كانت تعيش السيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكره، وبذلك فإنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي لم تدخل إلّا مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تتعلّم إلّا في بيته، أنّها كانت تملك من الثقافة ما لم تجده في التراث الذي وصلنا من المسلمين في تلك المرحلة، إلّا ما جاءنا عن الإمام عليّ (عليه السلام) في ذلك.
وهكذا، كما عاشت الزهراء (عليها السلام)، من خلال قيم أهل البيت (عليهم السلام)، كلّ معنى الروح في كلِّ كيانها وذاتها، لأنّها عاشت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلِّ روحانيّته وفي كلّ ابتهالاته، وعاشت كلَّ هذا القلب الكبير الذي كان يعتصر عندما يعيش آلام الناس من حوله، والذي كان يحرصُ على الناس كما يحرص على نفسه.
وقد كانت تراه كيف يتألّم للفقراء والبؤساء والحزانى واليتامى، وهو الذي قال الله عنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128)، وقد كانت الزهراء (عليها السلام) ترى كيف يرأف بكلّ الناس الذين يعيشون حوله ومعه، سواء كانوا من الذين يؤمنون به، أو من الذين لا يؤمنون به.
وعندما ندرس شخصية الزهراء (عليها السلام) الثقافية، وعندما ندرس النصوص التي تركها لنا التاريخ عن كلماتها وخطبها، ونتعمَّق في دراسة الخصائص الموجودة في هذه الخُطب من الناحية الثقافية، فإنّنا نجد أنّها كانت تملك ثقافة التوحيد، وثقافة النبوّة، وثقافة حركية الإسلام وانطلاقاته.
وكانت عندما تتحدّث عمّا تؤمن به، فإنّها لا تتكلم بطريقة عاطفية، ولكنّها كانت تتكلّم بطريقة علمية وثقافية وحركية في الواقع كلّه، ونحن ندعو إلى أن ندرس الزهراء (عليها السلام) في الجانب الثقافي من شخصيّتها، كما ندعو إلى دراسة الزهراء (عليها السلام) في الجوانب الأُخرى من شخصيّتها، كالجانب الإنساني في الشمولية الإنسانية، وفي المعنى الذي تعيشه تجاه الإنسان الآخر، وفي هذا الانفتاح على الواقع كلّه، وأن ندرس الجانب الروحي الذي كانت تعيشه مع الله سبحانه وتعالى، إضافةً إلى الجانب الحركي في حركتها الثقافية والجهادية.
لذلك عندما نستوحي كلمة أنّها «سيِّدة نساء العالمين»، فلأنّها تجمع عناصر الشخصية التي تتميّز بها المرأة وترتفع بها حتى تكون في مواقع القمّة، لأنّ قضية أن تكون سيِّدة نساء العالمين، ليست مجرد مرتبة تُعطاها دون أن تملك عناصرها في شخصيّتها، ولكنّها مرتبة تُعطاها من خلال ما يعرفه الله سبحانه وتعالى الذي خلقها من عناصر هذه الشخصية.
ولم يكن اصطفاء الله تعالى لأنبيائه ولأوليائه وللنِّساء اللاتي كرّمهنّ ينطلق من فراغ، بل كان اصطفاءً ينطلق من الخصائص التي تقرّب هؤلاء إلى الله، وتجعلهم في المستوى الذي يملكون فيه حمل الرسالة وتجسيد القيم الروحية في الحياة.
وقد نستوحي من بعض الروايات التي وردت عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) أنّها كانت صدّيقة شهيدة، أنّه كان يستوحي ما تحدّث الله به في القرآن عن الصدّيقين والشهداء، وهم الذين يتولّون الشهادة على الناس، فنحن نستوحي من هذه الرواية، أنّها كانت من الصدّيقين الذين يعيشون الصدق مع النفس ومع الله ومع الناس، وأنّها كانت من الشهداء الذين يشهدون على الناس في خطّ الرسالة كما هم الأنبياء، وكما هم الأولياء الذين اصطفاهم الله.
إنّ ذكر كلمة الشهيدة إلى جانب كلمة الصدّيقة يوحي بهذا المعنى، لأنّه يلتقي مع الإشارة القرآنية في الحديث عن الصدّيقين وعن الشهداء، وأنّ عظمة الموقع في إعطاء كلمة الشهادة معنى الشهادة على الناس، هو أعظم من الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله.
عمار كاظم
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية