الله منّ عليّ بفلان لهلكت, قال : نعم لا بأس بهذا ونحوه . ) . كتاب البحار ج 5 ص١٤٨ . فالعلم بالشيء اعتقادا لا يستلزم السلوك على ضوئه عملا وسلوكا.
ومن هنا كان الاعتقاد في مسألة المنزلة بين المنزلتين في أفعال العباد لا يستلزم السلوك العملي على ضوئها، وتنطلق إشكالية التطبيق تارة من عدم اتضاح ما ينبغي أن يعلم أي من ناحية عدم اتضاح العقيدة، وأخرى من ناحية الاشتباه في التطبيق الذي له دوافع نفسية وعاطفية تتحكم بالسلوك أحيانا.
ومثالا تطبيقيا للمنزلة بين المنزلتين التي هي عقيدة مؤيدة بالكتاب والسنة والعقل في التعامل مع الاؤوبة أن السلوك العملي لتطبيق المنزلة بين المنزلتين على الموقف العملي منها هو الاعتقاد بأنها غير خارجة عن سلطان الله تعالى وإرادته ، ومن ناحية العبد أن يسلك الأسباب الطبيعة في التعامل معها على وفق الضوابط الشرعية القانونية .
ولا يتم الاعتقاد بالمنزلة بين المنزلتين إلا بالاعتقاد بقانون الأسباب والمسببات، الذي يشكل قوام الاعتقاد بالمنزلة بين المنزلتين.
فمن نزل به الوباء فينبغي من ناحية الاعتقاد أن يعتقد أنه بإرادة الله وقضاءه، وباطنه الخير للعباد، ومن ناحية عملية يجب إتباع الأسباب الطبيعية في التحرز منه أو الاستشفاء.
نعم قد تدخل شبهة من ناحية عملية في تعامل مع الأسباب الطبيعة في الاعتماد على الجوانب الغيبية وهو حق بنسبة ما غير أنه لا يخرج عن القانون العام لربط الأسباب والمسببات ، ففي قوله تعالى: ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم﴾[الأنفال: ٦٠] .
كسبب طبيعي في الواقع العملي لا يتنافى مع الإيمان والاعتقاد بتأثير يد الغيب في تغير الواقع كما في قوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذي أَخرَجَ الَّذينَ كَفَروا مِن أَهلِ الكِتابِ مِن دِيارِهِم لِأَوَّلِ الحَشرِ ما ظَنَنتُم أَن يَخرُجوا وَظَنّوا أَنَّهُم مانِعَتُهُم حُصونُهُم مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبوا وَقَذَفَ في قُلوبِهِمُ الرُّعبَ يُخرِبونَ بُيوتَهُم بِأَيديهِم وَأَيدِي المُؤمِنينَ فَاعتَبِروا يا أُولِي الأَبصارِ﴾[الحشر: ٢] فأنتم أعتقدتم أنهم لم يخرجوا ، وهم أعتقدوا بالأسباب الطبيعية وهي مانعية حصونهم، ولكن يد الغيب أتتهم من حيث لم يحتسبوا، ولكن مع ذلك بقيت الأسباب الطبيعية حاضرة حيث خربت بيوتهم بأيدي المؤمنين، و يجمع الجميع أعقل وتوكل حينما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل رجل قال له: أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال له (صلى الله عليه وآله)-: ” اعقلها وتوكل ” ميزان الحكمة ج٤باب التوكل.
ومن تطبيقات المنزلة بين المنزلتين في التعامل مع وباء ( كورونا ) والاعتماد على الغيب في عدم التحذر منه والاعتراض على إتباع الأسباب الطبيعية في التوقي منه بالخصوص في مسألة تعقيم الأضرحة المقدسة وأنها انتهاك لمقام أصحاب تلك الرحاب العطرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، تدخل مسألة الشبهة في التعامل مع هذا الوباء في تلك الرحاب، فقد يتصور البعض أنه ينتهك قدسيتها؟
غير أن المحرك الأساس لذلك التصور في الغالب هو العاطفة وعدم الوقوف على حقيقة الاعتقاد بقدسيتها المتفرعة عن قدسية ساكنيها عليهم ألالاف التحية والسلام.
فمقتضى الاستناد إلى قانون الأسباب والمسببات لا ينافي تعقيمها حذراً من نقل الوباء إلى الآخرين و الإيمان بقدسيتها ومنزلتها ومنزلة ساكنيها عليهم السلام، كما لا ينافي ذلك تطهيرها حين تنجسها بالدم وشبهه، بل هي أولى بالتطهير ، حيث اجمع الفقهاء على : تَنجُسُ المساجد وما يلحق بها كمقامات المعصومين عليهم السلام بملاقاة النجاسة، ووجوب المبادرة إلى التطهير ، ولم يعترض على ذلك أحد بأنها تنافي قدسية تلك الرحاب، بل مقتضى كون التنجس والتطهير من الأمور الاعتبارية التي ملاك جعلها ورفعاها بيد الشارع أسهل في اعتبار عدم تنجسها من الأمور التكوينية التي لا ترفع إلا بتدخل إعجازي لإثبات صدق النبوة