تعددت الجوانب المشرقة في حياة هذه الشخصية العظيمة، وفي كل جانب من هذه الجوانب يلوح سعيد بن جبير عالماً شامخاً ونجماً لامعاً ومفخرة من مفاخر التاريخ الإسلامي، نهل من ينابيع الإسلام الصافية المتمثلة بمدرسة آل محمد (عليهم السلام)، فتخلّق بأخلاقهم وتحلّى بآدابهم وحمل علومهم ومعارفهم سائراً على منهجهم في إحقاق الحق ودحض الباطل، فهو من أعظم التابعين الأخيار، ومن أجلّ العباد ومن أفاضل القرّاء، ومن كبار العلماء، ومن أئمة المسلمين في التفسير والفقه، ولم يرحل عن هذه الدنيا إلا بعد أن سجل أروع المواقف البطولية في تصديه للباطل وبذل دمه الزكي في سبيل الله والإسلام ونصرة الحق فسجل اسمه مع الشهداء الأبرار.
مسيرة العلم:
هو أبو عبد الله ــ وقيل أبو محمد ــ سعيد بن جبير بن هشام الأسدي بالولاء مولى بني والبة – بطن من بطون بني أسد بن خزيمة ــ ولد في الكوفة من أبوين مملوكين، أبوه جبير مولى بني والبة وأمه أمة تكنى بـ (أم الدهماء)، قال ابن العماد الحنبلي: وكان ــ أي سعيد ــ مملوكاً أسوداً .. (1)
فكان من الطبيعي أن تسود بواكير حياته ونشأته الغموض والعتمة فلا نجد في مصادر التاريخ ما يبين ولو بإشارة إلى ولادته وموارد تعليمه وثقافته غير إننا نستطيع أن نحدد سنة ولادته من النصوص الواردة في سنة مقتله وعمره حين قُتل على يد الحجاج، فقد اتفق جميع المؤرخين على أن سعيد قُتل سنة (94) هـ ، وله من العمر تسع وأربعون سنة ولم يخالف هذا القول سوى السيوطي فقد ذكر في مقتل سعيد بن جبير انه: (قتله الحجاج في شعبان سنة اثنتين وتسعين وهو ابن سبع وأربعين سنة). (2)
وبناءً على ما سبق فإن ولادة سعيد كانت عام (45) هـ في الكوفة، ولم يذكر التاريخ شيئاً عن والده الذي توفي مبكراً، وقد ذكر ابن حبّان: (إن عكرمة مولى ابن عباس كان متزوجاً من أم سعيد بن جبير). (3)
نشأ سعيد في الكوفة وتلقى تعليمه الأول في مسجدها الذي كان يعجّ بطلاب العلم ثم انتقل إلى مكة المكرمة فصحب عبد الله بن عباس وتلقى على يديه العلوم، ويصف ابن سعد لقاء ابن عباس بتلميذه سعيد لأول مرة فيقول على لسان سعيد: قال لي ابن عباس ممن أنت ؟ قلت: من بني أسد، قال من عربهم أو من مواليهم ؟ قلت: لا بل من مواليهم، فقال :فقل أنا ممن أنعم الله عليه من بني أسد .. (4)
وقد وجد ابن عباس في سعيد نبوغاً عالياً وقابلية على إدراك الحديث فاقت قابليات غيره ممن قدموا عليه لطلب العلم حتى كان سعيد يحدِّث بمحضر أستاذه ابن عباس كما روى ابن سعد (5) وابن خلكان (6) فقالا: (قال ابن عباس لسعيد بن جبير حدّث فقال: أحدثّ وأنت هاهنا ؟، فقال: أوليس من نعمة الله عليك أن تتحدث وأنا شاهد، فإن أصبت فذاك وإن أخطأت علمتك).
وهناك روايات أخرى مشابهة لها شهد ابن عباس بها على علمية سعيد ومقدرته، كما شهد بعلم سعيد عبد الله بن عمر عندما جاءه رجل فسأله عن فريضة فقال: إئت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني وهو يفرض منها ما أفرض، وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه ويستفتونه يقول: (أليس فيكم ابن أم الدهماء ؟) ــ يعني سعيد ــ
سعيد المحدّث:
ولم يكن ابن عباس الوحيد الذي أخذ عنه سعيد العلم فقد روى ابن كثير في حديثه عن سعيد فقال: (من أكابر أصحاب ابن عباس كان من أئمة المسلمين في التفسير والفقه وأنواع العلوم وكثرة العمل الصالح ــ رحمه الله ــ وقد رأى خلقاً من الصحابة وروى عن جماعة، منهم من الصحابة، أما من روى عنه فكثر، منهم ابناه عبد الله، وعبد الملك، والأعمش، والمنهال بن عمرو. (7) وقد عدّ العسقلاني منهم (35) رجلاً
مع الإمام زين العابدين (عليه السلام):
صحب سعيد كثيراً من الصحابة والتابعين وروى عنهم لكنه لم يجد ضالته في العلم حتى التقى بالإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فنهل من هذا المنهل العذب العلوم الإلهية واغترف من المدرسة المحمدية، فقد تشرّف سعيد بصحبة هذا الإمام العظيم فلازمه بعد وفاة ابن عباس فانتقل سعيد إلى المدينة المنورة، وقد ذكر الكشي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (كان سعيد بن جبير يأتم بعلي بن الحسين فكان (ع) يثني عليه وما كان سبب قتل الحجاج له إلاّ على هذا الأمر وكان مستقيماً). (9)
وقد أكد البرقي ذلك فقال: (سعيد بن جبير من أصحاب الإمام علي بن الحسين (ع) (10) وكذلك الفضل بن شاذان، وقد اعتمد هذا الرأي أبو داود (11) والعلامة الحلي (12).
في سجل التاريخ:
لقد استظل سعيد بظل الشجرة النبوية وتغذى من ثمارها ونهل من علومها، قال أبو القاسم الطبري عن سعيد: (هو ثقة الإمام، حجة على المسلمين).
وقال ابن حبان: (كان فقيهاً عابداً فاضلاً).
وقال ميمون بن مهران: (لقد مات سعيد بن جبير وما على الارض رجلاً إلا يحتاج إلى سعيد).
وقال خصيف: (كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، والتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير).
كما أثنى على سعيد بمثل هذه الأقوال:
أبو نعيم في حلية الأولياء.
وابن شهرآشوب في المناقب.
وابن حجر في التقريب.
وابن العماد الحنبلي في الشذرات وغيرهم.
أصداء واقعة الطف:
عاصر سعيد الكثير من الأحداث المأساوية التي مرت بها الأمة الإسلامية فكانت أصداء واقعة الطف وما جرى على آل الرسول في كربلاء ثقيلة الوطأ عليه فروي عنه قوله: (ما مضت عليّ ليلتان منذ قتل الحسين (ع) إلا أقرأ فيهما القرآن أو مسافراً أو مريضاً).
كما روى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد قوله: (منذ قتل الحسين (ع) حتى اليوم أتلو في كل ليلة حزباً من القرآن). (13) والظاهر أن حاجته النفسية إلى قراءة القرآن والتعبّد تشعره ببعض السلوّ عن ذكرى الطف الأليمة.
واقعة الحرة:
كما شهد سعيد ثورة ابن الزبير ورمي الكعبة المشرفة بالمنجنيق من قبل يزيد وكذلك واقعة الحرة واستباحة مدينة الرسول من قبل مسلم بن عقبة مجرم يزيد، وغيرها من جرائم بني أمية التي أدمتْ قلوب المسلمين وخاصة أمثال سعيد بن جبير من المؤمنين المخلصين فكانت آلامهم أشد وهم يرون المقدسات والحرمات تنتهك والدماء البريئة تسفك والأموال تنهب بغير وازع من دين أو ضمير.
ومثل سعيد بمكانته العلمية لا يسكت على مثل هذه الأعمال الإجرامية فرفع راية الرفض وأنكر على عبد الملك هذه الأعمال الشنيعة وصدح بقول الحق أمام الحجاج والي العراق حتى مضى شهيداً فساند القراء من الصحابة والتابعين في ثورتهم على الأمويين وحينما سُئل عن خروجه على الحجاج قال: (إني والله ما خرجت عليه حتى كفر).
ويصف السيوطي عبد الملك بن مروان و طاغيته الحجاج فيقول: (لو لم يكن من مساوئ عبد الملك بن مروان إلا الحجاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين فضلاً عن غيرهم وختم عنق أنس وغيره من الصحابة يريد بذلك ذلهم لكفى ذلك في مساوئه فلا رحمه الله ولا عفا عنه). (14)
الثورة على الظلم الأموي:
كان سعيد من أوائل الثائرين على السلطة الاموية الجائرة، فكان يرفع صوته قائلاً: (قاتلوهم على جورهم في الحكم وخروجهم من الدين وتجبّرهم على عباد الله وإماتتهم الصلاة واستذلالهم المسلمين).
فشهد سعيد وقائع عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث مع الحجاج منها: وقعة دُجيل، ووقعة الأهواز، ووقعة دير الجماجم، وذكر الطبري إن الوقعة الأخيرة ــ أي دير الجماجم ــ كانت مائة يوم وكذلك قال ابن الاثير في كامله واشترك سعيد مع القرّاء في تلك الوقائع وكان شعارهم: (يا لثارات الصلاة) وقتل من القرّاء خلق كثير في هذه الوقائع.
وذكر المؤرخون أن كل الوقائع كانت على الحجاج إلا الوقعة الأخيرة فإنها كانت على ابن الأشعث، ولمّا قتل عبد الرحمن وانهزم اصحابه من دير الجماجم لحق سعيد بمكة واستخفى مع جماعة من أضرابه، وقيل إنه دخل أصبهان وأقام بها مدة ثم أرتحل منها إلى العراق وسكن قرية سنبلان، وقال ابن كثير: (واستمر ــ أي سعيد ــ في هذا الحال مختفياً من الحجاج قريباً من اثنتي عشرة سنة).
وروي عنه لما قيل له بأن يستخفي قوله: (والله لقد فررت حتى استحيت من الله وسيجيئني ما كتب الله لي).
الدور الرسالي:
وفي كل هذه المدن التي نزلها كان يعقد المجالس لإداء دوره الرسالي في نشر العلوم والمعارف فكان كالشمس تنشر أشعتها في كل مكان حتى قبض عليه جلاوزة الحجاج وأخذوه إليه إلى واسط والتي كانت هي نهاية رحلته في الدنيا فأُدخل على الحجاج وهو موثق بالقيود فكان ثابت الجنان صادق اليقين.
روى الواسطي عن الربيع بن أبي صالح قال: (دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج وهو موثق فبكيت، فقال: ما يبكيك ؟ قلت: الذي أرى بك، قال: لا تبك فإن هذا قد كان في علم الله تعالى، ثم قرأ قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير). (15)
وروي في قتله إنه لما أدخل على الحجاج قال له: (أعوذ منك بما استعاذت به مريم بنت عمران حيث قالت: إني اعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً) فقال الحجاج: ما أسمك ؟ أجابه: سعيد بن جبير، فقال الحجاج: بل شقي بن كسير، فقال سعيد: أمي أعلم بإسمي..
ودارت بينهما محاورة طويلة تباين المؤرخون في نقلها انتهت بقول الحجاج غاضباً: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك، فقال سعيد: (اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله من بعدي). ثم قال: (اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي) فذُبح رضوان الله عليه من القفا، وقد استجاب الله دعاء سعيد فقد التبس الحجاج في عقله ودبّ المرض في جسده وجعل ينادي: مالي ولسعيد ! ولم يزل الحجاج بعد قتله سعيداً فزعاً مرعوباً حتى مُنع من النوم وكان كلما نام رآه آخذاً بمجامع ثوبه يقول: يا عدو الله فيم قتلتني ؟ فيستيقظ مذعوراً ويقول مالي ولابن جبير ؟ ولم يزل متلبساً حتى هلك لعنه الله.
وروى الدميري: إن عمر بن عبد العزيز رأى الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال قتلني بكل قتيل قتلته قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير فإنه قتلني به سبعين قتلة.
ويعلل الدميري سبب ذلك: إن سعيد بن جبير لم يكن له نظير في العلم في وقته ثم ينقل عن الحسن البصري قوله: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه، ثم يقول الدميري : فمن هذا المعنى ضوعف العذاب على الحجاج بقتله، وقيل إن الذي أفزع الحجاج عندما رأى مقتل سعيد سيلان الدم الكثير الذي لم يرَ بقدره عند من قتلهم قبله مما جعله يستدعي الأطباء ويسألهم عن ذلك فقالوا له: هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع للنفس ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف لذلك قلّ دمه. (16)
لقد أثار استشهاد سعيد ردود أفعال شهدها المجتمع وهو يتلقى نبأ استشهاد أحد أعلامه الأجلّاء وكان ذلك في الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة أربعة وتسعين للهجرة الشريفة وأول من أبّن الشهيد سعيد بن جبير الحسن البصري بقوله: (اللهم أعن على فاسق ثقيف والله لو أن أهل الارض اشتركوا في قتله لأكبهم الله في النار)
كما قال نحو ذلك ميمون بن مهران وهو أحد العلماء الأربعة وهكذا انطوت هذه الصفحة المشرقة في تاريخ الإسلام وفاضت هذه الروح الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية مكللة بدم الشهادة.
المصادر
1 ــ شذرات الذهب ج 1/ ص 109
2 ــ طبقات الحفاظ ج 1/ ص 38
3 ــ مشاهير علماء الأمصار ص/ 82
4 ــ الطبقات الكبرى ج 6 / ص 256
5 ــ الطبقات الكبرى ج 6 / ص 257
6 ــ وفيات الأعيان ج 2 / ص 371
7 ــ البداية والنهاية ج 4 / ص 98
8 ــ تهذيب التهذيب ص 154
9 ــ الرجال ج 1 ص 113
10 ــ الرجال ج 1 / ص 8
11 ــ الرجال ج 1 / ص169
12 ــ الرجال ج 1 / ص 79
13 ــ سير أعلام النبلاء ج 4 / ص 336
14 ــ تاريخ الخلفاء ص 220
15 ــ تاريخ واسط / ص 90
16 ــ حياة الحيوان