عن الإمام علي عليه السلام: “ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً، يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، إلا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع اجتهاد، وعفّة وسداد”.
مدخل
إنّ من أعظم الخصال التي يتخلّق بها المسلم وتكون منهجه في حياته عفّته عن محارم الله الذي تساهل به الكثير. والجنّة التي يتمنّى كل مؤمن أن ينالها محفوفةٌ بالمكاره، ولن تنالها بتوفيق الله إلا النفوس العفيفة الطّاهرة، ولن تكون النّفوس طاهرةً إلا بالاستقامة على طاعة الله ومخالفة الهوى ومصارعةِ الشّهوات والبعد عن الفحشاء والمنكر. ولذا، أمر الله بالعفّة، فقال مخاطبًا من ينوي الزّواج: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾1. فمن كان غير قادر على النكاح لقصور النفقة أو أخرى، فعليه بالعفّة عن محارم الله ليفتح الله عليه باب الحلال وييسّره له. وإذا كان من لم يتزوّج مأموراً بالعفاف، فالمتزوّج أيضًا من باب أولى.
معنى العفّة
تقع “العفّة” في النقطة المقابلة لـ “شهوة البطن والفرج”، وتعتبر من أهمّ الفضائل الإنسانية والأخلاقية على السواء. وقد تحدّث اللغويون في معنى العفّة كثيراً، وخلاصتها أنّ العفّة حصول حالة للنفس تمتنع بها من غلبة الشهوة، وتحفظها من الميول والشهوات النفسانية. وعلى هذا، فالعفّة صفة باطنية، وقد ذكر علماء الأخلاق في تعريف العفّة أنّها الحدّ الوسط بين الشهوة والخمود.
قيمة العفّة في الإسلام
المستفاد من آيات القرآن الكريم والروايات الإسلامية أنّ العفّة تعدّ من أعظم الفضائل الأخلاقية والإنسانية، ولا يمكن لأيّ شخص أن يسير نحو الكمال الإلهي من دون التحلّي بها، ونجد في حياتنا الدنيوية أنّ كرامة الإنسان وشخصيته وسمعته رهينة بالتحلّي بهذه الفضيلة الأخلاقية2، قال الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾3.
ولقد تحدّثت الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام عن قيمة العفّة، وكونها صفة إنسانية وخلقية ينبغي أن يهتمّ بها الإنسان في تربيته لنفسه، وسلوكه مع الآخرين، وذلك لما يترتّب على سجيّة العفّة من الآثار حتى وضعت العفيف بمنزلة الملائكة، ووصف العفاف بأنّه أفضل من العبادة. عن الإمام علي عليه السلام: “أفضل العبادة العفاف”4، وعنه عليه السلام في وصيّته لمحمد بن أبي بكر، لمّا ولاه مصر: “يا محمد بن أبي بكر، اعلم، إنّ أفضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته…”5.
وعنه أيضاً: “ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممّن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة”6. وهي أفضل شيمة، وعنه عليه السلام: “العفّة أفضل الفتوّة”، وعنه عليه السلام: “زكاة الجمال العفاف”7، وعنه عليه السلام: “والعفاف زينة الفقر”8.
الحثّ على عفّة البطن والفرج
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾9.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أحبّ العفاف إلى الله تعالى عفاف البطن والفرج”10.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: “ما عُبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج”11.
وعن الإمام علي عليه السلام: “إذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه“12.
فمن الواضح أنّه من أهمّ الآثار التربوية للعفّة حفظ الجوارح عن محارمِ الله، فيحفظ بصرَه عن النّظرِ إلى ما حرّم الله النّظرَ إليه، قال تعالى: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾13. وكذلك يحفظ لسانه من الخضوع بالقول، قال جلّ وعلا مخاطبًا نساء النبيّ: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾14، ويحفظ سائر جوارحه، وجاء: “لأَن يُطعَنَ في رأسِ أحدِكم بمِخيَطٍ من حديدٍ خيرٌ لهُ مِنْ أن يَمَسَّ امرأةً لا تَحِلُّ لهُ”15.
ومن أسباب العفّة الزواج المبكّر، فإنّ إرواء الغريزة مبكّرًا يحول بين المرء وبين المعاصي بتوفيق الله، وفي الحديث: “يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وِجَاء”16.
