بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)
يرجى من سماحتكم الموقرة التفضل بالإجابة عن هذا الاستفتاء جزاكم الله خير جزاء المحسنين:
في الآونة الأخيرة ظهرت هناك عدة أفكار من قبل بعض الناس بخصوص الأيام التي نمر بها، ومن هذه الأفكار:
1- وجوب العمل بالتقية وترك العمل في فتن آخر الزمان وان يكون الإنسان جليس داره.
2- ترك الفقه والدروس الحوزوية لأنها تبعد الإنسان عن طريق الأخلاق الصحيح.
3- قراءة الكتب وعدم الرجوع إلى العلماء في الحوادث التي تقع، ومهمة الفقيه هي الفقه فقط لا غير.
4- عدم العمل في الوظائف التابعة للحكومة لأنها تؤدي إلى إعانة الظالم.
5- الابتعاد عن إقامة وحضور صلاة الجمعة والجماعة.
6- ترك الدراسة الأكاديمية والحوزوية.
بعض أبناء مدينة السماوة
بسمه تعالى
1- وجوب العمل بالتقية لا يعني الانزواء وترك الحبل على الغارب لأعداء الله تبارك وتعالى كي يفعلوا ما يشاؤون، وقد كان الأئمة (عليهم السلام) يعملون بالتقية ويؤكدون عليها ويقول الإمام (عليه السلام): (التقية ديني ودين آبائي)، أو (من لا تقية له لا دين له) ومع ذلك فقد ترشح من نشاطهم ما ملأ الخافقين، وقد أشرت إلى العشرات من أدوارهم المتنوعة في حياة الأمة في سلسلة محاضرات (دور الأئمة في الحياة الإسلامية)، فالتقية هي العمل بالممكن من دون أن يكون الثمن المدفوع أكثر من المثمن أي النتيجة الحاصلة والمرجوة، ولا تعني السلبية والانكماش والتقصير في العمل.
2- هذه مخالفة صريحة لأوامر أئمتنا (عليهم السلام) وأحاديثهم الموجودة في كتاب أصول الكافي وغيرها والتي منها (لوددتُ أن السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الدين) وكيف ينجو في الآخرة من لم يتفقه في أمور دينه ويعرف معالم الحلال والحرام حتى ورد (التاجر فاجر ما لم يتفقه في دينه) وهو معنى غير خاص بالتجار بل كل شريحة اجتماعية عليها أن تتفقه في الأحكام التي تتعلق بها كأفراد وكمهنة.
وأما الدراسة الحوزوية فإنها من أوسع الأبواب لطاعة الله تبارك وتعالى لما فيها من الفرص الكثيرة للعمل الإسلامي المبارك، وإذا تخلى عنها الإنسان فما هي الفرصة الأفضل منها، وإذا وجد بعض الانحراف في سلوك بعض طلبة الحوزة فهذا لا يعني أنها فقدت مصداقيتها لأننا نعرف أن عدداً من الجهلة والمنافقين وطلاب الدنيا وعملاء الطواغيت ارتدوا الزي الديني لخدمة أهداف أسيادهم ولتشويه صورة الحوزة العلمية الشريفة وهي منهم براء، ويوجد لي بيانان تفصيليان عن الموضوع نُشِرا في كتاب (الحوزة وقضايا الشباب).
3- قيل مثل هذا الكلام قديماً لأمير المؤمنين (عليه السلام) بأننا نكتفي بالقرآن ولا حاجة إلى قائد أو إمام أو فقيه فدفع إليهم نسخة من المصحف مغضباً وقال: ها هو القرآن فاستنطقوه هل تجدون به انتم وأمثالكم حلاً لمشكلاتكم وخلافكم، ولو كان فيه كل ذلك فلماذا اختلفتم معنا حتى صرنا إلى القتال ويلكم إنما يحتاج القرآن إلى من ينطق به ليوصل تعاليمه إلى الناس وإلا لما احتجنا إلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أصلا ولا الأئمة المعصومين ليبينوا لنا مفاهيمه وهكذا كل الكتب تحتاج إلى من يعلمها ويعمل بها فلا بد من الرجوع إلى الفقيه العادل امتثالاً لأوامرهم (عليهم السلام) (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم) وعنوان الحوادث الواقع شامل -كما هو واضح- لكل الوقائع الفردية والاجتماعية وفي خطاباتنا المتعددة توضيح ذلك.
4- أجبنا عن مثل هذا السؤال وقلنا إن انسحاب المؤمنين من المواقع الوظيفية يعني إخلاءها إلى الفسقة وعبيد الدنيا ليفسدوا ويأكلوا مال الله دولا ويتخذوا عباد الله خولا كما ورد الحديث في حق بني أمية وأضرابهم، فالصحيح هو مباشرة الوظائف التي فيها نفع الأمة وحماية مصالحها وإقامة النظام الاجتماعي العام مع مراعاة الحدود الشرعية والحذر من الوقوع في المعصية وان لا يستولي حب الموقع أو أي شيء من حطام الدنيا الفانية على قلب المؤمن.
