خطبتا صلاة الجمعة المركزية في العراق التي أقيمت في مسجد الرحمن في بغداد بإمامة فضيلة الشيخ عادل الساعدي (دام توفيقه)، بتاريخ 13 شعبان 1440 للهجرة الموافق 19 نيسان 2019 للميلاد .
الخطبة الأولى:
بـ عنوان (دولة الإمام المهدي دولة العقلنة والدين العالميين) .
إن هدف العدالة الاجتماعية التامة واكتمال السعادة البشرية المطلقة إسلامياً لا يتحقق إلا على يد الإمام المهدي (ع) فما هو الهدف الرئيسي لدولة الإمام المهدي المنتظر (عج):
ـ هل هو السعي في سبيل رفاهية المجتمع المادية؟ .
ـ هل هو القضاء على الفقر والحرمان؟ .
ـ هل هو توفير الأمن والطمأنينة على المال والأنفس؟ .
ـ هل هو اصلاح النظام القضائي وتحقيق العدل التام وتوفير مناخات الحياة السياسية والاقتصادية؟ . والاجتماعية النموذجية؟ .
ـ هل هو تطور الأفكار والعلوم ورقيها؟ .
ـ هل هو إعمار الأرض واستخراج المعادن واستثمارها بالشكل الأمثل؟ .
ـ هل هو إنشاء حياة اجتماعية خالية من المتاعب والمشاكل؟ .
هذه الأمور هي ما يتمناها كل مصلح وبالدرجة الأولى المصلح الأكبر لهذا العالم الإمام المهدي المنتظر عج
لكن كل هذه الأهداف ليست هي الهدف الرئيسي بل هي الأرضية المناسبة لتحقيق ذلك الهدف الأسمى والأرقى ألا وهو عبادة الله تعالى حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
والهدف من هذه العبادة هو وصول الإنسان إلى الكمال فتقل أخطائه وعلى جميع المستويات اقتداءً بالإمام ع وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين ع بقوله: (الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم) إلى أن يوصلهم إلى درجة القرب من الله عز وجل (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) فشعار الإمام المهدي المنتظر عج شعار الأنبياء والمرسلين وهدفه إحياء الدين والسنن الإلهية والقضاء على البدع ولذا ورد في الحديث بأن الإمام المهدي المنتظر عج (ويحيي ميت الكتاب والسنة) .
فالإمام المهدي عج المنادي الأكبر للتوحيد في العالم كله يدعو المجتمع إلى المعارف والعلم وإلى التعقل ويدعو البشرية إلى الحياة في ظل العدالة (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) يدعوهم إلى الله وحده ويدعوهم الى الحرية وإلى الأخوة الدينية والوحدة ، يدعوهم إلى عز الإسلام وإلى مكارم الأخلاق ، يدعوهم إلى العفاف والتقوى ، ويدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت وسيهيمن على البشرية التوحيد الخالص وسيسري في العالم كله ويضحى دين الإسلام الدين الرسمي للأرض كلها تطبيقا لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وأقرب الوسائل لتحقيق ذلك هو خضوع العالم كله لحكم الإمام المهدي عج فيسهل على الناس جميعهم التعرف على الإسلام الناصع ، وهم في بيوتهم من خلال وسائل شبكات الاتصال المتطورة آنذاك . نعم وسيسود التدين مجتمع ذلك العصر وسيقبل الناس على الالتزام بأحكام الدين وشعائره وكما قال الإمام علي ع: (إذا تغير السلطان تغير الزمان) فإذا صلح الحاكم تغير المجتمع تبعا له وصلح وهذا الطبيعي إذا كان الحاكم من أهل عبادة الله ويعبده حق عبادته حيث لا تجد اخطاءا في ذلك الانسان الحاكم وعلى كافة الأصعدة وليس على مستوى الذنوب فقط ، فلا أخطاء في عمله ولا في علاقاته واختياراته لرجالات المشروع وتعاملاته مع أهل الإحسان بالمكافئة والثناء وأهل الإساءة بحزم واصلاح لم افسد من أمورهم ، وغير ذلك من الشؤون العبادية فرديةً كانت أو اجتماعية .
وبلا شك أن هذه الدقة ستترك تأثيرا عمليا على المجتمع وصيرورته إلى الالتزام الديني ، فيصبح الالتزام الديني لدى الشعوب فضيلةً كبرى وغايةً أسمى وسيسري الوعي في أرجاء المعمورة جميعها وسيتسابق الناس في فعل الخيرات والمغفرة الإلهية تحت راية التوحيد ورسالة النبي الخاتم محمد ص . نعم هذا لا يعني أن الإمام المهدي المنتظر عج سيلجأ إلى إكراه الناس على الإيمان كما يتصور البعض بل يدعوهم إلى الإسلام بالتي هي احسن وبمنطق القرآن الكريم في الدعوة .
وأما الحروب التي سيخوضها الإمام عج فهي للدفاع عن مشروعه وكسر غطرسة المتسلطين والمستكبرين وأمن شرورهم لنجاح هدفه وتحقيقه وليست تلك القوة لإجبار الناس على اعتناق الإسلام فمن الواضح أن الإيمان أمر قلبي ولا يمكن إيجاده بالإكراه والتخويف وحتى النبي الأكرم ص لم يلجأ إلى هذا الأسلوب حيث يقول تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) وهذا واضح من لسان الروايات التي تقول (فيحكم بين أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الانجيل بالإنجيل وبين أهل الزبور بالزبور وبين أهل الفرقان بالفرقان) .
ولما كان الإمام المهدي عج عادلاً في قضائه سيرضى أتباع الديانات الأخرى من اليهود والنصارى بالتحاكم إليه وشيئا فشيئا سيقتنع أهل الديانات السماوية وغيرهم بالإسلام نتيجة سياسة وإدارة الإمام المهدي المنتظر عليه السلام للدولة العادلة والمنصفة وكذلك نتيجة البيان والوضوح الذي سيبثه الإعلام المهدوي للعالم . وبهذا ستخضع له الشعوب والأمم لتصهر بأمةٍ واحدة وثقافة واحدة ودولة واحدة .
** اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام واهله وتذل بها النفاق واهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والاخرة .
** (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) صدق الله العلي العظيم .
الخطبة الثانية:
بـ عنوان (منجزات دولة القائم عج تكامل العقول والأفكار) .
روي عن الإمام الباقر ع قوله: (وتؤتون الحكمة في زمانه حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله ص) إن البشرية في عصر الإمام المهدي المنتظر عج ستتطور حيث تتكامل عقول الناس وتبلغ الدرجة العليا من النضج والرقي ، وقد ورد هذا في بعض الأحاديث والروايات: (إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم) وفي بعضها ورد: (وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم) وعلى كلا اللفظين سواء قلنا يد الإمام عج فوق رؤوس العباد والتي هي يد الله كما هو وارد في بعض زيارات الإمام عج أم قلنا أن يد الله فوق رؤوس العباد ويحتمل هذا أيضا بمعناه الحقيقي أي أن الله عز وجل يفيض بنعمته على عباده فيكمل لهم عقولهم .
