لقد كانت شخصيّة الإمام الرضا (عليه السلام) ملتقى للفضائل بجميع أبعادها وصورها، فلم تبق صفة شريفة يسمو بها الإنسان إلاّ وهي من نزعاته.
لقد كانت شخصيّة الإمام الرضا (عليه السلام) ملتقى للفضائل بجميع أبعادها وصورها، فلم تبق صفة شريفة يسمو بها الإنسان إلاّ وهي من نزعاته، فقد وهبه الله كما وهب آباءه العظام وزيّنه بكل مكرمة، وحباه بكل شرف وجعله علماً لاُمّة جده، يهتدي به الحائر، ويسترشد به الضال، وتستنير به العقول .
إنّ مكارم أخلاق الإمام الرضا(عليه السلام) نفحة من مكارم أخلاق جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي امتاز على سائر النبيين بهذه الكمالات، فقد استطاع(صلى الله عليه وآله) بسمو اخلاقه أن يطور حياة الإنسان، وينقذه من أحلام الجاهلية الرعناء، وقد حمل الإمام الرضا (عليه السلام) أخلاق جده. وهذا ابراهيم بن العباس يقول عن مكارم أخلاقه:
“ما رأيت، ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، ما جفا أحداً قط، ولا قطع على أحد كلامه، ولا ردَّ أحداً عن حاجة، وما مدَّ رجليه بين جليسه، ولا اتكأ قبله، ولا شتم مواليه ومماليكه، ولا قهقه في ضحكة، وكان يجلس على مائدته مماليكه ومواليه، قليل النوم بالليل، يحيي أكثر لياليه من أوَّلها الى آخرها، كثير المعروف والصدقة، وأكثر ذلك في الليالي المظلمة”[1].
ومن معالي أخلاقه انه كما تقلد ولاية العهد التي هي أرقى منصب في الدولة الإسلاميّة لم يأمر أحداً من مواليه وخدمه في الكثير من شؤونه وإنّما كان يقوم بذاته في خدمة نفسه، حتى قيل : إنه احتاج الى الحمّام فكره أن يأمر أحداً بتهيئته له، ومضى إلى حمّام في البلد لم يكن صاحبه يظن أن ولي العهد يأتي الى الحمّام في السوق فيغسل فيه، وإنما حمامات الملوك في قصورهم .ولما دخل الإمام الحمّام كان فيه جندي، فأزال الإمام عن موضعه، وأمره أن يصب الماء على رأسه، ففعل الإمام ذلك، ودخل الحمّام رجل كان يعرف الإمام فصاح بالجندي هلكت، أتستخدم ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟! فذعر الجندي، ووقع على الإمام يقبل أقدامه، ويقول له متضرّعاً :
“ياابن رسول الله ! هلاّ عصيتني إذ أمرتك؟”.
فتبسّم الإمام في وجهه وقال له ، برفق ولطف :
“إنّها لمثوبة، وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه” [2].
ومن سموّ أخلاقه أنه اذا جلس على مائدة أجلس عليها مماليكه حتى السائس والبوّاب وقد اعطى بذلك درساً لهم، لقاء التمايز بين الناس، وانهم جميعا على صعيد واحد، ويقول ابراهيم بن العباس : سمعت علي بن موسى الرضا(عليه السلام) يقول : “حلفت بالعتق، ولا احلف بالعتق الاّ أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما املك، ان كان يرى أنه خير من هذا، وأومأ الى عبد أسود من غلمانه، اذا كان ذلك بقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أن يكون له عمل صالح فأكون أفضل به منه”[3].
وقال له رجل : والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً .
فقال (عليه السلام) : “التقوى شرّفتهم، وطاعة الله احفظتهم.”
وقال له شخص آخر : أنت والله خير الناس …
فردّ عليه قائلاً: “لا تحلف يا هذا! خير مني من كان أتقى لله عزوجل، وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم}”[4].
سخاؤه :
ولم يكن شيئ في الدنيا أحبّ الى الإمام الرضا(عليه السلام) من الإحسان الى الناس والبر بالفقراء. وقد ذكرت بوادر كثيرة من جوده وإحسانه، وكان منها ما يلي :
1 ـ أنفق جميع ما عنده على الفقراء، حينما كان في خراسان، وذلك في يوم عرفة فأنكر عليه الفضل بن سهل، وقال له : إنّ هذا لمغرم …
فأجابه الإمام(عليه السلام): “بل هو المغنم لا تعدّنّ مغرماً ما ابتغيت به أجراً وكرماً” [5].
انه ليس من المغرم في شيء صلة الفقراء والإحسان الى الضعفاء ابتغاء مرضاة الله تعالى، وإنّما المغرم هو الإنفاق بغير وجه مشروع كإنفاق الملوك والوزراء الأموال الطائلة على المغنّين والعابثين .
2 ـ وفد عليه رجل فسلّم عليه، وقال له : “أنا رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك(عليهم السلام)، ومصدري من الحج، وقد نفدت نفقتي، وما معي ما أبلغ مرحلة، فإن رأيت أن ترجعني الى بلدي، فإذا بلغت تصدقت بالذي تعطيني عنك، فقال له : اجلس رحمك الله. وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا، وبقي هو وسليمان الجعفري، وخيثمة، فاستأذن الإمام منهم ودخل الدار ثم خرج وردّ الباب وأخرج من أعلى الباب صرّة، وقال : أين الخراساني؟ فقام إليه فقال(عليه السلام) له: خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك، ولا تتصدّق بها عني. وانصرف الرجل مسروراً قد غمرته نعمة الإمام. والتفت إليه سليمان فقال له : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟
فأجابه الإمام (عليه السلام) : إنما صنعت ذلك مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) : المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة، والمذيع بالسيئة مخذول … أما سمعت قول الشاعر :
متى آته يوما لأطلب حاجتي*** رجعت الى أهلي ووجهي بمائه”[6]
3 ـ وكان إذا أتي بصحفة طعام عمد الى أطيب ما فيها من طعام، ووضعه في تلك الصحفة ثم يأمر بها الى المساكين، ويتلو قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة}ثم يقول : “علم الله عزّ وجلّ أن ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل له السبيل الى الجنة”[7].
4 ـ وروي: “أن فقيراً قال له : أعطني على قدر مروّتك.
فأجابه الإمام(عليه السلام) : “لا يسعني ذلك” .
والتفت الفقير الى خطأ كلامه فقال ثانياً : أعطني على قدر مروّتي.
وهنا قابله الإمام(عليه السلام) ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً له: إذن نعم .
ثم قال: يا غلام! أعطه مائتي دينار”[8].
5 ـ ومن معالي كرمه ما رواه أحمد بن عبيدالله عن الغفاري، قائلاً : كان لرجل من آل أبي رافع ـ مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ عليَّ حق فتقاضاني، وألحَّ عليَّ، فلما رأيت ذلك صليت الصبح في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم توجهت نحو الإمام الرضا (عليه السلام) وكان في العُريض، فلما قربت من بابه خرج وعليه قميص ورداء فلما نظرت إليه، استحييت منه، ووقف لما رآني فسلمت عليه وكان ذلك في شهر رمضان، فقلت له : جعلت فداك لمولاك ـ فلان ـ عليَّ حق، شهرني. فأمرني بالجلوس حتى يرجع فلم أزل في ذلك المكان حتى صليت المغرب، وأنا صائم وقد مضى بعض الوقت فهممت بالانصراف، فاذا الإمام قد طلع وقد أحاط به الناس، وهو يتصدّق على الفقراء والمحوجين، ومضيت معه حتى دخل بيته، ثم خرج فدعاني فقمت إليه، وأمرني بالدخول الى منزله فدخلت، وأخذت أحدثه عن أمير المدينة فلما فرغت من حديثي قال لي : ما أظنّك أفطرت بعد، قلت : لا ، فدعا لي بطعام، وأمر غلامه أن يتناول معي الطعام ولمّا فرغت من الإفطار أمرني أن أرفع الوسادة، وآخذ ما تحتها، فرفعتها، فاذا دنانير فوضعتها في كُمّي، وأمر بعض غلمانه أن يبلغوني الى منزلي، فمضوا معي، ولمّا صرت الى منزلي دعوت السراج ونظرت الى الدنانير، فإذا هي ثمانية وأربعون ديناراً، وكان حق الرجل علي ثمانية وعشرين ديناراً، وقد كتب على دينار منها: إنّ حقّ الرجل عليك ثمانية وعشرون ديناراً وما بقي فهو لك[9].
