و مع ذلك كان الشّيخ حذراً في تعامله مع الأمور التي لها مساس بالنّظام ، و يتصرّف برويّة و حكمة بالغة ، فهو لا يقبل أن يستلم رسالة خطّية تأتيه من شخص ، إلا بعد أن يكون الطّالب الحامل لها قد قرأها ، فكنّا لا نحمل رسالة من شخص إلا و نطلب منه أن يسمح لنا بأن نقرأها ، خشية أن تحمل كلاماً يثير مخاوف الحكومة آنذاك ، و العلّة من هذا الإجراء واضحة ، فإن مجرّد وصولها إلى يد الشّيخ تعتبر دليل إدانة ضدّه و مبرّر للأجهزة الأمنية لاتخاذ موقف قاسي معه .
و لذا كان الشّيخ يطلب من الطّلبة المتقدّمين ، لدار أبي الأرقم (جامعة الصّدر) دفتر الخدمة العسكريّة و الذي يثبت كون الفرد قد أدّى خدمة العلم لئلا يعطي للحكومة مغمزاً ، و يكون وجود المتخلّف عن العسكريّة بين الطّلبة مطعن في ولاء الطّلبة للدّولة و صدق و طنيتهم ..
و حينما حصل الانفجار عند مرور موكب محمد حمزة الزّبيدي ، قال سماحته بأنّ الحكومة قد لا تقتنع بهذه الجامعة ، كمدرسة دينيّة بل تراها مؤسّسة سياسيّة ، و تخفي أمراً فلماذا تغلق الباب على نفسها طيلة أيام الأسبوع ، و لا تختلط بالحوزة ، فقال نحن في نظر الحكومة (بعبع) ، خاصّةً و أن بعض الطّلبة كانوا يلبسون البنطال (الكاوبوي) ، مع أنّ المتعارف هو (الدّشداشة) و (العركجين) ، لمن لم يكن يرتدي البزة الحوزويّة ، فكان من بين الإجراءات التي أمر بها كرسالة تطمين للجهات الأمنيّة ، هي أنّ أمر الطّلبة بلبس الزّي الدّيني ، مع أنّ القانون الذي وضعه السّيد الصّدر الثّاني يقضي بتعميم الطّالب إذا أتمّ المرحلة الرّابعة ، و أمر الطّلبة في المراحل المتقدّمة بالانفتاح على الحوزة و إعطاء الدّروس هناك .
و لكن في نفس الوقت كان يتحرّك بواقعيّة ، فهو يعترّض على بعض الطّلبة الذين رفضوا لبس الزّي الحوزوي ، فراراً من أجهزة الأمن التي كانت تراقب طلبة العلوم الدّينية بصورة عامّة ، و طلبة الخط الصّدري بصورة خاصّة ، و قال لهم وقتها هل تتصوّرون أنكم بمنأى عن علم الأمن بانخراطكم في الدّراسة الدّينية ؟!
و ذات مرّة ( و كنت في المرحلة الأولى ) ذهبت معه إلى بيته و تناولت معه وجبة الغداء ، فاعترض على تسرّب كاسيتات الدّرس الأخلاقي ، و الذي كان يلقيه على الطّلبة في دار أبي الأرقم ، و كان السّيدان (…..) (…..) ، هم من أعطوا الكاسيت إلى بعض معارفهم في المدرسة اللبنانيّة من محافظة (…..) ، فقلت له شيخنا أنت من سمح بنسخ الكاسيت ، و قد اعترضت على تصرّف الطّلبة و إعطاءكم الأذن لهم و قلت لهم أنّه يشكّل خطراً على حياة الشّيخ ، لأنّه يتطرّق بين الفينة و الأخرى ، إلى تحليل الأخبار و القضايا السّياسيّة ، و يتطرّق إلى ما كان شائعاً من اقتتال في البوسنة و الهرسك ، فكان جواب الطّلبة جواباً ساذجاً ـ كما هو معهود اليوم ـ أنّ الشّيخ أدرى بالمصلحة ؟ فقال سماحته : كان مقصودي أن ينسخه الطّلبة لأنفسهم ، و ليس إخراجه إلى خارج الجامعة ، ثمّ أردف قائلاً : و لنفترض أنّني أذنت لهم بتوزيعه ، فلماذا لم يلتفت الطّلبة إلى خطورة الأمر ، كما كنت أنت ملتفتاً لذلك و استشهد بهذه الآية (المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض).
و طلب أحد المشايخ من سماحته أن يأخذ كتاب (استفتاءات) للسّيد الخامنئي و الموجود في مكتبة مدرسة الجامعة / المرحلة الأولى ، فاستغرب الشّيخ و قال للطّالب ممتعضاً ، و لماذا هذا الكتاب موجود في المكتبة ـ لكونه مخالفاً للتقيّة ـ و طلب حينها من الشّيخ صلاح العبيدي المشرف على المرحلة الأولى أن يختار طالباً ثقة يشرف على المكتبة ، و يكون أميناً عليها و يمنع وضع كتاب مخالفاً للتقيّة ، فرشحني الشّيخ صلاح أميناً على المكتبة فكان بعض الطّلبة يقول : إن أحمد الجيزاني كان أكثر وقته في المكتبة فلعلهاللآن يبيت فيها بعد أن صار أمينا عليها !!