فجوابي للأختين الفاضلتين و من يشاطرهن الرأي أقول :
لسنا ماضويين ـ و إن كنا من عشاق خالاتنا أمسى و أصبح ـ ولكن حينما لا يكون الإنسان قادراً على استيعاب الأفكار الحاضرة إلا من خلال أدلجة الواقع بما ينسجم و طموحات الماضي البعيد ، فحينها يكون الإنسان مقطوعاً عن حاضره مشدوداً لماضيه و كأنّه معلّق في الهواء ، فتخطفه الطير أو تهوي به الرّيح في مكان سحيق ، فلا يأوي إلى ركن وثيق و حينئذٍ فربما كانت التناهيد حافزاً للملمة الجراحات خاصة تلك التي تكون عميقة الغور .. فتأملوا ..
إن مغادرة الماضي و الرّحيل إلى مابعد سقوط النّظام لهو سفر شاق و مضني و جهيد فبين دار أبي الأرقم و بين سقيفة بني ساعدة مسافة طويلة و رحلة شاقّة ، كتبت شطراً منها في كتابي (المرجعيًة الدّينيّة و العمل السّياسي) و لكنني أحرص على كتم ما جاء فيه و تركه و عدم نشره بقدر ما أحرص على نشر تناهيد دار أبي الأرقم و لأن كانت الأولى تناهيد فالثّانية زفرات السّقيفة .
فبيّن دار أبي الأرقم و السّقيفة رحلة متناقضة في فصولها مضطربة في معانيها بين البساطة و التّعقيد ، و بين الجشع و الزّهد ، و بين ربٍّ رحيم ، و شيطانٍ رجيم ، و بين قدّيسة و ماجنة ، و بين ملكٍ مقرّب و شقيٍّ ضال ، و بين شيت و قابيل ، و بين معصومٍ و أسير الشّهوات ، و بين خديجة و أم جميل ، و بين حمزة و أبي لهب ، و بين فاطمة و هند ، و بين سلمان و عبد الرّحمن بن عوف ، و بين أبي ذر و عثمان .
هي رحلة لا يشبه بعضها بعضاً لأن مقاسات السّقيفة و مناخها و كل شيء فيها مختلفٌ تماماً عن دار أبي الأرقم ، و طالما كانت السّقيفة ليست المقصد و الغاية ، فعلى الفرد قبل أن يصل إلى شعاب يثرب أن يعيد بذاكرته إلى رواشح دار أبي الأرقم ، فيأخذ جانباً في الأبواء أو في مرّ الظهران ، و ينادي يا أيتها العير أن قفوا ، فإنّي لا أرغب بإتمام المسير في رحلة تنتهي بي حيث السّقيفة ، و لا أريد أن أبيع أيام دار أبي الأرقم بملئ الأرض ذهباً ،و لكن على الفرد أن يمضي في طريقه بهدوء ، و لا يلتفت وراءه و من دون أن يعكّر صفوة الظّاعنين و ثمال العاشقين .