يعلمنا الله سبحانه وتعالى طرق ومقدمات الوصول إلى الجنان لسلوكها وطرق ومقدمات الوصول إلى النيران لتجنبها . . . ومن هذه الطرق أوضحته محادثة خزنة النار مع الذين كفروا بربهم بعد أن ألقوا في نار جهنم ( سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) فأجاب الكافرون ( قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [سورة الملك]
إن كفرهم ودخولهم النار سببه أنهم لم يكونوا يستمعون ويعقلون أما الذين دخلوا الجنة فهم الذين كانوا يستمعون القول فيتبعون أحسنه وهم أصحاب العقول كما وصفهم الله سبحانه وتعالى: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) ) [سورة الزمر]
وهناك الكثير من الآيات تدل أن الذين يستمعون إلى ما أنزل الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز كانت نتيجتهم الهداية قال تعالى: ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32) ) [سورة الأحقاف]
قال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)) [سورة الجن]
وهذه الآيات المباركة يجب أن نتخذها منهجا علميا ونجسدها في سلوكنا العملي علينا بحسن الاستماع وأتباع أحسن القول حتى نفوز بالجنة . . . وقد أكد المعصومون (عليهم السلام) القرآن الناطق في حكمهم وأقوالهم على هذه المسألة كثيرا ومن هذه الحكم والأحاديث:
قال الإمام علي (عليه السلام): إذا لم تكن عالما ناطقا فكن مستمعا واعيا.
لأن الإستماع لذوي العقول حياة للعقول وضمانة لعدم موتها
قال علي (عليه السلام): من ترك الاستماع من ذوي العقول مات عقله.
وهو من موجبات رحمة الله سبحانه وتعالى ويقودك إلى اتباع الهداة المهديين
قال علي (عليه السلام): رحم الله امرأ ( عبدا ) سمع حكما فوعى، ودعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجى. ([1])
بعكس الذين يتبعون المتقمصين وأهل الضلال فهم صم الأسماع وهم الذين لا يستمعون القول ولا يتبعون أحسنه
عن علي (عليه السلام) – من كتاب له إلى قثم بن عباس وهو عامله على مكة – : أما بعد، فإن عيني – بالمغرب – كتب إلي يعلمني أنه وجه إلى موسم أناس من أهل الشام العمي القلوب، الصم الأسماع، الكمه الأبصار، الذين يلبسون الحق بالباطل، ويطيعون المخلوق في معصية الخالق.([2])
وحسن الاستماع من أسس وعلامات إصابة الرأي
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ثلاثة يستدل بها على إصابة الرأي: حسن اللقاء، وحسن الاستماع، وحسن الجواب.([3])
وحثنا أئمتنا (عليهم السلام) على تعويد النفس على حسن الاستماع
علي (عليه السلام): عود أذنك حسن الاستماع ولا تصغ إلى ما لا يزيد في إصلاحك استماعه فإن ذلك يصدئ القلوب ويوجب المذام.([4])
وقال الباقر (عليه السلام): إذا جلست إلى عالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول، ولا تقطع على أحد حديثه. ([5])
لأن حسن الاستماع يعجل الانتفاع
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من أحسن الاستماع تعجل الانتفاع.([6])
وهذا الانتفاع عام انتفاع دنيوي واخروي
كثير من الناس لديها أحكام مسبقة وهذه الأحكام مبنية على الكذب أو إشاعة أو هوى نفسي وهذه الأحكام تمنع الكثير من الناس عن الاستماع من الآخرين لهذا نبَّه المعصومون (عليهم السلام) الناس من ذلك ووضعوا حكما من عمل بها فإنه سينتفع وسيعرف الحق ويكون من أصحاب الجنة بعكس من يصم أسماعه نتيجة هذه الأحكام المسبقة من هذه الأقوال:
قال علي (عليه السلام): لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال.([7])
فجميع الأنبياء والأئمة تم اتهامهم بشتى التهم وكل ذلك لأجل أن لا يستمع إليهم الناس فيعرفوا الحق فيتبعوه ووصل الأمر بالمشركين بأن يحدثوا ضجة حتى لا تسمع الناس تلاوة نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكتاب الله سبحانه وتعالى خشية من الاستماع إليه وهدايتهم
قال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) [فصلت: 26]
لقد ورد في بعض الروايات أن رسول الله (عليهم السلام) ما أن يرفع صوته في مكة ليتلو القرآن بصوته الجميل وأسلوبه الخاشع، حتى كان المشركون يقومون بإبعاد الناس عنه ويقولون : أطلقوا الصفير وارفعوا أصواتكم بالشعر حتى لا تسمعوا كلامه!
