يُنقل عن الغرب حيث معقل المسيحية تتوالى القراءات التي تحط من شأن عيسى المسيح (ع) وتتبعه تاريخياً عبر مصادر تاريخية مشكوك في مصداقيتها وصحتها.
يمكننا أن نفهم ذلك في خضم الإيديولوجيا المعادية للدين التي تتحكم في ذلك المجتمع، وربما يكون نيتشه في كتابه (نقيض المسيح) أفضل حالاً من أولئك، إذ أنه يصب غضبه على بولس ويعتبره محرفاً ولكنه لا يتعرض إلى شخصية المسيح إلا في القليل، كما أنه ينقد الأخلاق و القيم المسيحية ويعتبرها تناقض غرائز الإنسان .
ويبدو من العهد الجديد (الإنجيل) أن المسيح لم يكن نبياً ومبشراً فقط، بل إنه كان مصلحاً وقف بوجه الإكليروس الإسرائيلي اليهودي المتزعم للهيكل، حيث يقبع علماء بني إسرائيل وقلب منظومتها الدينية.
يقع الهيكل في أورشليم (القدس)، وكان الرومان متسلطين على اليهود في ذلك الوقت ومحتلين للمدينة، ولكنهم سمحوا لليهود بممارسة عبادتهم ولهم عندهم حضوة كونهم كانوا يمثلون عنصر قلق لحكومة روما بسبب ثوراتهم ومواجهتهم للسلطة الرومانية، وكان المجتمع اليهودي منقسماً الى الفريسيين والصدوقيين وهم فئتان تختلفان في فهم الشريعة الموسوية، حيث يسيطر الصدوقيين على الهيكل وعلى مجلس العلماء في حين يسيطر الفريسيين على المجامع في المدن.
عاد المسيح من أرض مصر إلى الناصرة مدينته الأم وتعمد في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان وهو النبي يحيى (ع)، وبدأ مشواره الإصلاحي حيث بدأ يحقق المعجزات ويدعو لاتبّاعه فتبعه البعض ومنذ ذلك الحين أخذ المسيح يطوف المدن مع طلبته وحوارييه الاثنا عشر وتابعيه، وكان يستغل تطوافه في بث كلماته ومواعظه ويتهجم على عقائد اليهودية و عاداتهم ويزيح الأنظار باتجاه ضرورة مراجعتها وبث الحياة فيها.
فيدخل المدينة أو القرية ويدعو الناس يكلمهم ويظهر معجزاته لهم حتى بدأ ذكره يسبقه ويطير أمامه في المدن التي يُقبل عليها، وكان الفريسيون والصديقيون يحاجونه في تلك المدن ويبدو من ردوده أنه كان يوجه لهم التهم باستغلال الدين وتفسيره خطئاً ويوبخهم ويوجه أنظار الناس إلى ضرورة الانقلاب عليهم.
بدأت حركة المسيح تتنامى وحين يقبل على مدينة ما يخرج إليه أهلها ويستقبلونه استقبالاً مهيباً في كثير من الأحيان ويرافقونه ففي أحد المرات خرج معه خمسة آلاف (راجع معجزة إطعامهم في البرية) ومرة أخرى يخرج ومعه حوالي أربعة آلاف يبقون معه لمدة ثلاثة أيام، وهكذا تبدأ مسيرة أهلية قوامها فقراء المدن التي يمر عليها المسيح تسلمه الجموع من مدينة إلى أخرى، وكان الفريسيون والصديقيون لا ينون يضعون أمامه الإشكالات والأسئلة وهو لا يني عن دحضهم وإجابة أسئلتهم برد فعل أكثر إشكالية.
وهنا يصل المسيح وطلبته وبعض تابعيه (يبدو من بعض الدراسات أن فيهم نساءاً ومنهن مريم المجدلية التي يرد ذكرها في مواضع متعددة من الإنجيل)، يصلون إلى أورشليم حيث قلب اليهودية ومجمع علمائها ويبدو أنه أرسل بعض طلبته أمامه يبشرون بمجيئه أو أن عدد لا بأس به كان مرافقاً له حيث يدخل فيقوم الناس بفرش طريقه بثيابهم وبأغصان الأشجار وهو أمر له رمزيته الكبيرة، وكانت الجموع التي تتقدمه تهتف (المجد لابن داود تبارك الآتي باسم الرب المجد في العلى)، فضجت المدينة وبدأت تتزلزل حيث يتساءل أبناء أورشليم من هذا فترد الجموع هذا هو النبي يسوع من ناصرة الجليل”.
يدخل الهيكل بجموعه فيطرد الباعة في الهيكل ويقلب مناضدهم ومبائعهم ويطرد باعة الحمام، ويقول لهم (جاء في الكتاب بيتي بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) ويبدو أنه قلب نظام أورشليم وهيكلها وحطم أسطورتها وآثار اليهود الذين لم يستطيعوا مواجهته ذلك اليوم ثم خرج إلى بيت عنيا وبات فيها حيث يبدو أنها لا تبعد كثيراً عن أورشليم بحسب الخارطة المرفقة ببعض الأناجيل، ثم عاد ودخل الهيكل وبدأ يعلم فيها فجاءه شيوخ وعلماء اليهود وقالوا له بأي سلطة تعمل هذه الأعمال، فأجابهم جواب مطول أفحمهم وحذرهم من أعمالهم، ويبدو أن الجموع كانت تحيطه وتحميه ما جعل هؤلاء يتهيبون الاعتداء عليه.
إن هذه الأعمال تكشف عن حركة إصلاحية قادها المسيح خلال حركته المتدرجة من الجليل حتى أورشليم، الأمر الذي أثار اليهود و لعل ما يثير الانتباه هو أن تعاليم المسيح فيما بعد حادثة الهيكل لم تكن معادية للرومان حكام المدينة، بل كانت تتوخى مهادنتهم وتحييدهم ويظهر ذلك في أمرين:
١- وصيته وإجابته بضرورة دفع الجزية إلى قيصر الروم وعدم الامتناع عنها، حيث ترد في الإنجيل تلك العبارة المشهورة (ادفعوا إذن إلى القيصر ما للقيصر وإلى الله ما لله) إنجيل متى.
٢- غض النظر من بيلاطس الحاكم الروماني عن حركة المسيح، حيث كان يتبعه الآلاف وهو ما يبدو أنهم كانوا يدركون أن حركته لم تكن سياسية، كما أنها فيما يبدو ستُضعف الأعداء التقليديين للسلطة الرومانية في أورشليم وباقي المدن.
ويظهر الحاكم الروماني بيلاطس الذي حدث في عهده اعتقال يسوع المسيح وصلبه أنه لم يكن يريد قتله فحاول ثني الإكليروس اليهودي عن ذلك وقدم لهم خياراً بإطلاق سراحه، ويبدو أن ذلك كان تقليداً أن يخير اليهود بين اثنين محكومين بالإعدام فأصروا على إعدامه، وما يثير الانتباه أن المسيح كان صامتاً طيلة فترة استجوابه من قبل بيلاطس و زبانيته فلم يرد على اسئلتهم ويخيل إلى أنه كان يريد القول أن مشكلته مع الإكليروس اليهودي وليس مع السلطة القائمة آنذاك.
إن محاولة بيلاطس يمكن أن يُفهم منها أن حركة المسيح كانت متنامية وقوية وبنفس الوقت لا تمثل تهديداً للسلطة لا في فعالياتها و لا في أفكارها وقيمها لذا فمن غير المناسب الاصطدام معها، ولذلك حاول أن يتجنب قتل المسيح وصلبه.
ينبغي الإشارة إلى دور مهم لعبه النبي يوحنا المعمدان (ع) الذي مارس دوراً تبشيرياً مهماً بمهمة المسيح حتى لحظة إعدامه على يد الحاكم الروماني هيرودس الذي لم يرد إعدامه أيضاً لكونه نال شعبية كبيرة وحباً من جانب الشعب وهذا يؤشر أيضاً قدرته في التأثير والتبشير لحركة المسيح، كما أن اليهود لم يرحبوا بالمعمدان و طووا عنه كشحاً و لم يعيروه أهمية.
من كل ذلك يتضح غياب هذه الحركة وأهدافها عن مجمل الدين المسيحي إذ يبدو أن أهداف هذه الحركة تمثل خلاصة الدين المسيحي وهي إصلاح رسالة الدين وإعادتها إلى طريقها القويم وتحرير الإنسان من عبادة الطقوس إلى عبادة الله وتخليصه من القيود التي أثقله بها الإكليروس الديني ووضع الأثقال التي أرهقوه بها وجعلوا حياته تابوهات ومحرمات وكبتوا رغبته في العيش الكريم واعتبروا الحياة كلها خطيئة و سوءة، تلك هي حركة المسيح التي جرى التركيز فيها على معاجز الشفاء وغيرها من المعاجز وإهمال هذا الدور التاريخي الذي طاف لأجله المسيح مدن فلسطين مبشراً وداعياً للإصلاح وجمع الأتباع حوله حتى ارتقى خشبة خلاصه وأسلم كل ما لديه لبارئه.
إياد نجم الجيزاني