ومن أسباب المحافظة على العفّة عدم الخلوة بالمرأة الأجنبيّة التي ليست من محارمك، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: “إيّاكم والدخولَ على النّساء”، قال رجلٌ: يا رسول الله، أرأيت الحمو أخو الزّوج؟ قال: “الحمو الموت”، وقال: “ما خلا رجلٌ بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما”، ونهى أن يدخلَ الرجلُ على المرأة إلا بمحرم ولا يخلو بها إلّا بمحرم.
ومن أسباب العفّة بتوفيق الله تركُ التبرّج وبقاءُ المرأة في بيتها، إلاعندما يدعو داعٍ إلى أمر ما، يقول جلّ وعلا: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾17.
العفاف صفة يحبّها الله
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الله يحبّ الحييّ المتعفّف، ويبغض البذي السائل الملحف”18. وعن الإمام علي عليه السلام في صفة المتّقين: “حاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة”19.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: “اللهمّ، إني أسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى!”20.
شعب العفاف وآثاره
للعفاف العديد من الشعب، منها:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أمّا العفاف: فيتشعّب منه الرضا، والاستكانة، والحظّ، والراحة، والتفقّد، والخشوع، والتذكّر، والتفكّر، والجود، والسخاء، فهذا ما يتشعّب للعاقل بعفافه رضى بالله وبقسمه”21.
وأمّا من ناحية الآثار، فللعفّة آثار عديدة، منها:
– القناعة: القناعة أحد أهم أصول العفاف، عن الإمام علي عليه السلام: “على قدر العفّة تكون القناعة”22.
– الغيرة: عن الإمام علي عليه السلام: “دليل غيرة الرجل عفّته”23.
– الصبر على الشهوات: وعنه عليه السلام: “الصبر عن الشهوة عفّة، وعن الغضب نجدة”24، وعنه عليه السلام: “العفّة تضعف الشهوة”25.
– زكاة الأعمال: وعنه عليه السلام: “بالعفاف تزكو الأعمال”26.
معوّقات العفّة وموانعها
إنّ العفّة هي برنامج حياة وخلق وأدب، يجب أن يتحلّى بها من أراد السموّ والمروءة، وما تماسك المجتمعات والأسر إلّا بوجود العفّة القوية الراسخة في ذلك المجتمع. وإنّ من أسباب تفكّك المجتمعات والأسر، هو ضياع العفّة وضعفها، وكثرة الابتذال، والتحلّل من القيود والضوابط الدينية، بلا فرق بين الفقهي، والأخلاقي، والاجتماعي والمالي منها، وأكثر ما يؤدّي إلى الابتذال وضعف العفّة أو عدم وجود العفاف، هو:
– وسائل الإعلام وما تقدّمه من سموم عبر شاشاتها المختلفة.
– حملة الإفساد الموجّهة للمرأة، وتزيين الفاحشة لها، وذلك بالدعوة للتبرّج والسفور، وترك الحجاب.
– تأخّر الزواج عند الشباب، وذلك بسبب صعوبة المعيشة وارتفاع المهور.
– قلّة الورع، وقلّة الأمانة، وعدم المبالاة بالحلال والحرام.
– دعاة الفجور ودعاة التحلّل من القيم والفضائل، إنّما غرضهم أن يصبغوا المجتمع المسلم بصبغةٍ غير إسلامية وأن يحوّلوا المجتمع المحافظ على دينه وأخلاقه وقيمه إلى مجتمعٍ منهار القيم والأخلاق.
– أعداء الشريعة الذين يروّجون للتحلّل من القيم والفضائل، ولهم شُبَهٌ يدلون بها، فيقولون إنّه لا بدّ من إعطاء النّفس مُناها وترفيهها وجعلها ترى وتشاهد ما تفرّج به همومها، وهذا كلّه من المغالطات، فإنّ مقصودهم بذلك فتح الشرّ على مصراعيه وعدم الغيرة على محارم الله.
– ومن أهمّ المعوّقات للعفّة الفساد الإعلاميّ في كثير من القنوات الباطلة التي تضيع فيها العفّة وتعلو فيها الرذيلة، هذه القنوات والمنتديات التي توجّه سمومها ضدّ القيم والأخلاق فتضيع العفّة وتنتشر الرّذائل.
ومن أسباب ذلك أيضًا انخداع بعضهم واغتراره بما عليه الأعداء من فسادٍ في أخلاقهم وقيمهم، ينظر الى فساد الأخلاق والقيم فيغترّ بذلك، ولا ينظر الى ما أصابهم من التهوّر وما أصابهم من الأمراض الفتّاكة التي حارت بها عقولهم وضعفت بها نفوسهم وأصبحوا يعانون من تلك الأمراض والأوبئة ما أقاموا لأجله المستشفيات وأنفقوا الأموال الطائلة ليعالجوا تلك الأمراض الفتّاكة التي حلّت بهم.