هذا الأسلوب في مواجهة تأثير الحق ونفوذه بالرغم من كونه أسلوبا قديما، إلا أنه يستخدم اليوم بشكل أوسع وأخطر لصرف أفكار الناس وخنق أصوات المنادين بالحق والعدالة، فهؤلاء يقومون بملء ء المجتمع بالضوضاء حتى لا يسمع صوت الحق . ومع الالتفات إلى أن معنى كلمة ” والغوا ” المشتقة من ” لغو ” لها معنى واسع يشمل أي كلام فارغ، ندرك جيدا سعة هذا المنهج المتبع . فتارة يتم اللغو بواسطة الضجة والضوضاء والصفير . واخرى بواسطة القصص الكاذبة والخرافية . . . ([8])
وقد وردت الكثير من الحكم عن المعصومين (عليهم السلام) تحثنا على أخذ الحكمة ممن أتانا بها وإن خرجت من كافر أو مشرك أو منافق أو مجنون أو صغير وأن نكون نقاد كلام ونأخذ الحق من أهل الباطل ولا نأخذ الباطل من أهل الحق نعم هذا هو الاستماع الواعي:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت.([9])
وقال علي (عليه السلام): خذ الحكمة أنى كانت، فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن. ([10])
وقال (عليه السلام): الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق.([11])
وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام): لا تحقر اللؤلؤة النفيسة أن تجتلبها من الكبا([12]) الخسيسة، فإن أبي حدثني قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن الكلمة من الحكمة تتلجلج في صدر المنافق نزوعا إلى مظانها حتى يلفظ بها فيسمعها المؤمن فيكون أحق بها وأهلها فيلقفها.([13])
وقال الصادق (عليه السلام): قال الحكماء : خذ الحكمة من أفواه المجانين. ([14])
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: يا هشام، إن المسيح (عليه السلام) قال للحواريين: . . . لو وجدتم سراجا يتوقد بالقطران في ليلة مظلمة لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها. ([15])
وقال المسيح (عليه السلام): معشر الحواريين ! ما يضركم من نتن القطران إذا أصابكم سراجه ؟! خذوا العلم ممن عنده ولا تنظروا إلى عمله.([16])
وقال عيسى (عليه السلام): خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموهة، النظر إلى ذلك سواء، والبصراء به خبراء. ([17])
وقال أيوب (عليه السلام): إن الله يزرع الحكمة في قلب الصغير والكبير، فإذا جعل الله العبد حكيما في الصبى لم يضع منزلته عند الحكماء حداثة سنه، وهم يرون عليه من الله نور كرامته.([18])
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): غريبتان فاحتملوهما كلمة حكم من سفيه فاقبلوها، وكلمة سفه من حكيم فاغفروها.([19])
ومما تقدم نعرف بكل وضوح ضرورة حسن استماع القول واتباع أحسنه والاستماع إلى ذوي العقول لتبقى عقولنا حية وأن نأخذ الحكمة ممن أتانا بها ونأخذ الحق من أهل الباطل ولا نأخذ الباطل من أهل الحق وهذا هو الاستماع الواعي . . . فلنكن من المستمعين الواعين لنفوز بالدارين . . . ([20])
————————————————————————————————————-
([1]) ميزان الحكمة، اليرشهري ج2 ص1360.
([2]) المصدر السابق ص1361.
([3]) بحار الأنوار، ج75 ص237.
([4]) عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص341.
([5]) الإختصاص، الشيخ المفيد، ص245.
([6]) ميزان الحكمة، ج2 ص1362.
([7]) المصدر السابق ج3 ص2083.
([8]) الأمثل في تفسير كتاب المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج15 ص395.
([9]) العلم والحكمة في الكتاب والسنة، الريشهري ص245.
([10]) نهج البلاغة، حكمة 79.
([11]) المصدر السابق، حكمة 80.
([12]) الكبا – بالكسر والقصر -: الكناسة.
([13]) العلم والحكمة في الكتاب والسنة، الريشهري ص247.
([14]) المصدر نفسه.
([15]) المصدر نفسه.
([16]) ميزان الحكمة، الريشهري، ج3 ص2083.
([17]) العلم والحكمة في الكتاب والسنة، الريشهري ص247.
([18]) المصدر نفسه.
([19]) الخصال، الشيخ الصدوق، ص33-34. تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص59. مشكاة الأنوار، علي الطبرسي ص238.
([20]) الأربعون مقالا، محمد النجفي، مخطوط.