5- هذا تعطيل لأهم السنن والفرائض الإلهية المقدسة وقد نبهنا إلى بركاتها الواسعة في كتاب (شكوى المسجد).
6- وهذا خلل آخر في التفكير يلزم منه تعطيل الحياة بدل إعمارها الذي جعله الله تبارك وتعالى من وظائف الإنسان [وَاستَعمَرَكُم فِيهَا].
وأعتقد أن هذه الأفكار ناشئة من عدة أمور أختصرها بما يلي:
1- اختلاط الأوراق عليهم فلا يعرفون لكل حالة موقفها المناسب وقرارها الصحيح، وكذلك لكل شخص تكليفه الخاص فالشخص غير الواعي وغير المزوَّد بالمعلومات الكافية لتحصينه من التأثر بالشبهات فيُنصح بتجنب الخوض فيها، أما العالم فعليه أن يقتحم الشبهات والفتن ليردها ويحمي الأمة من الانحراف امتثالاً للحديث الشريف (إذا ظهرت الفتن ولم يظهر العالم علمه ألجمه الله بلجام من نار)، فالانعزال الذي أمر به الناس عند ظهور الفتن ليس هو الانعزال المادي أي الانزواء في البيت، بل المعنوي أي الابتعاد عن الخوض فيها واجتنابها أما العالم الذي فهم الكتاب الكريم وسنة المعصومين (عليهم السلام) فيضع الأمور في نصابها ولا تختلط عليه ولا تلتبس، والذي يطلّع على سلسلة من محاضرات (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) يجد المواقف المتنوعة بإزاء الأحداث والقضايا والمشاكل ولا يميّز بينها إلا القائد البصير.
2- الجهل وسوء الفهم لمقاصد الشريعة وأهدافها السامية التي تريد تحقيقها من خلال التطبيق الكامل للشريعة حيث أنهم يفهمون وجهاً من وجوه الشريعة ويعرضون عن الوجوه الأخرى، فيظنون مثلاً إن الدين هو الانزواء في الصوامع ونحوها ولا يعلمون أن هذا واحدٌ من الوجوه الايجابية للعمل الإلهي المبارك الذي كان يؤديه المعصوم (عليه السلام) في حياة الأمة.
3- ردود الفعل إزاء بعض التصرفات السيئة الصادرة من بعض المتصدين للمجتمع، ولكنها ردود فعل لم تتخذ الاتجاه الصحيح، فإن المسلم إذا أساء فهذا لا يعني أن الإسلام ليس بشيء، والشيعي إذا أساء فلا يعني أن المذهب ليس بحق وكذا الحوزة الشريفة إذا أساء بعض أفرادها.
4- الشعور بالإحباط والعجز أمام حالات الانحراف الموجودة في المجتمع، ولم يأخذوا درساً من قضية أصحاب الكهف الذين تملّكهم هذا الشعور فأنامهم الله تعالى ثلاثمائة وتسعة أعوام وأيقظهم ليريهم كيف أثمرت جهود المؤمنين وتضحياتهم رغم مرور مدة طويلة فهذه النتائج بيد مسبب الأسباب وليس على المؤمن المخلص إلا أداء تكليفه إزاء نفسه والمجتمع [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (الأعراف:164).
5- التأثر بالدعوات الضالة التي يدعمها الاستكبار العالمي الذي يريد من المسلمين الانزواء في التكايا والصوامع والانشغال بأنفسهم وترك مصالح العباد والبلاد بأيدي الطواغيت وعبّاد الدنيا والشهوات ليعيثوا فيها فساداً ويهلكوا الحرث والنسل ويملئوا السجون والمشانق بالمؤمنين.
6- الوصول من خلال هذه الدعوات إلى الرئاسة والجاه الذي هو من أعظم الرذائل الخلقية والأمراض القلبية حيث يتبوأ مكاناً مقدساً في قلوب أتباعه ومريديه المخدوعين به وقد حذّر الأئمة (عليهم السلام) من هذا الداء وجعلوه قمة الأمراض المعنوية (آخر ما يُنزع من قلوب الصديقين حب الجاه).
والمنجي من هذه الفتن اتباع العلماء المجتهدين الموثوق بعدالتهم ونزاهتهم وحبّهم للناس وتجردهم عن الأنانية.
عصمنا الله وإياكم من الزلل، وأعاذنا جميعاً من شرور الفتن
إنه الهادي إلى سبيل الرشاد.
محمد اليعقوبي
12 جمادى الثانية 1425
30/7/2004