– ومن ذلك أنّ بعضهم يقول إنّ المرأة أو الشاب أو الشابّة لا بدّ أن يمضوا شبابهم في عدم التقيّد، وهذا كلّه من المصائب، فإنّ من نشأ على شيءٍ شاب عليه ومن شاب على شيءٍ مات عليه، فلا بدّ من المحافظة على القيم والمحافظة على الأخلاق.
– إنّ الإختلاط بلاءٌ عظيم، سواءٌ أكان اختلاطاً عامّاً أم خاصّاً، فالاختلاط بين الجنسين في ميادين العمل من أعظم وصمة على الإسلام وأهله، بل هو يفتح باب الشرّ على مصراعيه.
– إنّ الإختلاط بين الجنسين يقضي على الحياء والفضيلة والعفّة والشرف والكرامة، ويزحزح أمن المجتمع، ويدمّر الأخلاق والفضائل. وهو جريمةٌ لا يرضى بها من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، يرفضها كلّ مسلم ولا يرضاها لنفسه ولا لبناته ولا لأخواته ولا لواحدة من المسلمات، فالاختلاط سواءٌ كان عامّاً أو حتّى بين العوائل، الاختلاط بين غير المحارم أمرٌ منهيٌّ عنه، فلا بدّ للمسلمين من الحفاظ على سلوكهم والمحافظة على أعراضهم، والاعتقاد أنّ الاختلاط جريمة نكراء وبليّة من البلايا ما يليه. وبناءً عليه، لا بدّ من التذكير بما يحصّن النفس، ويصحّح السلوك ويقوّمه من خلال أمور:
– الحرص على عفّة الجوارح: المسلم يعفّ يده ورجله وعينه وأذنه وفرجه عن الحرام، فلا تغلبه شهواته، وقد أمر الله كلّ مسلم أن يعفّ نفسه ويحفظ فرجه، قال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾27.
– الحرص على عفّة الجسد: فعلى المسلم أن يستر ما بين سرّته إلى ركبتيه، وعلى المسلمة أن تلتزم بالحجاب، لأنّ شيمتها العفّة والوقار، قال الله – تبارك وتعالى -: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾28، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمً﴾29.
وحرَّم الإسلام النظر إلى المرأة الأجنبية، وأمر الله المسلمين أن يغضّوا أبصارهم، فقال: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾30. وقال تعالى: ﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾31.
– العفّة عن أموال الغير، وعفّة المأكل والمشرب: المسلم عفيف عن أموال غيره لا يأخذها بغير حقّ.
ويمتنع عن وضع اللقمة الحرام في جوفه، وكلّ لحم نبت من حرام فالنار أولى به، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾32.
كلمة من القلب
أيّها العزيز، إنّ من أسباب العفّة إقامة حدود الله، فإنّ إقامة حدود الله تُذكّر المجرم بآلامها فتردعُ من يريد السوء والفساد.
أيّها المسلم، إنّ تقوى الله جلّ وعلا خير رادعٍ عن المعاصي وواقٍ عن المحرّمات، والإيمان القويّ يُحدث في القلب خوف الله والحياء منه وتذكّر الدار الآخرة، فكلّما تذكّر عظمة الله خاف من ربّه، وكلّما تذكّر نِعم الله استحيا من ربّه، وكلّما تذكّر الآخرة دعاه إلى ترك الشهوات والإقبال على الله بالأعمال الصالحة ومخالفة هوى النّفس الدّاعية إلى السوء.
أيّها المسلم، وإنّ ثمار العفّة كثيرة، فمن أعظم ثمار العفّة سلامة المجتمع من هذه الأمراض الخطيرة، سلامة المجتمع من هذه الفواحش والبُعد عنها ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيل﴾33، سلامة المجتمع من أضرارها الخطيرة المترتّبة على فشوّها من الأمراض الخطيرة التي تؤذِن بدمار المجتمع وفساده.
ومن ثمار العفّة أيضًا نقاء المجتمع وسلامته وأمنه واستقراره، فلا ترى متبرّجةً ولا متسكّعًا من الشباب، بل يكتفي الإنسان بما أباح الله له عمّا حرّم عليه.
* كتاب أنوار الحياة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية