نعود إلى الجزء المهم المهمل في رواية جابر- هل ذكر الإمام الباقر (عليه السلام) في التوراة؟
في تصوري إن هناك جزء مهم في رواية جابر-بنصها الأول الذي ذكرناه نقلاً عن علل الشرائع- أغفله تقريباً أغلب إن لم يكن كل من تحدثوا عن اللقب!
هذا الجزء هو عبارة: ” يا جابر إنك ستبقى حتى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف في التوراة بباقر”.
فهل لقب الباقر مشتق من اسم في التوراة؟ مع ملاحظة إنه هنا مذكور دون “أل التعريف”.
الكلام عن ذكر أسماء الأئمة في التوراة ليس بجديد ولن نخوض في تفاصيل ذلك ولكن مما ورد بشأن ذلك القول بأن “علي” مذكور في التوراة بـ “إيليا” وإن “الحسن” والحسين” مذكوران باسم “شبر” و “شبير” ولن نناقش أدلة ذلك لأنها فصلت في محلها ولكن نريد القول من ذكر ذلك بأن الأمر ليس بجديد ولا غريب.
فما هو الاسم المذكور في التوراة الذي اشتق منه لقب “باقر” وهل من مناسبة بينهما؟
من الصعب الجزم بالأمر لعدم وجود نص كاشف بدقة عن الأمر، ولكننا سنحاول البحث عن أقرب الاحتمالات وعلى نفس طريقة شبر وشبير فنتوقع أن يكون الاسم من هذه الشاكلة.
عند البحث عن كلمة “باقر” لم نجد لها وجود في التوراة-طبعاً هنا المقصود النص الموجود لها حالياً وبحسب ترجمته إلى العربية- وكانت النتيجة متوقعة إذ لم نكن نتوقع أن نجد الاسم بنصه وبنفس لفظه “باقر” ولذا بحثنا عن أقرب الاحتمالات في اللفظ وتغير لفظ الأحرف فكان الاسم المرجح هو “باكر” فعند البحث وجدنا الآتي:
إن كلمة “باكر” تكررت في التوراة ست مرات موزعة على ثلاثة نصوص في ثلاثة أسفار مختلفة وبالنصوص الآتية:
1- “اِبْنَا رَاحِيلَ امْرَأَةِ يَعْقُوبَ: يُوسُفُ وَبَنْيَامِينُ. وَوُلِدَ لِيُوسُفَ فِي أَرْضِ مِصْرَ: مَنَسَّى وَأَفْرَايِمُ، اللَّذَانِ وَلَدَتْهُمَا لَهُ أَسْنَاتُ بِنْتُ فُوطِي فَارَعَ كَاهِنِ أُونٍ. وَبَنُو بَنْيَامِينَ: بَالَعُ وَبَاكَرُ وَأَشْبِيلُ وَجِيرَا وَنَعْمَانُ وَإِيحِي وَرُوشُ وَمُفِّيمُ وَحُفِّيمُ وَأَرْدُ. هؤُلاَءِ بَنُو رَاحِيلَ الَّذِينَ وُلِدُوا لِيَعْقُوبَ. جَمِيعُ النُّفُوسِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ”. (التوراة-سفر التكوين-الإصحاح 46- من 19 إلى 22).
2- “وَهؤُلاَءِ بَنُو أَفْرَايِمَ حَسَبَ عَشَائِرِهِمْ: لِشُوتَالَحَ عَشِيرَةُ الشُّوتَالَحِيِّينَ. لِبَاكَرَ عَشِيرَةُ الْبَاكَرِيِّينَ. لِتَاحَنَ عَشِيرَةُ التَّاحَنِيِّينَ. وَهؤُلاَءِ بَنُو شُوتَالَحَ: لِعِيرَانَ عَشِيرَةُ الْعِيرَانِيِّينَ. هذِهِ عَشَائِرُ بَنِي أَفْرَايِمَ حَسَبَ عَدَدِهِمِ، اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ أَلْفًا وَخَمْسُ مِئَةٍ. هؤُلاَءِ بَنُو يُوسُفَ حَسَبَ عَشَائِرِهِمْ”. (التوراة-سفر العدد-الإصحاح 26- من 35-37).
3- “لِبَنْيَامِينَ: بَالَعُ وَبَاكَرُ وَيَدِيعَئِيلُ. ثَلاَثَةٌ. وَبَنُو بَالَعَ: أَصْبُونُ وَعُزِّي وَعَزِّيئِيلُ وَيَرِيمُوثُ وَعَيْرِي. خَمْسَةٌ. رُؤُوسُ بُيُوتِ آبَاءٍ جَبَابِرَةُ بَأْسٍ، وَقَدِ انْتَسَبُوا اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَةً وَثَلاَثِينَ. وَبَنُو بَاكَرَ: زَمِيرَةُ وَيُوعَاشُ وَأَلِيعَزَرُ وَأَلْيُوعِينَايُ وَعُمْرِي وَيَرِيمُوثُ وَأَبِيَّا وَعَنَاثُوثُ وَعَلاَمَثُ. كُلُّ هؤُلاَءِ بَنُو بَاكَرَ”. (التوراة، سفر أخبار الأيام الأول- الإصحاح 7- من 6 إلى 8).
مناقشة النصوص:
أولاً: بالنسبة لنص سفر التكوين فيتحدث عن عائلة يعقوب (عليه السلام) التي انتقلت لمصر، أما نص سفر العدد فيتحدث عن تعداد قبائل بني إسرائيل بعد الخروج من مصر، أما نص سفر أخبار الأيام الأول فيتحدث عن تعداد الأبناء مرة أخرى.
ثانياً: يبدو من خلال المقارنة بين النص الأول والثاني فنحن أمام شخصيتين توراتين باسم “باكر”، حيث في سفر التكوين ذكر “باكر” كثاني ابن لبنيامين، وفي سفر العدد ذكر “باكر” كابن لإفرايم ابن يوسف البكر، ولكن عند مراجعة تفسيرات التوراة فهم يحلون هذا التناقض بقولهم إن باكر ذكر في سفر العدد على “إنه من سبط إفرايم لأنه اقترن بزوجة من إفرايم فنسب إليه ليكون لهُ حق الميراث لأن أصله بنياميني”. (بحث منشور في شرح سفر الأيام الأول للقس أنطونيوس فكري).
إذن فباكر هو شخص واحد لا شخصين وهو الابن الثاني لبنيامين.
ثالثاً: كلمة “باكر” وتكتب بالإنجليزية “Becher” وتلفظ “باكر” أو “بيشر” أو “بيكر” ولا زالت مستخدمة إلى الآن في الأسماء في اللغات الأوروبية تأثراً بالإرث التوراتي، أما بالعبرية الحديثة فتكتب “בכר” وتلفظ “باخر” أو “باخار” براء خفيفة ولا زالت تستخدم في الأسماء عندهم، ويبدو رسمها قريباً من رسم اسم “محمد” بالعربية ولكننا لن نخوض في ذلك رغم إن الموضوع يبدو مثيراً.
رابعاً: أصل اشتقاق كلمة “باكر” بالعبرية تعني نفس معناها بالعربية أي “الأبن البكر”، فلماذا سمي “باكر” الابن الثاني لبنيامين بذلك وهو ليس الابن البكر له؟!
في التقليد الحاخامي اليهودي يتم تفسير أسماء أبناء بنيامين على أساس إنه سمى كل واحد منهم على أمر متعلق بأخيه يوسف حباً به، فكان كمثال اسم الابن الأول “بالع” في إشارة إلى اختفاء يوسف أو ابتلاعه من قبل البئر أو الذئب، والابن الثاني “باكر” في إشارة إلى إن يوسف هو الأبن البكر لأمهم راحيل.
خامساً: إن عدد أبناء بنيامين يختلفون بين النص الأول والثالث فهم في الأول “عشرة أبناء” وفي الثاني “ثلاثة فقط”، فما الصحيح في الأمر؟
وجدت في بعض تفسيراتهم بأن العدد ثلاثة ولكن في النص الأول اضيف الأحفاد إلى الأبناء وهذا شائع في النصوص التوراتية.
سادساً: في سفر أخبار الأيام الأول الإصحاح الثامن-أي الإصحاح التالي مباشرة للإصحاح السابق الذي ذكر فيه اسم باكر- يعود لذكر أسماء أبناء بنيامين دون ذكر اسم “باكر” وهذا من عجائب التوراة!
سابعاً: لم ترد تفاصيل كثيرة عن باكر وأولاد بنيامين ولكن عشيرة(سبط) بنيامين كان لها دور مهم في التاريخ والجغرافية اليهودية، وقد يشار لسبطه وسبط يوسف على إنهم يمثلون “يهوذا” بينما الأسباط العشرة الباقية تمثل “إسرائيل”.
نقاط التشابه التي تقودنا للقول باحتمال إن “باكر” هو المقصود بذكر “باقر” في التوراة:
أولاً: التشابه اللفظي الواضح بين كلمة “باكر” بلغة التوراة و “باقر” باللغة العربية فالفرق بينهما حرف واحد فقط قد يتغير في اللفظ بين لغة وأخرى.
ثانياً: إن “باكر” وإن لم يكن الابن البكر لبنيامين ولكن اسمه مشتق من ذلك كما عرفنا، وكذلك عرفنا إن الإمام الباقر (عليه السلام) هو أول مولود هاشمي من هاشميين وعلوين من علويين وفاطمي من فاطميين، فهذا مورد تشابه وإن كان بوساطة.
ثالثاً: العلاقة الأخوية بين يوسف وبنيامين والتي قادت الثاني إلى تسمية أبناءه وفق أمور متعلقة بيوسف قد تكون له علاقة بكون اسم الإمام الباقر (عليه السلام) على اسم النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وكونه أول إمام يسمى على اسمه فضلاً عن الشبه بينهما.
رابعاً: لا ينفي اشتقاق “باقر” من “باكر” وجود أصل لغوي له في اللغة العربية ولهذا ورد في كل الروايات توضيح للمعنى المقصود “يبقر العلم بقراً” ولا ينافي واقعه الفعلي ومكانته العلمية بل يؤكدها فهو نبوءة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) واشتقاق قام به بنفسه ليكون مشتقاً من الأصل التوراتي من جهة وموافق للغة العربية من جهة أخرى ومطابق لحال الإمام الباقر (عليه السلام) وكاشف عن مكانته من جهة ثالثة.
خامساً: التشابه بين النبي محمد (صلى الله عليه وآله) والإمام الباقر (عليه السلام) في الاسم والشمائل وطريقة البشارة التي وردت بها رواية جابر قد تقود إلى القول بالتشابه في جوانب أخرى ومنها ذكره في التوراة، فقد ورد إن اسم النبي (صلى الله عليه وآله) في التوراة والإنجيل كما نص على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”(الأعراف: الآية 157). وقوله تعالى: “وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ”(الصف: الآية 6).
سادساً: الكلام في الذكر في التوراة والإنجيل والكتب السماوية عموماً بخصوص النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) أو وجود أصل سابق له كان في غالبه عن الأسماء “علي=إيليا”، “شبر=حسن”، “شبير=حسين”، ولكن بخصوص النبي (صلى الله عليه وآله) فقد ذكر في تفاسير الآيات الشريفة وفي الكتب التي بحثت ذكره (صلوات الله وسلامه عليه) في التوراة والإنجيل إنه جاء بالاسم وبالصفة، أما الإمام الباقر (عليه السلام) فالكلام في الرواية عن ذكر لقبه فقط مجرداً من أل التعريف “باقر” وفي التوراة فقط.
سابعاً: لا يمنع أن يكون الباقر (عليه السلام) ذكر بصفته في التوراة أو باسم آخر بمعانٍ قريبة من صفته ولكن الأمر يطلب بحث أطول في التوراة ونصوصها لإثباته أو نفيه ولكن المرجح عندنا كما ذكرنا إنه ذكر كاسم بدليل عدم وجود أل التعريف في رواية جابر “باقر”.
ثامناً: النسخة التي بين أيدينا من التوراة محرفة ولكن ليس بشكل كلي، كما إنها متوفرة بغير اللغة التي كتبت بها في الأصل وهي اللغة العبرية التوراتية أو اللغة العبرية الكلاسيكية وهي تختلف عن اللغة العبرية الحديثة كما إن الترجمات للتوراة كلها مرت عبر لغات وسيطة وهذا بدوره قد يغير الكثير من الألفاظ والكلمات وطريقة نطقها.
تاسعاً: عبارة ” المعروف في التوراة بباقر” يمكن منها ترجيح إن ما قلناه أعلاه صحيح ومحتمل لأن العبارة لم تتحدث بشكل مباشر عن الصفات ولا عن إن ما في التوراة واضح بأن المقصود به الإمام الباقر (عليه السلام) ولا على نحو بشارة به سلام الله عليه، بل تحدثت فقط عن إنه معروف في التوراة بباقر فقط، أي إن ما موجود في التوراة هو جذر اللقب فقط أو الاسم المشابه الذي أشتق منه اسم الباقر (عليه السلام).
الخلاصة إنه من المحتمل إن كلمة “باقر” مشتقة من لفظة “باكر” في التوراة لوجود مناسبة أو بضع مناسبات بعضها تحدثنا عنه وبعضها ربما خفي علينا وهي النص الأقرب المحتمل بين الاحتمالات في نسخة التوراة الحالية بل لا توجد احتمالا أخرى قريبة.
ما الفائدة من البحث؟ وما النتيجة قد تترتب عليه؟
الفائدة من البحث والنتيجة التي قد تترتب عليه هي اثبات صحة معجزة نبوية في الكشف عن وجود شخص (الباقر) قبل ولادته، والكشف عن بقاء جابر في الحياة لحين ذلك، والكشف عن تحقق لقاء الشخص(الباقر) بجابر رغم أهوال ذلك الزمان وفتنه، والكشف عن إمامته، والكشف عن بعض صفاته، والكشف عن مكانته العلمية، واختيار اسم له يناسب كل ذلك بلفظ عربي ويناسب ما مذكور في التوراة دون خلل.
رشيد السراي
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية