الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره وسبباً للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظمته، والصلاة والسلام على حبيبه من خلقه النبي الأمين المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وآله الطاهرين، ومن والاهم إلى يوم الدين.
وبعد.. فإن الإلمام والإحاطة بشخصية عظيمة مباركة كشخصية النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصعوبة بمكان، بل مستحيلة عقلياً.. ولا غرور فكيف يمكن استكناه جميع أبعاد شخصية هذا النبي العظيم وسبر حقائقها وقد حفّها خالق الأكوان بعنايته الدقيقة وألطافه الخاصة وأودعها من العلوم والمعارف فكان (صلى الله عليه واله) مدينة العلم – مطلق العلم بأمره وإرادته جل وعلا – ثم اختصه بأمره وارتضاه لسره، إلا أن هذه المحدودية الذي جبل الإنسان عليها لا تمنعنا من الاستفادة قدر الإمكان من بركات سيرته العطرة والتأمّل والنظر فيها وترسّم خطاه بقوله وفعله، سيما وأن الله تعالى هو الذي يأمرنا بالاقتداء والتأسي به، ويصفه في كتابه الكريم بعظيم الصفات التي لم يوصف بها غير (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن وجود شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت سبباً لإفاضة نعم جليلة على العوالم كلها، وبعثتهُ المباركة كانت من أعظم الرحمات الإلهية فكانت سبباً للهداية الإلهية والتوحيد فهو بحق أعظم مصلح اجتماعي عرفته البشرية، ومؤسس خير أمة أخرجت للناس من العدم وبذلك وفرت قيادته المباركة للبشرية أسعد عصر من عصورها.
إن المتأمل لسيرةِ خاتم الرسل من إرهاصات ولادته إلى يوم استشهاده (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقف متحيراً.. منذهلاً.. تحيطه الكثير من علامات التعجب والاستفهام.. فهذا الكم الهائل من المبادئ السامية والقيم الرفيعة والمثل العليا والسلوك الراقي الحكيم ومكارم الأخلاق التي أفاضها نبينا الأكرم على من عاصره وعلى من قرأه عن بعد، إنبلج نور فجره في بيئة لا تساعد على صناعة هذه المعاني بعد أن طمى عليها ليل الجاهلية الجهلاء وأظلمّت زواياها وأدلهمت حناياها وغلبت عبادة الأصنام والشرك بالله تعالى الواحد، كما أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحض بتربية الأب ولم تطل رعاية الأم له إذ فارقاه في بواكر عمره الشريف، ففقد بذلك أحد أهم الأسباب الطبيعية لصناعة العظمة (نعم عاش ونشأ في كنف جده ثم عمه رضوان الله تعالى عليهما) ونالته الكفالة والحماية إلا إنهما – بمجردهما مع أهميتهما ومحوريتهما في حياة النبي – لا يوصلان إلى القمة السامقة والمقام العظيم والمنزلة الرفيعة عند الله تعالى لوحدهما.
فلا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلاّ بالاستعانة بمصادر النور الإلهي، وهما القرآن الكريم والعترة الطاهرة فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله أن الله تبارك وتعالى أدب نبيه فلما انتهى به إلى ما أراد الله قال له (وأنك لعلى خلق عظيم)، فأخلاق النبي من أعظم معاجزه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد صنعه ربه بيديه وأدبّه ورّباه وبلغ به الغاية فيما يريده وأظهر (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الحقيقة وهذه المعجزة بقوله (أدّبني ربي فأحسن تأديبي)، ومن أهم الشواهد على عظمة أخلاقه تلقيه هذا الثناء وهذه الشهادة من الخالق العظيم دون أن يأخذه العجب أو يشمخ بأنفه على الآخرين كأغلب الناس حينما يحصلون على ثناءٍ وتبجيل من كبرائهم فلم تضطرب أفكاره أو يفقد اتزان شخصيته أو يتملكه عارض غير حسن، فتلقّى هذا التكريم من ربه العظيم بنفسٍ مطمئنة، راضية متواضعة، وقد حفلت كتب السير والحديث والتاريخ بشواهدٍ لا تحصى من أخلاقه العظيمة.
ومع كل هذا العطاء العظيم والخُلق الذي لا نظير له نجد أنفسنا تجاه مسؤولية كبيرة لإظهار شمائل هذه الشخصية الآسرة والمتفردة في خصائصها وسيرتها الوضاءةَ.. بكونها معيناً صافياً لأهل البصائر وذوي النهى، خاصة إذا كان السراج الذي نقتبس منه ونستنير به للاستفادة منها هو كتاب الله العظيم وقرآنه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه والروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت العصمة (عليهم السلام).
وبهذا الصدد يسرنا أن نقدم للقراء الكرام ما أبدعه يراع سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) فنحن بين يدي سفر مبارك تحت عنوان – النبي المصطفى (ص) في القرآن الكريم، ضمّ مجموعة محاضرات ألقاها سماحتهُ في مناسبات مختلفة، وكان محورها الأساس شخصية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) منذ بدء حياته ومنعطفاتها التاريخية ورسالته النبوية حتى ارتحاله إلى الرفيق الأعلى، فكانت تفسيراً موضوعياً في واحد من أسمى موضوعات المعرفة الدينية والإنسانية مع اشتماله على محاور عقائدية وأخلاقية واجتماعية في شخصيته المباركة (صلوات الله عليه وعلى آله).
والكتاب من القطع الوزيري يقع في أكثر من (270) صفحة من إصدارات دار الصادقين لعام 1445هـ – 2024م، ويمتاز هذا الكتاب عن بقية كتب التراجم والسير، إنه وقف على جملة من المفاهيم والمعاني القرآنية التي جاءت في سياق الآيات التي تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل مباشر أو التي تأمر بالتأسي به قولاً وسلوكاً، ويمر من خلالها على الأحداث والوقائع التاريخية المهمة في عصر البعثة النبوية الشريفة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل طاعته ومحبته ويرزقنا شفاعة نبيه الكريم وآله الميامين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)
https://yaqoobi.com/arabic/index.php/permalink/846102.html