يقول الإمام الحسين عليه السلام: “أما بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً. ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أَذِنْتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتّخِذوه جملاً”.
من مواقف الأصحاب والآل الولائيّة:
إنّ هذه الرواية عن الإمام السجّاد عليه السلام عن أبيه الإمام الحسين عليه السلام، لهي شهادة من إمامٍ معصوم، شأنه شأن جدّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الصدق والأمانة، وعدم النطق عن الهوى، شهادة إلهيّة سامية، لم يُعطِ مثلَها لأحدٍ من معصوم، وهي تدلّ على جوهر هذه القلّة القليلة ومعدنهم الطاهر الولائيّ لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وفيما يأتي نذكر بعض هذه المواقف الولائيّة، المطيعة لله ورسوله ووليّه:
1- موقف مسلم بن عوسجة:
قام إليه مسلم بن عوسجة، فقال: “أنخلي عنك، ولَمَّا نُعذَرْ إلى الله سبحانه في أداء حقِّك؟! أَمَا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة. والله، لا نُخْلِيْكَ حتى يعلمَ الله أنْ قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك. والله، لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة! ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا”2.
إنّ عبارة “ولَمَّا نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقِّك” فيها دلالة واضحة على إيمان مسلم بن عوسجة، واعتقاده بالسلسلة الهرميّة للولاية. فهو، بتعبيره هذا، يدلّ على معرفته التامّة بأنّ طاعة الوليّ هي طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ يجسّد هذه المعرفة والوعي بالتسليم المطلق عندما يصوّر فرضيّة قتله وحرقه وأنّه لو فعلوا هذا به سبعين مرّة لما فارق الحسين عليه السلام.
2- موقف زهير بن القين:
قام زهير بن القين البجليّ رحمة الله عليه فقال: “والله، لوددتُ أنّي قُتِلت ثمّ نُشِرت ثمّ قُتِلت، حتى أقتل هكذا ألفَ مرّة، وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك”3.
3- محمّد بن الحضرميّ:
“قيل لمحمد بن الحضرمي (وهو مع الحسين في كربلاء): أُسر ابنك بثغر الريّ.
قال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحبُّ أنْ يُؤسر، ولا أن أبقى بعده.
فسمع قوله الحسين عليه السلام، فقال له: “رحمك الله! أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك”.
قال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك”4.
4- موقف القاسم:
القاسم بن الحسن المجتبى بن أمير المؤمنين عليهم السلام، غلام لم يبلغ الحلم، كان على علمٍ بشهادته يوم العاشر من المحرّم، وجوابه لعمّه ليلة العاشر يدلّ على الوعي والإدارك والولاء المطلق، عندما سأله أبو عبد الله عليه السلام عن طعم الموت:
“قال له القاسم بن الحسن: وأنا فيمن يقتل؟
فأشفق عليه، فقال له: “يا بنيّ، كيف الموت عندك؟!”.
قال: يا عمّ، أحلى من العسل.
فقال: “إي والله، فداك عمّك! إنّك لأحد من يقتل من الرجال معي، بعد أن تبلو ببلاء عظيم، وابني عبد الله”5.
الولاية المطلقة لإمام زمانهم عليه السلام
لقد أجاز الإمام الحسين عليه السلام أصحابه، وأعطاهم الرخصة بالذهاب ليلة العاشر من المحرّم، كما يظهر في الرواية التي ذُكرت في المقدّمة، وهو إمام معصوم، لا يتكلّم عبثاً ولغوا، كما أنّه طلب منهم أن يأخذوا أهل بيته معهم، فكان جوابهم خير دليلٍ على ولائهم المطلق وتسليمهم التامّ، حيث أبَوا أن يخذلوه طرفة عين أبداً، فهم لا يرون للحياة قيمة من دونه، ويعتبرون الجهاد بين يديه والشهادة أمام عينيه شرفاً وكرامةً وعزّاً لا يناله إلا ذو حظٍّ عظيم.
لقد خاطبهم عليه السلام قائلاً: “إنّ هؤلاء يريدونني دونكم، ولو قتلوني لم يُقبِلوا إليكم، فالنجاة النجاة، وأنتم في حلّ، فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلكم”.
فقالوا: لا نخذلك، ولا نختار العيش بعدك”6.
صفات الأصحاب والآل الولائيّة
لقد امتاز أصحاب الإمام الحسين عليه السلام بصفات ومزايا كثيرة، نذكر منها ما يدلّ على ولائهم المطلق لإمام زمانهم، ويقينهم وتسليمهم التامّ.
1- الوعي:
لم تكن المواقف الكربلائيّة، ليلة العاشر ويومه، نابعةً من عواطف جيّاشة فحسب، بل إنّها كانت ترتكز على معرفة يقينيّة قاطعة، تعتبر أنّ الطاعة لوليّ الأمر، حتى لو كان فيها بذلٌ للأرواح، هي السبيل الوحيد لحفظ الدين والإسلام، لذلك تراهم يرفضون أيّ أمانٍ يضمن لهم نجاتهم وحياتهم، ويصدّون أيّ خوف يمنعهم من الوصول إلى غايتهم، فترى الأحاسيس والعواطف تتحوّل إلى إدراك ووعي على مستوى الرسالة والقضيّة.