تكريمه للضيوف :
كان (عليه السلام) يكرم الضيوف، ويغدق عليهم بنعمه واحسانه وكان يبادر بنفسه لخدمتهم، وقد استضافه شخص، وكان الإمام يحدثه في بعض الليل فتغيّر السراج فبادر الضيف لاصلاحه فوثب الإمام، وأصلحه بنفسه، وقال لضيفه : “إنّا قوم لا نستخدم أضيافنا”[10].
عتقه للعبيد :
ومن أحب الاُمور الى الإمام الرضا(عليه السلام) عتقه للعبيد، وتحريرهم من العبودية، ويقول الرواة : انه اعتق ألف مملوك[11].
إحسانه الى العبيد :
وكان الإمام (عليه السلام) كثير البر والاحسان الى العبيد، وقد روى عبدالله بن الصلت عن رجل من أهل (بلخ)، قال : كنت مع الإمام الرضا(عليه السلام) في سفره الى خراسان فدعا يوماً بمائدة فجمع عليها مواليه، من السودان وغيرهم، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فانكر عليه ذلك وقال له :
“مه ان الربّ تبارك وتعالى واحد، والاُم واحدة، والأب واحد والجزاء بالأعمال…” [12].
إن سيرة أئمة أهل البيت(عليهم السلام) كانت تهدف الى الغاء التمايز العرقي بين الناس، وانهم جميعاً في معبد واحد لا يفضل بعضهم على بعض إلاّ بالتقوى والعمل الصالح .
علمه :
والشيئء البارز في شخصية الإمام الرضا (عليه السلام) هو إحاطته التامة بجميع أنواع العلوم والمعارف، فقد كان باجماع المؤرخين والرواة أعلم أهل زمانه، وأفضلهم وأدراهم باحكام الدين، وعلوم الفلسفة والطب وغيرها من سائر العلوم، وقد تحدّث عبدالسلام الهروي عن سعة علومه، وكان مرافقاً له، يقول :
“ما رأيت اعلم من علي بن موسى الرضا، ما رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له عدداً من علماء الاديان، وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل، واقرّ له على نفسه بالقصور، ولقد سمعته يقول : كنت أجلس في (الروضة) والعلماء بالمدينة متوافرون فاذا عيّ الواحد منهم عن مسألة أشاروا اليّ بأجمعهم، وبعثوا اليّ المسألة فاُجيب عنها ..”[13].
لقد كان الإمام أعلم أهل زمانه، كما كان المرجع الاعلى في العالم الاسلامي الذي يرجع اليه العلماء والفقهاء فيما خفي عليهم من احكام الشريعة، والفروع الفقهيّة .
قال ابراهيم بن العباس : “ما رأيت الرضا يسأل عن شيء قط إلاّ علم، ولا رأيت اعلم منه بما كان في الزمان الأول، الى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيبه الجواب الشافي”[14].
قال المأمون : “ما أعلم احداً افضل من هذا الرجل ـ يعني الإمام الرضا ـ على وجه الأرض…”[15]
الهوامش:
[1] عيون أخبار الرضا: 1/184 وعنه في بحار الأنوار: 49/90، 91، وعنه في حياة الإمام محمد الجواد(عليه السلام) للقرشي: 35.
[2] نور الأبصار: 138، عيون التواريخ: 3 / 227 مصور .
[3] عيون أخبار الرضا: 2/95، 96 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 95 ـ 96 .
[4] عيون أخبار الرضا : 2/236 وعنه في بحار الأنوار: 49 / 95 .
[5] المسح : الكساء من الشعر .
[6] عيون أخبار الرضا: 2 / 178، المناقب: 4 / 389 .
[7] المحاسن للبرقي : 2/146 ، ح 20 وعنه في بحار الأنوار : 49/97 ، ح 11 .
[8] مناقب آل أبي طالب: 4/390.
[9] اُصول الكافي: 1/486، ح 4، وعنه في الإرشاد: 2/255 وعنه في بحار الأنوار: 49/97، ح 12.
[10] الكافي : 6/283 وعنه في بحار الأنوار: 49/102، ح 20.
[11] الاتحاف بحب الاشراف : 58 .
[12] الكافي: 4/23 وعنه في بحار الأنوار: 49/101 ، ح 18 .
[13] اعلام الورى: 2/64 وعنه في كشف الغمة: 3/106 ـ 107 وعنهما في بحار الأنوار: 49/100 .
[14] عيون أخبار الرضا: 2 / 180، الفصول المهمّة: 251.
[15] الإرشاد: 2/261