قبل تشريع الصيام، وفي العاشر من شهر رمضان أصيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحزنٍ عميق، ففي ذلك اليوم رحلت رفيقة رسالته ومعاناته زوجته السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيها: “رُزقتُ حبَّها”.
والحبُّ هو انجذاب قلب الحبيب بسبب كمالات في المحبوب، وهو انجذاب ينطلق من الفطرة التي أودعها الله في الإنسان تشدُّه نحو الكمال، لذا عبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حبّه للسيدة خديجة (عليها السلام) بقوله “رُزقت حبَّها”، فما هي تلك الكمالات التي جذبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خديجة الكبرى؟
والتي كان بسببها المكانة العظيمة لها عند الله تعالى ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام).
نطلّ أولاً على المكانة، ثم نحاول فهم أسبابها الكمالية.
مكانة السيدة خديجة عند الله تعالى
وردت أحاديث عديدة تبيّن مقام السيدة خديجة عند الله عز وجل منها:
ورد أنّه “نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن خديجة عليها السلام، فلم يجدها، فقال: إذا جاءت فأخبرها أنَّ ربّها يقرئها السلام”.
وورد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لابنته فاطمة (عليها السلام) يواسيها برحيل أمّها: “إنّ جبرئيل عليه السلام عهد إليّ أنّ بيت أمّك خديجة في الجنّة بين بيت مريم ابنة عمران، وبين بيت آسية امرأة فرعون، من لؤلؤ جوفاء، لا صخب فيه ولا نصب”.
ومن مآثر السيدة خديجة أنّ الله تعالى اختار بيتها مكان الانطلاق في إسراء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موسِّعاً من المسجد الحرام ليضم بيتها إليه فقال عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾.
مكانة السيدة خديجة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كان النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن السيدة خديجة (عليها السلام) بافتخار أمام المسلمين، فقد ورد أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في المسجد: “يا معشر الناس، ألا أدلّكم على خير الناس جدّاً وجدّة؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: “الحسن والحسين عليهما السلام، فإنّ جدّهما محمد، وجدتهما خديجةُ بنت خويلد”.
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يهتم بمن كان له علاقة بالسيدة خديجة (عليها السلام)، فقد ورد أنَّ عجوزاً دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فألطفها، فلما خرجت سألته عائشة من هذه؟
فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم): “إنها كانت تأتينا زمن خديجة عليها السلام، وإنّ حسن العهد من الإيمان”.
ومن شدّة حبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للسيدة خديجة (عليها السلام) سمّى العام الذي توفيت فيه، وتوفي فيه أيضاً عمُّه أبو طالب بعام الحزن.
مكانة السيدة خديجة عند أهل البيت عليهم السلام
كانت السيدة خديجة محلّ افتخارٍ للأئمة عليهم السلام في انتسابهم إليها. ففي كربلاء وقف الإمام الحسين عليه السلام يخاطب القوم:
“هل تعلمون أنَّ جدتي خديجة بنت خويلد أوَّلُ نساء هذه الأمة إسلاماً؟”.
وفي زيارتنا للإمام الحسين عليه السلام علّمنا أهل البيت (عليهم السلام) أن نسلم عليه قائلين: “السلام عليك يا بن خديجة الكبرى”.
وأن نقول له: “أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة”.
كما ورد في زيارة القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عن الشيخ سعيد بن القسم بن روح: “تسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أمير المؤمنين عليه السلام بعده، وعلى خديجة الكبرى عليها السلام وعلى فاطمة الزهراء عليها السلام وعلى الحسن والحسين عليهما السلام وعلى الأئمة عليهم السلام واحداً واحداً إلى صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف”.
مآثر السيدة خديجة
ما هي أسباب هذه المكانة للسيدة خديجة (عليها السلام) عند الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)؟
يمكن أن نقارب الأسباب بمواصفات السيدة خديجة الآتية:
1- بصيرتها
كان للسيدة خديجة (عليها السلام) بصيرة واضحة تجلّت في اكتشافها المبكر لكمالات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد ورد أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قبل البعثة، حينما كان متوجّهاً نحو منزل السيدة خديجة، ليخبرها عن نتاج التجارة التي موّلتها، كانت السيدة خديجة جالسة مع نساء قومها في موضع تستشرف الطريق، فرأتْ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعيد، لكنَّها لم تتعرّف إليه، فقالت لنساء قومها: “يا هؤلاء، ما ترين أنَّ لهذا الرجل قدراً عظيماً؟ أما ترينه منفرداً وعلى رأسه غمامة تسير بمسيره، وتقف لوقوفه، وتظلّه من الحرّ والبرد، والطير ترفرف عليه بأجنحتها، ولها زجل وتسبيح وتمجيد وتقديس لله ربّ العالمين، يا ليت شعري من هو؟! أظنّ هذا الرجل يقصد حيَّنا. فلما دنا منها تبيَّنته، فقالت لهن: هذا محمد بن عبد الله،! فقرب منها، فسلّم، فردّت عليه السلام وقرّبته منها، ورفعت مجلسه، فبشَّرها بما رزقها الله تعالى من تجارتها، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وقالت: يا محمد، أعرض عليك أمراً وهي حاجة، لي بعضها، وهي لك حظّ ورغبة، قال: وما هي؟ قالت: أريد أن تتزوجني، فقد تباركت بك، ورأيت منك ما أحبّ، وأنا من عرفت شرفي وحسبي ونسبي وموضعي من قومي وسيادتي في الناس، وكثير لا ينالون تزويجي، وقد عرضت نفسي عليك…”.
وبسبب بصيرتها هذه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبرها بما يحدث معه، فقد ورد أنّ أوّل تواصل من قبل جبرئيل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرها به، فكانت المصدِّقة له في ذلك.
2- اهتمامها بما يهتمّ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كانت السيدة خديجة قبل البعثة تهتم وتتفاعل إيجاباً مع اهتمامات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان حينما يصعد إلى جبل حراء تواكبه بالطعام والشراب، معينة له في ما يقوم به.
وقد زاد اهتمامها لما يهتمّ به بعد البعثة الشريفة مواكبة له في ذلك، وهذا ما نلاحظه من خلال ما روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “افتقد علياً عليه السلام، فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً، فلما رأتْ ذلك خديجة قالت: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فشدّت على بعيرها، ثم ركبت، فلقيت عليّ بن أبي طالب، فقالت له: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّه بك مغتم…
“قالت خديجة: فمضيت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو قائم يقول: اللهمّ فرّج غمّي بأخي عليّ. فإذا بعليّ قد جاء، فتعانقا. قالت خديجة: ولم أكن أجلس إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً، قالت: فما افترقا متعانقين حتى ضربت عليّ قدماي”.
3- تصديقها المبكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ورد أنّ إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعجبت من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للسيدة خديجة عليها السلام فردّ عليها قائلاً: “صدّقتني إذ كذّبتني الناس…”.
لقد كانت السيدة خديجة أول امرأة آمنت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ورد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بُعِثَ يوم الاثنين، وأنّ السيّدة خديجة عليها السلام أسلمت في نفس ذلك اليوم.
وورد عن الإمام علي عليه السلام: “ما كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري وغير خديجة”.
وقد ورد عن أحد القادمين إلى مكة في أوّل البعثة النبويَّة قوله:
“جئت في الجاهلية حتى قدمت مكة لأبتاع لأهلي من ثيابها وعطرها، وآويت إلى العباس، وكان رجلاً تاجراً، (فبينما أنا) جالس عنده… أنظر إلى الكعبة، وقد حلقت الشمس في السماء إذ أقبل فتى شاب حتى رمى ببصره إلى السماء، فنظر، ثم أقبل إلى الكعبة، فدنا منها، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء شاب، فصنع كما صنع، ثم قام إلى جنبه، فما مكث إلا يسيراً، حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فأهوى الشاب فركع، فركعا، فرفع فرفعا، ثمّ أهوى إلى الأرض ساجداً فسجدا، فقلت: يا عباس، أمر والله عظيم! فقال: أمر والله عظيم! هل تدري من هذا؟ قلت: لا. قال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، هل تدري من هذه المرأة؟ قلت: لا. قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي. هل تدري من هذا الفتى؟ هذا عليّ بن أبي طالب ابن أخي. هذا الذي ترى ذكر أنّ ربّه ربُّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين، فهو عليه، ولا والله، ما أعلم على ظهر الأرض كلّها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة”.
4- بذل مالها في خدمة الرسالة
أكمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثه السابق: “صدّقتني إذ كذّبتني الناس، وواستني بمال إذ حرمني الناس..”.
وقد روي عن ابن عباس أنه فسّر قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ أي وجدك فقيراً، فأغناك بمال خديجة.
لقد كانت السيدة خديجة صاحبة ثروة كبيرة، فقد كانت تملك- فيما ورد – عشرات العبيد والإماء، وآلاف الإبل، ومئات الأواني من الذهب والفضة وغير ذلك، وقد بذلت كلّ أموالها في سبيل دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بقيت تنام هي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كساءٍ واحد لم يكن لها غيره.
5- حملها لمشكاة الأئمة عليهم السلام
أكمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثه السابق: “صدّقتني إذ كذّبتني الناس، وواستني بمال إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ لم يرزقني من غيرها”.
لقد أكرم الله تعالى السيدة خديجة بأن اختارها رحماً طاهرةً للحوراء الإنسية السيدة الزهراء عليها السلام، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل عليه السلام فأدخلني الجنة، فناولني من رطبها فأكلته، فتحوّل ذلك نطفة في صلبي، فلمّا هبطتُ إلى الأرض واقعتُ خديجة فحملَتْ بفاطمة، ففاطمةُ حوراء إنسية، فكلّما اشتقتُ إلى رائحة الجنة شممتُ رائحة ابنتي فاطمة”.
هجرتها نسوة مكة، فكنَّ لا يدخلْنَ عليها، ولا يسلّمْنَ عليها، ولا يتركْنَ امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة عليها السلام لذلك، إلّا أنّ الله تعالى أكرمها بحديث جنينها معها فكانت فاطمة عليها السلام وهي جنين “تُحدِّثُها من بطنها وتصبِّرها…، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فسمع خديجة تحدِّث فاطمة عليها السلام، فقال لها: يا خديجة، من تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني. قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنّها أنثى، وأنَّها النسلة الطاهرة الميمونة، وأنَّ الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه.
فلم تزل خديجة عليها السلام على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجّهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء. فأرسلن إليها: أنت عصيتنا، ولم تقبلي قولنا… فلسنا نجيء
ولا نلي من أمرك شيئاً.
فاغتمّت خديجة عليها السلام لذلك، فبينما هي كذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال، كأنّهنَّ من نساء بني هاشم، ففزعت منهنّ لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة، فإنّا رسل ربّك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثوم أخت موسى بنت عمران عليه السلام، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء”.
“اللهم صلّ على الصدّيقة فاطمة الزكية حبيبة حبيبك ونبيك وأمّ أحبائك وأصفيائك التي أنتجبتها وفضلتها على نساء العالمين… وكما جعلتها أمّ أئمة الهدى وحليلة صاحب اللواء والكريمةَ عند الملأ الأعلى فصلِّ عليها، وعلى أمِّها خديجة الكبرى صلاة تكرم بها وجه أبيها محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم وتقرّ بها أعين ذريتها، وأبلغهم عني في هذه الساعة أفضل التحية والسلام”.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية