لم أغادر أسوار دار أبي الأرقم رغم التعطيل الذي أملته الظروف السّياسية آنذاك ، فقررت مع بعض الطلبة المكث بين جدران الجامعة لمراجعة الدّروس الكثيرة ، و مطالعة الكتب الدّينية المختلفة في مكتبة الجامعة ..
وذات مرّة طرق رجل أمن الباب ، فهرعنا إلى الطابق العلوي لنتخفّى في الحمامات ، و خرج لفتح الباب الحارس (أبو شاكر) ، فسأله رجل الأمن : هل يوجد طلبة في المدرسة ، فأجابه أبو شاكر : لا !!
كان تعليق الدّوام في دار أبي الأرقم حلاً آنياً مرحلياً قريب المدى ، و لكن لابد من إعادة الدّوام و التّحصيل الدّراسي ، خاصّة و أنّ نظام الجامعة كان يشبه التّنظيم الأكاديمي ، بمعنى وجود فترة محدّدة و سنّة دراسيّة ، فامتحانات نصف السّنة تنتهي قبل واحد رمضان ، و نهاية السّنة الدّراسية قبل واحد محرم ، و من هنا كان الشيخ اليعقوبي يفكّر بطريقة لمعالجة الموقف المتأزّم من جراء استهداف موكب محمد حمزة الزبيدي ، و الذي يحمل في طيّاته وجود جهات داخليّة مدعومة خارجياً ، مما يهدّد أمن و بقاء النّظام ..
قرّر الشّيخ اليعقوبي أن يذهب إلى بغداد ، و يلتقي وجهاً لوجه مع أحد أذرعة التنين ، بعد أن وجّهت دعوة للسّيد مقتدى من حكومة بغداد للمثول بين أيديهم في محاولة منهم لتطويق الموقف المتأزّم الذي نجم عن استشهاد السّيد الصّدر الثّاني ، و كان الشّيخ يرى في ذهابه مع السّيد مقتدى نوع من الوفاء للمرجع الرّاحل ، و خطه الشّريف ، و كذلك فيه نوع مواساة و أسناد للسّيد مقتدى ، خاصّةً مع التماس الأخير ذلك منه . نعم هو حراك غير معهود ، بل عادةً يلوذ الفرد بالانسحاب من هذه المواقف فلا يلفت أنظار التنين إليه .
و فعلاً قدِم الشّيخ اليعقوبي من النّجف بصحبة السّيد مقتدى ، ( و عمره خمسة و عشرون سنة) ، و السيد رياض النوري ، و صهر السّيد كلانتر ، ليلتقي بمدير المخابرات آنذاك (طاهر جليل حبوش) في بغداد ، الذي بدا غير مكترثٍٍ لوجود رجال الخط الصّدري في مكتبه ، فهو يتكلم غير مقبل عليهم بوجهه كعادة الطّغاة ، و قد لفّ بكرسيه الدّوار صوب الحائط الذي خلّفه !!
و لكنّ الشّيخ قرّر أن يصعقه و يجعله ينصاع لمطلبهم ، فخاطبه : إن الشّباب في العراق اعتادوا على الحراك الدّيني ، الذي نمّاه مرجعهم الصّدر الثّاني ، و هذا واقع حال ، فإذا لم يجدوا من يلتفون حوله داخل العراق من نُسخ مرجعهم الرّاحل ، فإنّهم سيتطلّعون إلى خارج الحدود _ إيران حيث الخامنئي و ربما الحائري _ و هنا أدار الظّالم ظهره للحائط كما يصنع العقلاء و توجّه إلى الشّيخ و انتبه إلى فداحة ما قيل له ، فصار مضطراً لتجاذب أطراف الحديث مع الشّيخ ، ثم أعطى أذناً بفتح البراني (مكتب السّيد الشّهيد الصّدر الثّاني) ، و لكن في مسجد الرأس بجوار صحن أمير المؤمنين ، فاستأنف الشّيخ العميد الدّراسة في الجامعة ، و عادت الحياة من جديد إلى دار أبي الأرقم .