وعندما تسود العقلانية المجتمع البشري سيلجم الشيطان وتقيد أهواء النفس وترتفع الذنوب فمجتمع العقلاء لا يلتف حول المعاصي والذنوب ويرتفع الفساد الاجتماعي واذا ما أذنب فرد فسيتذكر بعده ويستغفر الله وكل واحد من أفراد المجتمع ناصح أمين يعمل لنفع الآخرين لا يظلم نفسه ولا يظلم غيره يسلك طريق الهدى والكرامة ولا يخطو في الخذلان والخسران . ومن هنا قد يتساءل هل أن المجتمع الصناعي في أوربا وأمريكا لا يتصف بالعقلانية حيث إنا نرى الكثير من مظاهر الفساد والظلم فيه؟ وجوابه: يتميز أفراد هذه المجتمعات بالذكاء وقدرة إدراك عالية وقد حصلوا على معرفة وتجارب كثيرة ونتيجة للفطنة والسعي والمثابرة في الميادين المختلفة للعلم والتكنولوجيا وصلوا إلى أعماق البحار والمحيطات وجاوزوا السماء إلى الكواكب البعيدة وحققوا في هذه المجالات للبشرية نتائج باهرة وعظيمة ، لقد أصبح كل شيء في متناولهم من أصغر شيء في عالم الذرة وامتداداً في الوجود إلى عالم المجرات وسحب النجوم التي تبعد عن الأرض ملايين السنين الضوئية وهم مشغولون الآن بطي هذه العوالم للتوصل إلى ما هو أبعد وأكثر غموضا مما كان ولقد حققوا في عالم الطب تطورا عظيما حيث أصبح اليوم زرع أعضاء الإنسان وتبديلها من إنسان لآخر أمرا شائعا في هذا الزمان ، لكن مع كل هذا التقدم والتطور في العلوم والتكنولوجيا لا يزال عقل الإنسان غير مرتق ولم يتكامل ولم ينتقل من عالم القوة إلى عالم الفعل فلو كانت العقول قد أرتقت وتكاملت لما ارتكبت البشرية الذنوب العظيمة ولما مارست الظلم ولما أنتشر الفساد الأخلاقي إلى الحد الذي نراه اليوم .
ولذا ينبغي أن نبين مواصفات العاقل من خلال حديث الإمام موسى بن جعفر ع لهشام بن الحكم: (يا هشام لكل شيء دليل ، ودليل العاقل التفكر ولكل شيء مطية ، ومطية العاقل التواضع يا هشام إن العاقل الذي لا يشغله الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره يا هشام قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه ولا يعد ما لا يقدر عليه ولا يرجو ما يعنف برجائه ولا يتقدم على ما يخاف العجز عنه إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه ، ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة لله ، وأعلم بأمر الله أحسنهم عقلا وأعقلهم أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة يا هشام ما قسم بين العباد أفضل من العقل نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل وما بعث الله نبيا إلا عاقلا حتى يكون أفضل من جميع جهد الجاهدين ، إياك ومخالطة الناس والأنس بهم إلا أن تجد منهم عاقلا ومأموما فأنس به وأهرب من سائرهم كَهَرَبِكَ من السباع الضارية) وقال إمام العقلاء صادق آل محمد ع: (العقل ما عبد به الرحمن وأكتسب به الجنان قال الراوي قلت فالذي كان في معاوية قال ع تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست العقل) .
نعم فالعقل حجة الله على العباد كما أن الأنبياء والأوصياء حجج الله على العباد قال الإمام الكاظم ع: (يا هشام إن على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة وأما الباطنة فالعقول) فكما أن الأنبياء والرسل لا يدعون الناس إلى المعاصي فكذلك العقل فالعقل لا يدعو الإنسان ولا يوجهه إلا إلى الصلاح والهدى والعفاف وحسن النية . ففي زماننا هذا ضرب على العقل من جانب ومن جانب آخر وصلت المعرفة والعلوم إلى حدها الأعلى فالمسيطر على عالم التكنولوجيا هو الذكاء والفطنة فعالم الاختراعات العلمية كله رهين لهذه الفطنة ولهذا الذكاء اللذين يتميز بهما المجتمع البشري فلو أضيف العقل إليهما سَيُسَخَّرُ الذكاء والعلم في الطريق الصحيح الذي يخدم الإنسانية وعلى سبيل المثال ترى أن الإنسان بعلمه وذكائه يسيطر على الأنهار بإنشاء السدود والبحيرات والقنوات ويستفيد من خلال ذلك في إحياء آلاف الهكتارات من الأراضي الميتة ويحولها إلى أراض زراعية إلا أن هذا الإنسان نفسه الذي أنشأ السدود والقنوات بعمله يأمر في أزمنة الحروب بتفجيرها وإن أدى هذا إلى اغراق الآلاف من الناس وإتلاف الأراضي والحيوانات فالذي أنشأ السد هو العلم والذي عمل على خرابه وتفجيره هو العلم أيضا ، فالعلم سيف ذو حدين فإذا كان في يد أهل الصلاح والعقلاء فسوف يستفاد منه في قطع الأعضاء الفاسدة للمحافظة على باقي الأعضاء أما إذا كان بيد السفهاء فيكون أخطر بكثير من السيف القاطع الذي أمسك به من غلب عليه السكر . وفي مجتمع الإمام المهدي عج يتكامل العقل إلى جانب التطور العلمي والتكنولوجي .
فالعلم وحده يورث العجب والتكبر ولكن العقل يورث التواضع والعلم قد يؤدي إلى الدمار ولكن بالعقل يتم الإعمار . زالذكاء يجر إلى الحيلة ولكن بالعقل تتم الإنسانية والفضيلة والشرف بل إن ملاك تفضيل الإنسان على سائر حيوانات العالم كونه ذا عقل .
ومنذ أيام اليونان إلى يومنا هذا يقال الإنسان حيوان ناطق ـ عاقل ـ وفي مجتمع الإمام المهدي عج لا يتكامل العقل البشري فقط بل يكون مهيمنا على الفطنة والعلم وعلى كل جوانب الحياة البشرية ، وفي ظل هذا الإشراف تسير هذه الجوانب المختلفة للمجتمع البشري جملة في طريق الخير والصلاح والرفاهية وسعادة المجتمع .
ومن جملة إنجازات الإمام المهدي عج تحرير العقول من قيود الأهواء والميول النفسانية وجعل مصير الإنسان تحت حكم العقل فالناس جميعهم في ذلك العصر عقلاء وعلماء لا يقدمون على عمل من دون ترجيح العقل له فالذي يحكم العقل بوجوبه ويحسنه يعملون به ويتجنبون كل ما قبحه العقل وكرهه ، فالإمام المهدي عج يؤسس نظاما دينيا واحدا في العالم كله يقوم على أساس أحكام الإسلام وذلك في مجتمع بشري يشمله الإعمار في جميع الأبعاد ، والعلم فيه يبلغ أرقى درجاته والعقول تتكامل والأفكار تتوضح فلا يسودها الإبهام ولا الإيهام ولا الغموض .
والسؤال لمن ينفون الدور الإيجابي للدين ويدعون عدم جدواه في أدارة المجتمع البشري: كيف يمكن للقوانين الوضعية التي هي من أفكار جمع من الملوثين بالمعاصي واللهو والقمار وشرب الخمر والتفسخ الأخلاقي أن تؤمن للبشرية نظاما جيدا أو يتمكن العلماء والمفكرون والحكماء من تشخيص خير الإنسان وسعادته المادية والمعنوية وتأمينها ولا يستطيع الدين أن يؤدي دوره في تحقيق سعادة البشرية وهو معين الوحي الإلهي نزل به الروح الأمين على النبي المعصوم ص وقد بلغه النبي إلى الناس بكل أمانة ومن دون أي زيادة أو نقصان أو تحريف .
اننا لا ننفي دور المجتمعات في تطورها وسبل تقدمها ولكن فلننظر إلى ما قدمته الديانات في مراحل نزولها من تقدم شامل متوازن بين البناء العقلي والروحي والأخلاقي ، ولا يمكن للمجتمعات أن تتكامل إذا فقدت احدى هذه الأركان الثلاثة، وفي عصر الظهور سيتكامل البناء المعرفي العقلي وتتراقى المعنويات للشعوب وتُوَشَّحُ الشعوب أفراداً وجماعات بوشاح الأخلاق الفاضلة .