و في إحدى الأيام جاءنا أحد الأشخاص إلى مدرستنا (فرع الجامعة الثّاني ، حيث كنا في المرحلة الأولى) ، و أبلغنا بضرورة الحضور إلى دار أبي الأرقم (جامعة الصدر الفرع الرئيسي) ، حيث كان هناك بالانتظار مدير أمن النجف (……..) ، صاحب العينين الزرقاويتين ، اللتين كانتا تحدّقان بوجوه الطّلبة ، بتملّي و فراسة ، كمن يبحث عن غريم له في وسطهم ..
و هناك وجدنا المرحلة الثّانية و الثّالثة ، و الشّيخ اليعقوبي و اللّواء يجلس في وسطهم ، و راح اللّواء يتوعّد محذّراً الطّلبة من التورّط بالعمل السّياسي ، و قال في ضمن ما قال ـ و هو يشير إلى الأرض بيديه ـ هذا مربّع السّياسة ، و هذا مربع العمامة ، فإذا دخلت العمامة في ذلك المربّع ـ أي مربع السّياسة ـ احترقت ..
وكنا ننظر إلى كبيرنا الشّيخ الذي علّمنا الصّبر و قد علّته حمرة ، فصار وجهه مشرقاً ، كأنّه فلقة قمر ، فكان قد شغلنا نور وجهه عن التّأمل في كلمات و تهديد اللواء ..
و رغم ذلك لم تثن هذه الممارسات الصّداميّة سماحة الشّيخ القيام بمهام كبرى ، لا يخطر على قلب مرجع أن يلوح بها فضلاً عن التّصريح بها ، و من ذلك إقدام الشّيخ على مقاطعة المنتجات الأجنبيّة و خاصّة الأمريكيّة ، باعتبارها دولة تعلن الحرب صراحة ضد الإسلام و المسلمين ، فكل ما من شأنه تقوية شوكة أعداء الإسلام ، فهو أمرٌ محرّمٌ شرعاً ،و هذا و إن كان مودّعاً في رسائل الإعلام ، و لكن أنّى لعامّة النّاس من الوقوف عند حروفه و تفسيره ، فضلاً عن إدراك أهمّيته و تطبيقه ، و لذا راح الشّيخ يفتي بلسانٍ صريح بحرمة شراء و ترويج بضائع السّكائر الأجنبية ؟
و سرعان ما وصل أمر الفتوى إلى مسامع الحكومة البوليسيّة الصداميّة ، فأرسلوا و أردهم إلى الشيخ و هو شخص (شيعي) يعمل في الأردن ، و قال للشيخ مستفهماً و مهدداً و محذّراً : هل تعلم لمن تعود تجارة السّكائر في العراق ؟
فأجاب الشيخ : نعم أعرف ، و رجع الرّجل المفاوض بخفي حنين خالي الوفاض ، فلم يرعو الشّيخ لمطلبه في سحب فتواه ، رغم خطورة الموقف و صعوبته ، و خطره على حياته ، فإنّ الأعم الأغلب من العراقيين يعرفون أن تجارة السّكائر تعود لـ (عدي نجل صدام) ، المعروف بشراسة طباعه ، و تهوّره ، و هو من أطلق النّار على عمّه و طبان .