نسبه
هو عليّ بن أبي طالب واسمه عبد مناف بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد بن هاشم واسمه المغيرة ابن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد ابن عدنان.
وقد كان لعبد المطلب ـ على ما يقال ـ اثنا عشر ابناً ـ منهم أبو لهب، وكانت أمهاتهم مختلفة متعدّدة، ولكن عبد الله والد النبي صلّى الله عليه وآله وأبا طالب والد عليّ عليه السلام كانا من أمّ واحدة. وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم جدّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولذلك عليٌّ هو أوّل هاشميّ ولد بين هاشميّين.
ألقابه
أمير النحل
قال العلاّمة سبط ابن الجوزيّ والمؤمنون يتشبّهون بالنحل لأنّ النحل تأكل طيباً وتضع طيباً، وعليّ عليه السلام أمير المؤمنين. قال الصادق عليه السلام إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أنّ طيراً يعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلاّ أكلته. ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنّكم تحبّونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السرّ والعلانية. رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا.
الأنزع البطين
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله يا عليّ، إنّ الله قد غفر لك ولأهلك ولشيعتك ولمحبّي شيعتك، فأبشر فإنّك الأنزع البطين المنزوع من الشرك، البطين من العلم. قال العلاّمة سبط ابن الجوزي ويُسمّى عليّ عليه السلام البطين، لأنّه كان بطيناً من العلم، وكان يقول عليه السلام لو ثنيت لي الوسادة لذكرت في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم حمل بعير. ويُسمّى الانزع لأنّه كان أنزع من الشرك. قال ابن الأثير صاحب النهاية في مادّة نزع وفي صفة عليّ عليه السلام البطين الأنزع كان أنزع الشعر، له بطن. وقيل معناه الأنزع من الشرك، المملوء البطن من العلم والإيمان. قال العلاّمة ابن المنظور في لسان العرب في مادّة نزع البطين الأنزع والعرب تحبّ النزع، وتتيمّن بالأنزع.
يعسوب المؤمنين
ويُسمّى عليّ عليه السلام يعسوب المؤمنين، لأنّ اليعسوب أمير النحل وهو أحزمهم، يقف على باب الكوراة كلّما مرّت به نحلة شمّ فاها فإن وجد منها رائحة منكرة علم أنّها رعت حشيشة خبيثة، فيقطعها نصفين ويلقيها على باب الكورارة ليتأدّب بها غيرها، وكذا عليّ عليه السلام يقف على باب الجنّة فيشمّ أفواه الناس، فمن وجد منه رائحة بغضه (و) ألقاه في النار .
أمير المؤمنين
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لو يعلم الناس متّى سُمّي عليٌّ أمير المؤمنين لما أنكروا فضائله، سمّي بذلك وآدم بين الروح والجسد، وحين قال (الله) ألستُ بربّكم؟ قالوا بلى. فقال الله تعالى أنا ربّكم، ومحمّد نبيّكم، وعليٌّ أميركم. عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قلت جعلت فداك، لم سُمّي أميرُ المؤمنين أميرَ المؤمنين؟ قال عليه السلام لأنّه يميرهم العلم، أما سَمِعْتَ كتاب الله عزّ وجلّ ونمير أهلنا. عن أبان بن الصلت، عن الصادق عليه السلام سُمّي أميرَ المؤمنين، إنّما هو من ميرة العلم، وذلك أنّ العلماء من علمه امتاروا، ومن ميرته استعملوا. عن عبد المؤمن، عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت له لم سُمّي أميرُ المؤمنين أميرَ المؤمنين؟ فقال لي لأنّ ميرة المؤمنين منه، هو كان يميرهم العلم.
كنيته
أبو تراب
قال الشيخ علاء الدين السكتواري في محاضرة الأوائل(ص 113) أوّل من كُنّي بأبي تراب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، كنّاه به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) حين وجده راقداً وعلى جنبه التراب، فقال له ملاطفاً قم، يا أبا تراب. فكان أحبّ ألقابه، وكان بعد ذلك له كرامة ببركة النفس المحمّديّ كان التراب يحدّثه بما يجري عليه إلى يوم القيامة وبما جرى. فافهم سراً جلياً. عن سليمان بن مهران، عن عباية بن ربعيّ، قال قلت لعبد الله بن عباس لم كنّى رسول الله صلّى الله عليه وآله علياً أبا تراب؟ قال لأنّه صاحب الأرض، وحجّة الله على أهلها بعده، وبه بقاؤها، وإليه سكونها. وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ الله تبارك وتعالى لشيعة عليّ من الثواب والزلفى والكرامة، يقول يا ليتني كنت ترابياً، أي يا ليتني من شيعة عليّ. وذلك قول الله عزّ وجلّ ]ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً]. قال العلاّمة المجلسيّ رحمه الله يمكن أن يكون ذكر الآية لبيان وجه آخر لتسميته عليه السلام بأبي تراب، لأنّ شيعته لكثرة تذلّلهم له وانقيادهم لأوامره سُمّوا تراباً، كما في الآية الكريمة، ولكونه عليه السلام صاحبهم وقائدهم ومالك أمورهم سُمّي أبا تراب.
