قال الله تبارك وتعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 109].
الوُدّ: الميل إلى الشيء ومحبته وتمني وقوعه والحصول عليه، فالتمني يتضمن معنى الود لأن التمني هو تشهّي حصول ما تودّه ـ قاله الراغب ـ وقيل في الفرق بين الحب والود أن الأول أشدّ وأصدق من الثاني، فالآية الكريمة تخبر المؤمنين بحقيقة لا يمكنهم التعرف عليها الا بإخبار الله سبحانه، لأنها مرتبطة بمكنونات الضمير وما انعقد عليه القلب، وهي أن الأعداء يتمنون ويرغبون بشكل أكيد أن تتخلّوا عن إسلامكم وتعودوا إلى جاهليتكم بما تتضمن من كفر وشرك وفسق وفجور وانحراف وظلم وجور وانحطاط وتجرد عن الفطرة والمبادئ الإنسانية.
وقد أكّدت آيات أخر هذه الحقيقة لأهمية الالتفات إليها والحذر منها قال تعالى {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران : 69] ، وقال تعالى {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء : 89] وقال تعالى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم : 9] وقال تعالى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة : 120].
كما حذرت الآيات الكريمة من الانخداع بالعناوين البراقة التي يغلّفون بها مشروعهم هذا كالمدنية والانفتاح والتحرر والتقدم والتحضّر ونحو ذلك، وليس لهم هدف الا إبعادكم عن هذا الدين العظيم {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة : 49] {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف : 27]، وهكذا يفعل شياطين الإنس فأنهم يسعون لإخراج الناس من جنة الإيمان وينزعون عنهم لباس الورع والتقوى والعفاف والفضيلة ويظهروا عورات الفسق والفجور والرذيلة والانحطاط والفساد حتى وصل بهم الحال إلى سن قوانين للشذوذ الجنسي وزواج المثلييّن وتغير الجنس وقتل الأجنة.
ورغبتهم هذه ليست الا تمنّياً بعيد المنال عبّر عنه ب {لَوْ} فهو وهم باطل يتخيّلونه، فأن الله تعالى قد تكفّل بحفظ هذا الدين وجماعة المؤمنين، وليس هذا التمني ناشئاً من جهلهم بالحق الذي أنتم عليه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل : 14]، ولا عن تصديق واعتقاد بحقانية ما هم عليه بل هم يعرفون أن الحق معكم ويتمنون أن يكونوا من أهله {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر : 2]، ولو كانوا مؤمنين وأهل كتاب حقاً لما ودّوا رجوعكم إلى الجاهلية والشرك والكفر ولكانوا قريبين منكم لأنكم من أهل التوحيد، ولكنهم يفعلون ذلك حسداً من عند أنفسهم، وخوفاً على دنياهم التي حصلوا عليها ظلماً قال تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء : 54]، روي في أسباب النزول: أن حيي بن أخطب وأخاه أبا ياسر دخلا على النبي (J) حين قدم المدينة، فلما خرجا قيل لحيي: أهو نبي؟ فقال: هو هو، فقيل: ما له عندك، قال: العداوة والبغضاء إلى الموت، وهو الذي نقض العهد وأثار الحرب يوم الأحزاب[2].
والحاسد يعرف قيمة النعمة التي عند المحسود ولذلك فأنه يحسده ويتمنى أن تكون هذه النعمة له، قال تعالى {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر : 2] ولكنه لضعف ارادته وانصياعه لشهوته يعجز عن نيل تلك النعمة فيتمنى حرمان المحسود منها، قال تعالى {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة : 105].
فسبب عدائهم لكم وسعيهم لتجريدكم من الإسلام لأنهم يعرفون الحق الذي أنتم عليه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} ويعلمون أي جوهرة ثمينة بأيديكم فيريدون سلبها منكم {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ
سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية