ذكر المؤرخون أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم استدعى أحد مواليه في أواخر صفر وطلب منه مرافقته إلى البقيع قائلاً له: “إني قد أُمرت أن أستغفر لأهل البقيع فاخرج معي الليلة”، فخرجا في جوف الليل، وهناك سلّم على أهل القبور، وقال لغلامه: “إني قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ثمّ الجنّة، وخُيّرت بين ذلك ولقاء ربي والجنّة، فاخترت لقاء ربّي والجنّة”، قال له غلامه: بأبي أنت وأمّي فخذ مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ثمّ الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لا والله يا أبا مُوَيهبة، لقد اخترت لقاء ربّي”، ثمّ استغفر لـأهل البقيع ورجع.
بعد ساعات وفي حشد من الناس دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد برأس معصوب وطلعة نالت منها الحمّى، فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: “إنّ عبداً من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله” ثمّ سكت والناس قد طأطأوا رؤوسهم، وتابع خطابه وفي باله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد خطّط له لحرب الروم وجهّز له من جيش كبير بقيادة أسامة بن زيد البالغ من العمر ثمانية عشر عاماً آمراً أصحابه وبقيّة المسلمين الانضواء تحت رايته لذا قال من منبر المسجد:
“أيها الناس، انفذوا جيش أسامة… ثم سكت ولهيب الحمّى يزداد اشتعالاً ثم قال:
“أيها الناس، إنّي أحمد إليكم الله، لقد دنا منّي خفوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يقل رجل إنّي أخاف الشحناء من رسول الله، ألا وإنّ الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإنّ أحبّكم إليّ من أخذ منّي حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت الله، وأنا طيب النفس… “ثمّ نزل من المنبر وأقام الصلاة وبعدها قام ينتظر الناس الذين أثقلهم سؤال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المعصوم الكامل الذي امتدحه الله تعالى بأنّه على خلق عظيم، فجأة نهض رجل يضطرب ليقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّ سوطه وقعت ذات يوم على بطنه بطريق الخطأ فإذا بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم يكشف بطنه طالباً من الرجل أن يقتصّ منه، فتقدّم الرجل وسط ذهول الناس ليقبّل جسده الشريف، ليكون ذلك آخر العهد منه. وبعدها دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته حيث كان الرحيل المحزن الذي أصيب به الخلق والذي دعانا أهل البيت عليه السلام أن نتذكّره حين نصاب بأمر يخصّنا، فعن الإمام الباقر عليه السلام: “إن أصبت بمصيبة في نفسك أو ما مالك، فاذكر مصابك برسول الله فإنّ الخلائق لم يصابوا بمثله قط”.
لقد رسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً طريق السعادة الحقيقية وضمن لهم الوصول إليها من خلال التمسّك بأصلين أساسيّين لا غنى لهما بأحدهما دون الآخر وهما الثقلان، فقال:
“أيها الناس! إنّي فَرْطُكم، وأنتم واردون عليَّ الحوض، ألا وإنّي سائلكم عن الثِقلين، فانظروا: كيف تخلِّفوني فيهما؟ فإنّ اللطيف الخبير نبّأني: أنّهما لن يفترقا حتّى يلقياني، وسألت ربِّي عن ذلك فأعطانيه، ألا وإنِّي قد تركتها فيكم: كتاب الله وعترتي: أهل بيتي، لا تسبقوهم فتَفرَّقوا، ولا تقصروا فتهلكوا، ولا تعلّموهم، فإنّهم أعلم منكم.
أيّها الناس! لا ألفينّكم بعدي كُفّاراً، يَضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ، فتلقوني في كتيبة كمَجْر السيل الجرّار. ألا وإنّ عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي، يقاتل بعدي على تأويل القرآن، كما قاتلتُ على تنزيله”.