انتهت مراسم دفن السيدة الزهراء (ع) بسرعة خوفاً من انكشاف أمرهم وهجوم القوم عليهم، فلمّا نفض الإمام يده من تراب القبر هاج به الحزن لفقد بضعة الرسول وزوجته الودود التي عاشت معه الصفاء والطهارة والتضحية والإيثار، وتحمّلت من أجله الأهوال والصعاب، فأرسل دموعه على خدّيه، وحوّل وجهه إلى قبر رسول اللهصلى الله عليه وآله ثم قال:” السلام عليك يا رسول الله عنّي، والسلام عليك عن ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك والبائنة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وعفى عن سيدة نساء العالمين تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسي لي بسنَّتك في فرقتك موضع تعزي، فلقد وسدتُك في ملحودة قبرك بعد أن فاضت نفسك بين نحري وصدري، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي. بلى، وفي كتاب الله لي أنعم القبول، إنّا لله وإنّا اليه راجعون، قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله!
أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد، لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار الله دارك التي أنت فيها مقيم، كَمَدٌ مقيّح، وهم مهيّج، سرعان ما فرّق الله بيننا وإلى الله أشكو، وستنبئك ابنتك بتضافر اُمّتك عليَّ، وعلى هضمها حقّها فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين، والسلام عليكما يا رسول الله سلام مودّع لاسئم ولا قال، فإن أَنصرف فلا عن ملالة، وإن أُقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصابرين، والصبر أَيمن وأجمل.
ولو لا غلبة المستولين علينا لجعلتُ المقام عند قبرك لزاماً، والتلبّث عنده عكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً، ويهتضم حقّها قهراً، ويمنع إرثها جهراً ولم يطل منك العهد، ولم يخلق منك الذكر، فإلى الله ـ يا رسول الله ـ المشتكى، وفيك ـ يا رسول الله ـ أجمل العزاء، فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته”10.
محاولة نبش القبر
أصبح الصباح من تلك الليلة فأقبل الناس ليشيّعوا جنازة الزهراء عليها السلام فبلغهم الخبر أنّ عزيزة رسول الله صلى الله عليه وآله قد دفنت ليلاً وسراً.
وكان الإمام عليّ عليه السلام قد سوّى في البقيع صور قبور سبعة أو أكثر، وحيث إنّ البقيع كان في ذلك اليوم وإلى يومنا هذا مقبرة أهل المدينة ولهذا أقبل الناس إلى البقيع يبحثون عن قبر فاطمة عليها السلام فاُشكل عليهم الأمر ولم يعرفوا القبر الحقيقي لسيّدة نساء العالمين، فضجّ الناس، ولام بعضهم بعضاً وقالوا: لن يخلف نبيّكم إلاّ بنتاً واحدة، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها ولا تعرفون قبرها، فقال بعضهم: هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نخرجها فنصلي عليها.
وصل خبر محاولات القوم لنبش القبر إلى الإمام عليّ عليه السلام فلبس القباء الأصفر الذي كان يلبسه في الحروب، وحمل سيفه ذا الفقار وقد احمرّت عيناه ودرّت أوداجه من شدة الغضب، وقصد نحو البقيع.
سبقت الأخبار عليّاً إلى البقيع، ونادى مناديهم: هذا عليّ بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه، يقسم بالله لئن حُوّل من هذه القبور حجر ليطعن السيف في رقاب الآمرين، فقال رجل: ما لك يا أبا الحسن والله لننبشنّ قبرها ولنصلّين عليها؟ فضرب عليّ عليه السلام بيده إلى جوامع ثوب الرجل وهزّه ثم ضرب به الأرض، وقال له: ” يابن السوداء أَمّا حقي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم، وأمّا قبر فاطمة فوالذي نفس عليّ بيده لئن رُمتَ وأصحابك شيئاً من ذلك لأسقينّ الأرض من دمائكم “.
فقال أبو بكر: يا أبا الحسن بحقّ رسول الله وبحقّ فاطمة إلاّ خلَّيت عنه، فإنّا غير فاعلين شيئاً تكرهه. فخلى عنه وتفرّق الناس11.
تأريخ شهادتها عليها السلام
لا شك أنّ وفاة الزهراء عليها السلام كانت في السنة الحادية عشرة من الهجرة، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله حجّ حجّة الوداع في السنة العاشرة، وتوفّي في أوائل السنة الحادية عشرة، واتّفق المؤرّخون على أنّ السيّدة فاطمة عليها السلام قد عاشت بعد أبيها أقلّ من سنة، علماً بأنّها كانت في ريعان شبابها كما كانت في أتمّ الصحة في حياة أبيها، نعم اختلفوا في يوم وشهر وفاتها اختلافاً شديداً.
فقد روي أنّها عاشت بعد النبيّ صلى الله عليه وآله ستة أشهر. وقيل: خمسة وتسعين يوماً. وقيل: خمسة وسبعين يوماً أو أقلّ من ذلك.
فعن الإمام الصادق عليه السلام:“أنها قبضت في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه، سنة إحدى عشرة من الهجرة”12.
وعن الإمام الباقر عليه السلام:” وتوفّيت ولها ثماني عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً “.
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري:وقبض النبيّ ولها يومئذ ثماني عشرة سنة وسبعة أشهر13.
قال أبو الفرج الإصفهاني: وكانت وفاة فاطمة الزهراء عليها السلام بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله بمدّة يختلف في مبلغها، فالمكثر يقول ستة أشهر، والمقلّ يقول أربعين يوماً، إلاّ أنّ الثابت في ذلك ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّها توفيت بعد النبيّ بثلاثة أشهر14.
وهكذا انتهت حياتها الزاخرة بالفضائل والمناقب والمواقف المبدئية المشرفة، فالسلام عليها يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيةً ورحمة الله وبركاته.