الرواد الأوائل للمشروع الإسلامي
_____
( خديجة الكبرى ع .. سيدة المبدأ)
ان الثبات على المبادئ و عدم التزحزح عنها من الوسائل اللازمة لتحصيل ثمار النجاح والتقدم ، و ما ظفر عامل بمرغوبه إلا بفضل الثبات على القيم والمبادئ .
فالناس بالنسبة إلى الثبات على صنفين :
1 _ ثابت كالطود على مبدئه لا تزعزعه العواصف ، ولا تزلزله القواصف ، حيث يتجلى هذا الثبات في جميع أحواله فهو ثابت الجنان واللسان والقدم و العمل، لا يكترث بما يلاقيه من التعب ، ولا تثنيه عنه قوة المعارضة، وهذا دليل على كمال الصدق والإخلاص ، وهذا هو المعول عليه في خط الرسالة .
2 _ متزلزل العقيدة، متضعضع الفكر، يستحسن اليوم مبدأ ويستقبحه غدا، يدخل اليوم في مشروع و يخرج منه غدا، وهذا ممن لا ينتج نجاحا ، بل وجوده يهدم مشروع الرسالة من الداخل ويفت في ساعد العاملين و يثبط عزيمتهم ،
وهنا تبرز شخصية السيدة خديجة عليها السلام في ثباتها في خط الرسالة، وتضحيتها بمالها ، ووجودها الاجتماعي ، ومنزلتها الاسرية ، من أجل اقامة دعائم الاسلام .
لذلك بقيت مستوعبة لكل المشاعر الإلهية المقدسة للخاتم صلى الله عليه وآله ، فكان لا يفتا يستذكرها ، ويدعو لها ، ويتصدق عنها ، ويتاوه لفراقها ، لأنها الركن الثابت الذي استند عليه ، والتي على كل ماقدمته للإسلام وهي ثابته المبدأ ، نراها تقدم اعتذارا وانكسارا لرسول الله صلى الله عليه وآله عن تقصيرها :
( فلمّا اشتدّ مرضها ، قالت :
إنّي قاصرة في حقّك فاعفني يا رسول الله .
قال ص : حاشا وكلّا، ما رأيت منكِ تقصيراً، فقد بلغتِ بجهدك، وتعبت في داري غاية التعب، ولقد بذلت أموالكِ وصرفت في سبيل الله مالَكِ ) ([1]) .
وهنا نتامل قليلا بما سجلته عليها السلام من دروس وعبر وتأملات للأجيال عبر الزمن :
اولا : الصبر الرسالي :
___
وهو ان يتحمل الانسان كل تبعات الانتماء للخط الرسالي ، ويصبر بوعي وايمان وعلم وعقيدة على وخز القريب والبعيد ، ويتعايش مع الم المسؤولية حبا لله ، وتقربا إليه ، ويألف دفع الضرائب رخيصة من أجل الدين .
وهكذا كانت خديجة الكبرى عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، راضية محتسبة، لم تتبرم له لوعثاء الطريق ، بل ازرته ، ووضعت يدها بيده في المحنة ، ورضيت أن تترك منزلها الفاخر ، وتخرج حبيسة معه صلى الله عليه واله بين جبلين، لتفترش الحصباء وتلتحف السماء، وتكابد الجوع والفقر ، وهي الثرية المقتدرة .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ([2])
ثانيا : صورة المرأة في الإسلام
_______
اعطت السيدة خديجة عليها السلام صورة جميلة ومشرقة وواعية خلال مسيرتها في الحياة عن المرأة في الاسلام ، ودورها في قيادة الحركة الاسلامية بجناحها النسوي مع النبي القائد صلى الله عليه وآله ، ونشاطها الثقافي والانساني والحركي والاجتماعي في بناء المجتمع ، وذلك بمؤازرتها الرجل الانموذج ، ووقوفها معه في بداية انطلاق مشروع التغيير والإصلاح .
وهذا خلاف ما تبنته الحضارة المزعومة حين امتهنت المراة وباعتها سلعة رخيصة في سوق الشهوات ، لذلك كرمها الله تعالى بتكريم متميز ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله (ان الله بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ) (3 )
ثالثا : التقاليد وتقاطعها مع روح الشريعة وآدابها
________
اعطت نموذجا عمليا رائعا في مخالفة الاعراف والقواعد التقليدية السائدة في المجتمع ، حين قبلت الانسان المتكامل خلقا ووعيا ورسالة حبيبا وزوجا لها ، وابا لاسرتها ، وهي رسالة من سيدة الوعي ، وحكيمة البيت النبوي لشبابنا وشاباتنا واسرنا ، فتقول للشباب :
( تخيروا نساءكم وفق موازين الدين والاخلاق والوعي لا المال والشكل وصغر السن كما هو سائد اليوم في ثقافة اختيار شريكة الحياة ، والذي _ مع بالغ الأسف _ يعد سببا مؤثرا من اسباب انتشار الطلاق في المجتمع .
ورسالة الى الشابات والأسر:
( اختاروا الشاب المؤمن الواعي الخلوق ، وفكروا في بناء الاسرة السعيدة التي ملؤها الحب والانسجام والتفاهم .
ولا تفكروا فقط بالمال والجاه والمنصب )
روي عن النبي صلى الله عليه وآله :
( من تزوج امرأة لا يتزوجها الا لجمالها لم ير فيها ما يحب ..)([ 4] )
وروي عنه عليه واله الصلاة والسلام :
( اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ) ([5]) .
رابعا : المال ودوره في حياة الانسان
_______
اعطت سلام الله عليها توضيحا عمليا لفلسفة المال في حياة الانسان المسلم الواعي الغيور على دينه وقيمه ، حين قدمت اطروحة المال الرسالي الذي يمثل عجلة الحياة في مشروع الاصلاح القيمي والاخلاقي والاجتماعي وغيره ، فوظفت أموالها لخدمة الاهداف الكبرى التي تبني المجتمع ، وتقوي حركة الاسلام ونجاح اطروحته الالاهية .
عن النبي صلّى الله عليه وآله ( ما نغعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة )( 6)
خامسا : التعويض الالهي للثابتين الصابرين
_______
ان الله تعالى بعد هدايته للانسان ، وتوفيقه له للعمل في سبيله ولوجهه تعالى شأنه ، ياتي الباري جل وعلا ليعوضه _ دنيويا واخرويا _ بجزاء يفوق حتى العمل الذي قدمه من أجله جل شأنه، قال تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} ([7] ) ، وهذا درس بليغ للعاملين الثابتين في طريق ذات الشوكة .
وهنا نقف عجالا على بعض العطايا لسيدة الثبات خديجة الكبرى عليها السلام :
( لمّا تُوفّيت خديجة عليها السلام أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله في تجهيزها وغسّلها ، فلمّا أراد أن يكفّنها هبط الأمين جبرائيل وقال: يا رسول الله، إنّ الله يقرئك السلام ويخصّك بالتحية والإكرام ويقول لك: يا محمّد إنّ كفن خديجة من عندنا، فإنّها بذلت مالها في سبيلنا.
فجاء جبرائيل بكفن وقال: يا رسول الله، هذا كفن خديجة، وهو من أكفان الجنّة أهداه الله إليها. ) ([8]).
فكفّنها رسول الله صل الله عليه وآله بردائه الشريف أوّلاً _ وهو قميصه الذي كان يرتديه عند نزول الوحي _ ، وبما جاء به جبرائيل ثانياً ، فكان لها عليها السلام كفنان :
كفن من الله تعالى ، وكفن من رسوله.
فسلام من الله عليك .
يا ام الزهراء البتول ورحمة الله وبركاته.
يا وجيهة عند الله
اشفعي لنا عند الله
الهامش
__
1 _ شجرة طوبى ، الحائري ص : 234 .
2 _ ال عمران : 200
3 _ سنن الترمذي ،كتاب المناقب ،باب فضائل خديجة ، ح 3876 .
4 _ وسائل الشيعة ، العاملي ، باب 4 ،من ابواب مقدمات النكاح ، ح 3 .
5 _ تهذين الأحكام، الطوسي، ج7 ، ص: 294 ، باب 33 ، ح 2
6 _ بحار الانوار ، المجلسي ، ج 60 ص 20 .
7 _ ال عمران، : 195
8 _ شجرة طوبى ، الحائري ، ص 223 .
___
الشيخ عمار الشتيلي
البصرة الفيحاء
ليلة 10شهر رمضان 1445 هج