طفولته وصباه
قال عليه السلام تعريفا لنفسه ولقد علمتم موضعي من رسول الله صلّى الله عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حِجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به صلّى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلّى الله عليه وآله وخديجة، وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلّى الله عليه وآله، فقلت يا رسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ ولكنّك لوزير، وإنّك لعلى خير.
قال ابن أبي الحديد ورُوي عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال كان عليّ عليه السلام يرى مع رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل الرسالة الضوء، ويسمع الصوت، وقال صلّى الله عليه وآله له لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنتَ شريكاً في النبوّة، فإن لا تكن نبياً فإنّك وصيّ نبيّ ووارثه، بل أنت سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء.
قال العلاّمة الحليّ رحمه الله وأما حال ولادته فإنّه عليه السلام وُلد يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة في الكعبة، ولم يولد فيها أحد سواه لا قبله ولا بعده، وكان عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله ثلاثين سنة، فأحبّه وربّاه، وكان يطهره في وقت غسله، ويجرعه اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه .. ويقول هذا أخي ووليّي وذخري وناصري وصفيّي وكهفي وصهري ووصيّي وزوج كريمتي وأميني وخليفتي، وكان يحمله دائماً ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها .
وقال برهان الدين الحلبيّ فلم يزل عليّ عليه السلام مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفي خصائص العشرة للزمخشريّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله تولّى تسميته بعليّ، وتغذيته أيّاماً من ريقه المبارك، يمصّه لسانه، فعن فاطمة بنت أسد أمّ عليّ (رضي الله تعالى عنها) قالت لمّا ولدته سمّاه علياً، وبصق في فيه، ثمّ إنّه ألقمه لسانه، فما زال يمصّه حتّى نام، فلمّا كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد، فدعونا له محمداً صلّى الله عليه وآله فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء الله.
ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله حين تزوّج خديجة قال لعمّه أبي طالب إنّي أحبّ أن تدفع إليّ بعض وِلدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاءك عندي، فقال أبو طالب خذ أيّهم شئت، فأخذ علياً عليه السلام، فمن استقى عروقه من منبع النبوّة، ورضعت شجرته ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة، ونشأ في دار الوحي، وربي في بيت التنزيل، ولم يفارق النبيّ صلّى الله عليه وآله في حال حياته إلى حال وفاته لا يُقاس بسائر الناس، وإذا كان عليه السلام في أكرم أرومة، وأطيب مغرس، والعرق الصالح ينمي، والشهاب الثاقب يسري، وتعليم الرسول ناجع، ولم يكن الرسول صلّى الله عليه وآله ليتولّى تأديبه، ويتضمّن حضانته وحسن تربيته إلاّ على ضربين إمّا على التفرّس فيه، أو بالوحي من الله تعالى، فإن كان بالتفرّس فلا تخطأ فراسته، ولا يخيب ظنّه، وإن كان بالوحي فلا منزلة أعلى ولا حال أدلّ على الفضيلة والإمامة منه.
أول المؤمنين
قال الحافظ نور الدين الهيتمي(ت 807هـ) عن أبي ذرّ وسلمان، قالا أخذ النبيّ صلّى الله عليه وآله بيد عليّ فقال إنّ هذا أوّل من آمن بي، وهذا أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق الأمّة يفرق بين الحقّ والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين. وعن سلمان رحمه الله، قال أوّل هذه الأمّة وروداً على نبيّها صلّى الله عليه وآله أوّلها إسلاماً عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، قال السبق ثلاثة السابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين، والسابق إلى محمّد صلّى الله عليه وآله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن عروة بن الزبير، قال أسلم عليّ وهو ابن ثمان سنين. قال الحموئي عن أبي أيّوب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لقد صلّت الملائكة عليَّ وعلى عليٍٍّ سبع سنين، لأنّا كنّا نصلّي وليس معنا أحد يصلّي غيرنا. وعن ابن عبّاس، قال إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال أوّل من صلّى معي عليّ.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام أمّا ترضين أنّي زوّجتك أوّل المسلمين إسلاماً، وأعلمهم علماً، وقال صلّى الله عليه وآله لها زوّجتك خير أمّتي، وأعلمهم علماً، وأفضلهم حلماً، وأوّلهم سلماً. قال العلاّمة الأميني رحمه الله هذا – أي أوّلية إسلامه وهو ابن تسع أو ثمان أو غير ذلك – ما اقتضته المسالمة مع القوم في تحديد مبدأ إسلامه عليه السلام، وأمّا نحن فلا نقول إنّه أوّل من أسلم بالمعنى الذي يحاوله ابن كثير وقومه، لأنّ البدأة به تستدعي سبقاً من الكفر، ومتى كفر أمير المؤمنين حتّى يسلم؟! ومتى أشرك بالله حتّى يؤمن؟! وقد انعقدت نطفته على الحنيفيّة البيضاء، واحتضنه حجر الرسالة، وغذّته يد النبوّة، وهذّبه الخُلُق النبويّ العظيم، فلم يزلْ مقتصاً أثر الرسول قبل أن يصدع بالدين الحنيف وبعده، فلم يكن له هوى غير هواه، ولا نزعة غير نزعته، وكيف يمكن الخصم أن يقذفه بكفر قبل الدعوة وهو يقول ـ وإن لم نرَ صحّة ما يقول إنّه كان يمنع أمّه من السجود للصنم وهو حمل – أيكون إمام الأمّة هكذا في عالم الأجنة ثمّ يدّنسه درن الكفر في عالم التكليف؟ فلقد كان (صلوات الله عليه) مؤمناً جنيناً ورضيعاً وفطيماً ويافعاً وغلاماً وكهلاً وخليفةً.
لما مثل الدين شخصا وقاما ولولا أبو طالب وابنه بل نحن نقول إنّ المراد من إسلامه وإيمانه وأوليته فيهما وسبقه إلى النبيّ في الإسلام هو المعنى المراد من قوله تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام وأنا أول المسلمين، وفيما قال سبحانه عنه إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين، وفيما قال سبحانه عن موسى عليه السلام وأنا أوّل المؤمنين وفيما قال تعالى عن نبيّه الأعظم آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه، وفيما قال قل إنّي أمرت أن أكون أوّل من أسلم، وفي قوله وأمرت أن أسلم لربّ العالمين.
قال العلاّمة الشيخ خليل ويوم جهر النبيّ بدعوته كان عليّ أوّل الناس إسلاماً، وأسبقهم إيماناً، بل الواقع الصحيح أنّه عليه السلام لم يكن أوّل الناس إسلاماً، وأسبقهم إيماناً، بل كان أوّل الناس إعلاناً لإسلامه وجهراً بإيمانه لأنّ ذينك الإسلام والإيمان كانا كامنين في أعماق قلبه في كلّ كيانه يعيشهما بعمق وتأمّل وهو في كنف الرسول صلّى الله عليه وآله يستمدّ منه هدياً وإيماناً تماماً كما يستمدّ القمر من الشمس نوراً وضياء، وإذا لعليّ قدر ما لم يقدر لسواه من البشر ….
قال محمّد بن طلحة الشافعي لمّا نزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وشرّفه الله سبحانه وتعالى بالنبوّة كان عليٌّ يومئذ لم يبلغ الحلم وكان عمره إذ ذاك في السنة الثالث عشرة، وقيل أقلّ من ذلك، وقيل أكثر، وأكثر الأقوال وأشهرها أنّه كان لم يكن بالغاً، فإنّه أوّل من أسلم وآمن برسول الله صلّى الله عليه وآله من الذكور، وقد ذكر عليه السلام ذلك وأشار إليه في أبيات قالها بعد ذلك بمدّة مديدة، نقلها عنه الثقات ورواها النقلة الأثبات
محمّد النبيّ أخي وصنوي وحمزة سيّد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي يطير مع الملائكة ابن أمّي
وبنت محمّد سكني وعرسي منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها فأيّكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وأوجب لي ولايته عليكم رسول الله يوم غدير خمّ
فويل، ثمّ ويل، ثمّ ويل لمن يلقى الإله غداً بظلمي
قال العلاّمة الأميني رحمه الله قال عليّ عليه السلام أسلمت قبل أن يسلم الناس بسبع سنين.
قال عليه السلام عبدت الله مع رسول الله صلّى الله عليه وآله سبع سنين قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة.
قال عليه السلامآمنت قبل الناس سبع سنين.
قال عليه السلامما أعرف أحداً من هذه الأمّة عَبَد الله بعد نبيّنا غيري، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة تسع سنين.
قال عليه السلامعبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة خمس سنين.
نشأته
ولم يزل يدرج ويترعرع متميزاً بين أترابه، في أعماله، وأقواله. وكانت الظروف صعبةً في مكة، وقد أصاب البلد الحرام قحط شديد عمَّ بيت أبي طالب. فجاء النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى بعض أعمامه الأثرياء، يفاوضهم في الأمر. واقترح أن يتكفّلوا أبناء عمّه، فلمّا عرضوا عليه قال أبقوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم.
فأخذ كلّ من العبّاس وحمزة عمّا النبيِّ وهالة بنت عبد المطلب عمّته، واحداً من أبناء أبي طالب، وبقي عليّ عليه السلام فإذا بالنبيّ يستدعيه ليكون له صاحباً، فيغمره البشر، ويأوي إليه كما يأوي الفصيل إلى أُمّه. إنّ عليّاً الذي فتح عينيه- أوّل ما فتحهما- على ملامح النبيّ صلّى الله عليه وآله، وظلّ مغموراً ببركاته أيّام صغره. إنّ عليّاً الذي رأى في محمّد صلّى الله عليه وآله الحبّ والحنان، وكلّ خصال الخير والجمال، لا بدّ أن يأوي إليه ويسارع إلى قبول كفالته له، ويفيض فرحاً بذلك وابتهاجاً, أخذ عليّ يتبع كفيله وحبيبه النبيَّ محمداً صلّى الله عليه وآله ويطمئنّ إليه بكلّ قلبه، ويقلده في كلّ عمل، وذهب النبيّ صلّى الله عليه وآله يغدق على ابن عمِّه كلّ ما أفاءت إليه رحمة الله، من آداب حِسان وخُلق كريم.
ولم يزل عليٌّ يرى النبيّ صلّى الله عليه وآله دائم التفكير يقلّب وجهه في السماء يلتمس من ربّه نوراً.
وفي تلك الأيّام التي كان يتعبّد فيها النبيّ في غار حراء، كان عليّ يتدبّر في عبادته، ويفكّر فيها فيفهم معنى العبادة ومغزاها، ويؤمن بمن يعبده ويهتدي إليه بفطرته النقيّة التي لم يتسرّب إليها الشكّ أبداً.
إنّ عليّاً عليه السلام أوتي من النبوغ والذكاء ما يؤهّله لكلّ ما كان النبيّ صلّى الله عليه وآله مؤهّلاً له. ومن الخطأ أن نحدّد أوّل وقت آمن فيه، فلقد كان مؤمناً بفطرته ولا يصحّ لنا أن نقرن إيمانه بزمان دون زمان – هكذا عبّر النبي – ذات مرّة إذ سأله رجل من المسلمين عن أوّل وقت آمن فيه الإمام عليّ فقال إنّه لم يكن كافراً حتّى يؤمن، كما أنّه نفسه بيّن ذلك حين أكّد أنّه لم يكن مسبوقاً بالشرك.
وعندما هبط الوحي على قلب محمّد صلّى الله عليه وآله وجاء النبيّ إلى الإمام يخبره، ينفتح قلبه على أمر موعود، وحقيقة منتظرة، ذلك اليوم كان عمر الإمام عشر سنوات، ولم يكن يعرف إنسان طيّب يمتاز عليه من الآخرين، بل كانت فيه كلّ معاني الفضيلة والسموّ، صدقه، أمانته، برّه بالخلق، إحسانه، صلته للرحم وغير ذلك .. أجل لم يكن هناك من يمتاز عليه غير محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله البرّ الكريم، فكيف لا يصدّقه وكيف لا يتبعه.
وذات يوم دعاه النبيّ إلى الصلاة، فقام عليه السلام يتعلّم قواعدها ويتوجّه إلى المسجد الأقصى حيث القبلة الأولى للمسلمين .. فيصلّي بصلاة النبي، وتصلّي وراءهما خديجة زوجة الرسول. فهؤلاء ثلاثة ليس لهم الآن نظير على الأرض، يبتهلون إلى الله بركعات، يرتّلون من آي الذكر الحكيم، ما يزيدهم هدى، ويملأ شعورهم إيماناً واطمئناناً.
لقد تشكّلت الآن أوّل خليّة حيّة، بين ملايين الخلايا الميتة في المجتمع البشريّ. وإنّها تسعى لكي تزيد نفسها حجماً وقوّة، وتبعث الحياة – بإذن الله – إلى سائر الخلايا.
ومن هذا العقد من حياة عليّ عليه السلام يبتدئ عهده مع الجهاد والتضحية، لقد انتقل من بيت كفيله إلى بيت والده من سنتين، بيد أنّه لا يزال يقضي غالب أوقاته في بيت خديجة قريباً من الرسول صلّى الله عليه وآله ليرفع له كلّ يوم علماً في المعارف والآداب فيتَّبعه.
وظلّ الإسلام يتّخذ من هذه الأنفس المباركة – أنفس محمّد وعليّ وخديجة – أولى قواعده وأزكاها .. حتّى اجتمع إليه رجال ونساء يتّحدون بالإسلام ضدّ الوضع الفاسد.
وظلّ دعاة الإسلام يبذلون في سبيل الدعوة طاقاتهم ودمائهم، حتّى نمت شجرة الإسلام، وجاء الوحي يأمر النبيّ بأن يصدع بما يؤمر وينذر عشيرته الأقربين وإظهارها للناس أجمعين.
فأمر النبيّ علياً عليه السلام أن يهيّئ طعاماً ويدعو بني هاشم إلى بيته. واجتمعوا إليه يقودهم أبو طالب سيّدهم ووالي أمورهم.
فلمّا طعموا ورأوا أنّ قصعة الثريد، التي أكلوا منها لم ينقص منها شيء وعجبوا، وجاء النبيّ يكلمهم بشأن الدعوة راح عمّه أبو لهب، يبعث كلماته الساخرة.
إنّ أبا لهب كان من ألدّ أعداء الإسلام، مع أنّه كان من أقرب الناس رحماً بالنبيّ صلّى الله عليه وآله ولم ينزل في القرآن آية تذكر فرداً من معاصري النبيّ بالسوء غير ما نزل في حقّ أبي لهب، وفي سورة كاملة تُبتدأ بقول شديد{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }(المسد1)
وقد كان أوّل المستهزئين بالرسول، ذلك النهار، حيث قال بين فتيان بني هاشم الذين كانوا زهاء أربعين رجلاً، قال لشدّ ما سحركم صاحبكم، أي ما أعجبه رجلاً قد سحركم. فتفرّق القوم ولم يكلّمهم الرسول صلّى الله عليه وآله.
فلمّا كان من غدٍ استضافهم عليّ عليه السلام مرّة أخرى فجاؤوا وأكلوا وشربوا، وقبل أن يتكلّم أبو لهب، ابتدأهم الرسول قائلاً
يا بني عبد المطلب، إنّي – والله – ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به. إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة. وقد أمرني الله تبارك وتعالى أن أدعوكم، فأيّكم يؤازرني على أمري، على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟.
فأحجم القوم جميعاً، إلاّ علياً، وكان ذلك اليوم كما يصف نفسه أحدثهم سنّاً، وأرمضهم عيناً وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً فقال
أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه.
فأخذ برقبته ثمّ قال فاسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعليِّ وتطيع.
وظلّت هذه الدعوة تتراوح بين عليّ عليه السلام وخديجة عليه السلام ثلاث سنوات، وكان النبيّ يصلّي بهم في خفاء، ويؤدّي بهم مناسك الحجّ على سنّة الإسلام، حنيفاً بها عمّا كان يأتيه أهل الجاهلية.
فلقد أُثر عن عبد الله بن مسعود قوله إنّ أوّل شيء علمته من أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله قدمت مكة في عمومة لي، فأرشدونا إلى العبّاس بن عبد المطلب، فانتهينا إليه وهو جالس, فجلسنا إليه فبينما نحن عنده، إذ أقبل رجل من باب الصفا تعلوه حمرة، وله وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف، برّاق الثنايا، أدعج العينين كث اللحية رقيق المسربة شثن الكفَّين حسن الوجه، معه مراهق ومحتلم تقفوه امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصدوا نحو الحجر، فاستلمه ثمّ استلمه الغلام، ثمّ استلمته المرأة، ثمّ طاف بالبيت سبعاً، والغلام والمرأة يطوفان معه. فقلنا يا أبا الفضل، إنّ هذا الدِّين لم نكن نعرفه فيكم. أوَ شيءٌ حدث؟ قال هذا ابن أخي محمّد بن عبد الله والغلام عليّ بن أبي طالب، والمرأة امرأته خديجة بنت خويلد، ما على وجه الأرض أحد يعبد الله تعالى بهذا الدِّين إلاّ هؤلاء الثلاثة.
وقال عفيف الكندي كنت امرءاً تاجراً، فقدمت الحج فأتيت العبّاس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، – وكان امرءاً تاجراً – فوالله إنّي لعنده بمنى إذ خرج من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس، فلمّا رآها قد مالت، قام يصلّي قال ثمّ خرجت امرأة من الخباء الذي خرج ذلك الرجل منه فقامت خلفه فصلَّت، ثمّ خرج غلام هيِّن راهق الْحُلم من ذلك الخباء فقام معه فصلَّى قال فقلت للعبّاس مَن هذا يا عباس؟ قال هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي قال فقلت مَن هذه المرأة؟. قال امرأته خديجة بنت خويلد قال فقلت من هذا الفتى؟ قال عليّ بن أبي طالب ابن عمّه قال فقلت له ما هذا الذي يصنع؟ قال يصلِّي، وهو يزعم أنّه نبيّ ولم يتَّبعه على أمره إلاّ امرأته وابن عمّه هذا الفتى، وه ويزعم أنّه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر.
ومضت على الدعوة مّدة، وعليُّ يستقيم على الصراط السويّ، ويقاوم الضغوط، ويصوغ الوحي شخصيّته الفذّة. ثم التف حول الدعوة رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر ربّهم. فلمّا أمرهم النبيّ بالهجرة إلى الحبشة وأمَّر عليهم جعفر أخا عليٍّ عليهما السلام، قامت قيامة قريش الذين رأوا من مناوئهم – العظيم – القوّة وحسن التدبير، فأخذوا يدرسون خطّة أخرى أشد وأقسى مما سبق، وذلك بفرض حصار اجتماعي على بني هاشم زاعمين أنهم شذُّوا عن النظام الاجتماعي السائد.
فدبّروا أمر الصحيفة الملعونة، حيث أَجمعوا على أن لا يخالط النبيَّ صلى الله عليه وآله ومن دار في أفقه من الهاشميّين، وعلى رأسهم سيّدهم أبو طالب، ولا يعاملهم أحدٌ أبداً .. فجمع أبو طالب أهله في شِعْبٍ له، وذبَّ عنهم بما كان لديه من طاقة وسلطان.
وتلك كانت فرصة سانحة للإمام عليّ عليه السلام أن ينهل من نبع النبي الفيّاض كلّ مكرمة وفضيلة ومعرفة، كما استطاع أيضاً أن يمارس جهاده الشاقّ طيلة ثلاث سنوات. ولعلّ هذا كان أوّل ميادين الجهاد التي خاضها ابن أبي طالب عليه السلام ولكن كان له من قبله جهاد آخر، إلاّ أنه ليس في هذا المستوى، وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان يمرّ بطرقات مكّة فيرشقه أبناء مكّة بالحجارة والحصى بأمرٍ من أوليائهم، ولم يكن صلّى الله عليه وآله يعبأ بذلك، بيد أنّ علياً عليه السلام كان يصاحبه ويدافع عنه.
ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام
كان يوماً قائضاً شديد الحرارة,ووقت زوال الشمس يقترب,وربّما كانت آخر ساعة من ساعات اللقاء، لقاء الرسول الكريم مع مئة وعشرين ألف من المسلمين. عندما وقف الرسول,وأوقف المسلمين,ليعلن عن ساعة الوداع,ولحظات الوداع غالباً تكون ذات نكهة خاصة وذات طعم لا يُنسى,في تلك الساعة بلّغ الرسول صلّى الله عليه وآله ما أُنزل إليه من ربّه,في ذلك الوقت أعلن أنّ عليّ بن أبي طالب خليفته ووصيه ووارثه,إذ وقف في مكان مرتفع حتّى يراه جميع الناس ويسمعوه,فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال أيّها الناس، يوشك أن أُدعى فأجيب وإنّي مسؤول,وإنّكم مسؤولون,فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنّك قد بلّغت وجاهدت ونصحت,فجزاك الله خيراً.فقال أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله ..وأنّ جنّته حقّ,وأنّ ناره حقّ,وأنّ الموت حقّ,وأنّ البعث حقّ بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور؟ قالوا نشهد بذلك,قال اللهمّ اشهد.ثمّ قال أيّها الناس إنّ الله مولاي,وأنا مولى المؤمنين,وأنا أولى بهم من أنفسهم فمَن كنتُ مولاه,فهذا عليٌّ مولاهُ,اللهمّ والِ مَن والاه,وعادِ من عاداه,وأكمل الرسول خطبته ثمّ نزل وصلّى ركعتين,فأذّن مؤذّنه للظهر,فصلّى بأصحابه ثمّ جلس في خيمته,وأمر علياً أن يجلس في خيمة له.فأمر المسلمين ببيعته في الخلافة.وهكذا مارس الرسول صلّى الله عليه وآله ما من شأنه أن يحفظ مستقبل الرسالة الإسلاميّة,باعتباره رسولاً نبياً, أمره الله تعالى أن يعلن لأهل الأرض كلّهم حاضرهم وغائبهم,ذَكَرهم وأنثاهم,كبيرهم وصغيرهم.وأن يعلن للأجيال التالية جيلاً بعد جيل.وأن يخاطب الدنيا كلّها حتّى آخر لحظة من الحياة أنّ علياً خليفته ووصيّه ووارثه وأنّه الإمام من بعده.وقال في آخر لحظة من حياته آتوني بدواة وقرطاس, أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً.وهكذا خطّط الرسول لمستقبل الأمّة وضمان وحدتها. ونزلت هذه الآية المباركة في يوم الغدير اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً.فما أعظم هذا اليوم,وأيّة فرصة أكبر من لقاء الرسول الأعظم مع مئة وعشرين ألف من المسلمين على بساط الحدث الفريد لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم.
وصال المحبوب
ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، تُعتبر من الليالي التي يُرجى فيها أن تكون ليلة القدر.وكان حديث الناس في تلك الليلة في كلّ مكان حول الحرب، بعد أن بثّ الإمام عليه السلام فيهم روح الجهاد، ودبّ إليهم النشاط والعزيمة.
وفي طرف مسجد الكوفة كان يصلّي جماعة من المصريّين، كعادتهم في كلّ ليلة، قريباً منهم عند السرة كان يصلّي جماعة باجتهاد.وهناك في بيت متواضع على طرف تستضيف الإمامَ عليه السلام ابنتُه، فتحمل إليه عند الإفطار رغيفاً من الخبز ولبناً وشيئاً من الملح، فيأمرها برفع اللبن.ولمّا تناول لقمات نهض لصلواته، وبين الفينة والأخرى كان يتطلّع إلى السماء فيقول هي هي الليلة التي وُعدت بها.لا كَذبت ولا كُذِّبت ..مّ يخرج إلى المسجد، ويدخله من ذات الباب الذي اجتمع خلفه أولئك الرجال.
يقول الراوي خرج عليهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند الفجر، فأقبل ينادي ..الصلاة الصلاة، وبعدها رأيت بريق السيف، وسمعت قائلاً يقول الحكم لله لا لك يا عليّ، ثمّ رأيت بريق سيف آخر، وسمعت عليّاً يقول لا يفوتنَّكُم الرجل.وكان الأشعث قال لابن ملجم النجاة لحاجتك قبل أن يفضحك الفجر.
فمن هو الذي اشترك في المؤامرة ضدّ حياة قائد المسلمين؟
إنّهم ثلاثة اجتمعوا في الحجّ وقررّ كّل واحد منهم اغتيال واحد من الثلاثة معاوية، وعمرو بن العاص، والإمام عليه السلام فلم ينجح صاحب عمرو بن العاص، إذ كان قد استناب عنه آخر للصلاة فقُتل، بينما وقع سيف صاحب معاوية على فخذه وجرحه جرحاً بسيطاً.
أمّا ابن ملجم الذي كان قد اشترى سيفه بألف وسمَّمه بألف فقد التقى فيما يبدو بالمعارضة التي تنامت في الكوفة، وكان يقودها ابن الأشعث الذي بدأ يتباكى على مصرع الخوارج، وكان قد دخل الإمام عليه السلام قبل فترة فأغلظ عليه لمؤامرته المستمرّة ضدّ الإسلام، فتوعّده وهدّده بالفتك، فقال له الإمام
أَبِالموت تخوِّفني وتهدِّدني؟ فوالله ما أُبالي وقعتُ على الموت أو وقع الموتُ علَيَّ .
وهكذا تعاون معه في جريمته سبيب بن بجران، ووردان بن مجالد، ولعل رجالاً آخرين من جماعة ابن الأشعث كانوا مساهمين معهم.
ومن خلال الأشعث التقت مصلحة الخوارج بمصالح معاوية الذي كان يخشى هجوماً صاعقاً لجند الإسلام ضدّه. وكان لا يني من توزيع الوعود على الطامعين في الكوفة، للفتك بالإمام عليه السلام.
وبعد تنفيذ الجريمة، حُمل الإمام عليه السلام إلى البيت، وأُحضر عنده ابن ملجم فقال الإمام
النفس بالنفس، إن أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني، وإن سلمتُ رأيتُ فيه رأيي.وأضاف يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين. أَلاَ لا يَقتلنَّ إلاّ قاتلي.
ودخل على الإمام عليه السلام أكبر أطباء الكوفة واسمه أثير بن عمر بن هاني، فلمّا فحصه مليّاً قال يا أمير المؤمنين اعهد عهدَك، فإن عدوّ الله قد وصلت ضربتُه إلى أمّ رأسك.
ويقول الأصبغ بن نباتة دخلتُ على أمير المؤمنين عليه السلام، فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمُه واصفرَّ وجهه.فما أدري وجهه أشدّ صفرة أم العمامة، فاكببتُ عليه فقبّلته وبكيت.فقال لي لا تبكِ يا أصبغ فإنّها والله الجنة.
فقلت له جَعلتُ فداك، إني أعلم والله أنّك تصير إلى الجنّة، وإنمّا أبكي لفقداني إيّاك يا أمير المؤمنين.
وبكت عنده أم كلثوم بعد أن نعى إليها نفسه، فقال لها لا تؤذيني يا أم كلثوم، فإنّك لو ترين ما أرى، إنّ الملائكة من السماوات السبع بعضهم خلف بعض، والنبيّون يقولون انطلق يا عليّ فما أمامك خير لك ممّا أنت فيه .
وبقي الإمام عليه السلام ثلاثاً تشتدّ حالته، حتّى كان ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان، في الثلث الأول منها، وعهد عهده إلى الإمام الحسن وأوصاه وأخاه الإمام الحسين عليهما السلام بآخر وصاياه، ثمّ ودّع أهل بيته، واستقبل ملائكة ربّه بالسلام وفارقت روحه الزكيّة الحياة، وصرخت بناته ونساؤه، وارتفعت الصيحة في بيته، فعلم أهل الكوفة أنّ أمير المؤمنين قد قُبض، فأقبل الرجال والنساء أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة، وارتجَّت الكوفة بأهلها، وكان ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وآلهّ.
ثمّ غسّله الإمام الحسن والإمام الحسين معاً سلام الله عليهم أجمعين، بينما كان محمّد بن الحنفية يصبّ الماء.وحُنِّط ببقية حنوط رسول الله، ووضعوه على سريره، وصلَّى عليه الإمام الحسن عليه السلام، وحُمل في جوف الليل من تلك الليلة إلى ظهر الكوفة فدفن بالنوبة عند قائم الغرَّيين حيث مرقده الشريف الآن.
وكانت الحكمة في كتمان موضع قبره الذي ظل سريّاً عن العامة حتى عهد الإمام الرضا عليه السلام، اتَّقاء شرِّ الخوارج وبني أمية، ثم قتل ابن ملجم وأحرق بالنار.
وطويت صفحة ناصعة من حياة الإمام عليه السلام بشهادته، لتنشر على مدى الدهر صفحات مجده وعزّه، وفضائله، وتابعيه على الهدى والاستقامة.فسلام الله عليه حين ولد في الكعبة، وحين وقع صريعاً في محراب الكوفة، وحين مضى شهيداً وشاهداً على الظالمين، وحين أضحى راية العدالة وعلم الهدى، ومنار التقوى.وسلام الله عليه حين يبعث حيّاً، ليجعله الله ميزاناً يفصل به بين عباده، وقسيماً للجنة والنار ..وسلام على الصدِّيقين الذين اتَّبعوا خطاه، وعلى شيعته الذين تحمّلوا في ولائه ما تعجز عنه الجبال الراسيات.