فهذا العبّاس بن عليّ عليهم السلام، نافذ البصيرة، يردّ أمان الشمر قائلاً: “لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!” وفي رواية: فناداه العباس بن أمير المؤمنين عليهما السلام: “تبّت يداك، ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله. أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة، وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!”7.
وهذا زهير بن القين، يخاطب الشمر حين هدّده ورماه بالسهم، فيقول: “أبالموت تخوّفني؟! فواللَّه، لَلموتُ أحبُّ إليّ من الخلد معكم”8.
2- الإخلاص:
إنّ من أهمّ المزايا والصفات التي اتّصف بها الأصحاب في كربلاء، هو الإخلاص بأرقى معانيه، فتراهم حين اشتدّ البأس، وعاينوا الحتوف والمنايا، ثبتوا مخلصين موقنين. فهذا عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، الذي خاطب الإمام عليه السلام، قائلاً: “أمّا بعد، فإنّي لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرَّك منهم. والله أحدّثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلّن معكم عدوّكم، ولأضربّن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله”9.
إنّ عبارة “لا أريد بذلك إلا ما عند الله”، لهي خير شاهد على نوايا هؤلاء الأصحاب، عبد الله عليه السلام، وهذا ما عبّر عنه حبيب بن مظاهر حيث قال: “رحمك الله! قد قضيت ما في نفسك بواجزٍ من قولك”، ثمّ قال: “وأنا، والله الذي لا إله إلا هو، على مثل ما هذا عليه”10.
نعم، هذا هو الإخلاص لله تعالى الذي لا يكون إلا برضى وليّه عليه السلام، هذا هو الإخلاص الذي يبيع الدنيا وحطامها بالنعيم الأبديّ في جنان الخلد مع الأولياء.
3- التفاني:
إنّ مواقف التفاني في كربلاء كثيرة وعديدة، وكلٌّ عبّر عن ذلك بأسلوبه وبيانه. هذا الأسلوب والبيان الذي يستخدم فيه الأعداد والتكرار ليدلّ على قصور الألفاظ عن إدراك ما يختلج في صدره من مشاعر وأحاسيس، فتراهم يعبّرون (سبعين مرّة، ألف مرّة…).
4- الحزم والإرادة الصلبة:
وخير شاهد ودليل على هذه الميزة والصفة، ما حصل ليلة العاشر من محرّم، مع حبيب بن مظاهر وباقي الأصحاب أمام مخيّم عقيلة الهاشميين السيدة زينب عليها السلام، حيث نادى حبيب أصحابه، عندما علِم من نافع بن هلال بأنّ السيدة زينب عليها السلام وباقي النساء في حال وجلٍ ورعب: “يا أصحاب الحميّة، وليوث الكريهة، هذا نافع بن هلال يخبرني الساعة بكذا وكذا، فأخبروني عن نيّاتكم. فجرَّدوا صوارمهم، ورموا عمائمهم، وقالوا: أما والله يا بن مظاهر، لئن زحف القوم إلينا لنحصدنّ رؤوسهم، ولنلحقهم بأشياخهم، ولنحفظنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته وذريته”.
فقال لهم حبيب: معي معي.
فقام يخبط الأرض بهم، وهم يعْدُون خلفه، حتى وقف بين أطناب الخيم، ونادى: “السلام عليكم يا ساداتنا، السلام عليكم يا معشر حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلّا في رقاب من يبتغي السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها إلّا في صدور من يفرّق بين ناديكم”11.
ويكفي في الدلالة على هذه الميزة ما قاله الإمام الحسين عليه السلام لأخته الحوراء زينب عليها السلام، التي سألته قائلةً: “يا بن أمّي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخاف أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة”، فبكى الحسين عليه السلام، وقال: “أما والله لقد بلوتهم، فما رأيت فيهم إلا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن أمّه”12.
5- التجسيد العمليّ للمواقف:
كثيرة هي المواقف التي لم تخرج من حيّز الكلام والتنظير إلى حيز الواقع والتطبيق العمليّ في التاريخ. لقد أثبت أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء صدقهم من خلال دمائهم وأرواحهم التي رخصت أمام إمام زمانهم، فكانوا خير من أبلى بلاءً حسناً في الامتحان الإلهيّ الكبير على تلك الأرض الطاهرة، فترى أصواتهم وصيحاتهم ومواقفهم تعانق أجسادهم المطروحة على رمضاء كربلاء، تشهد لهم تلك البقعة التي ارتوت من دمائهم، ونسائم الهواء الذي تعطّر بعبق تلك الدماء.
هذا غيض من فيض، وشيء من تلك السمات والميزات التي سطعت يوم العاشر من المحرّم، لتسطّر أعظم تضحية ولائيّة في تاريخ البشريّة.