الفتّوة زينة الإنسان [1]
تعرف المعاجم اللغوية الفتوة بأنها مرحلة عمرية للإنسان فالفتى هو الشاب الطري الحدث وتطلق على غير الإنسان كالفتي من الأبل، لكن المحققين في أصول المفردات يرون أن الشباب غير كافٍ وحده لإطلاق عنوان الفتوة مالم تجتمع فيه خصال الكمال لذا قيل ((ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال))[2] مع شيء من الطراوة والجدة لذا فإن الشاب اعم من الفتى.
وتوسع المعنى ــ وهو الأمر البالغ التّام ــ من الأشياء الخارجية كالفتى من الإنسان والحيوان إلى المعنوية، فاشتقت الفتوى إذ ان الإفتاء هو النظر التام البالغ الذي يبيّن المشكل من الأمور ويقوّي الحق فيها لذا فالنظر أعم من الفتوى، ولا تختص بالأحكام الشرعية، قال تعالى (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف:41) وقال تعالى (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ) (يوسف:46) وقال تعالى (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) (النمل:32).
وعلى هذا فليس كل شاب فتى ما لم يكن تاماً بالغاً ومدبراً عاقلاً، وقد توسّع هذا المعنى في القرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام) لكل من اتصف بهذه الخصال الكريمة وأن لم يكن في عمر الشباب قال تعالى (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء:60) وقال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (الكهف:60)، ووصف النساء العفيفات ــ وإن كن مملوكات ــ بالفتيات للتبجيل والتوقير، قال تعالى (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور:33) وقال تعالى (فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) (النساء:25).
وبهذا اللحاظ أطلق القرآن الكريم على أصحاب الكهف وصف الفتية وهم لم يكونوا شباباً، ففي رواية الكافي عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال (لرجل عنده: ما الفتى عندكم؟ فقال له: الشاب، فقال: لا، الفتى المؤمن، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخاً فسماهم الله عز وجل فتية بإيمانهم)[3] .
ورويت بطريق آخر عن سليمان بن جعفر الهمداني عنه (عليه السلام) قال فيها (أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كهولاً فسمّاهم الله فتية بإيمانهم، يا سليمان من آمن بالله واتقى فهو الفتى)[4] .
وقد أظهر أصحاب الكهف من الفتوة ما أبهر العقول واستحق الثناء من الله تبارك وتعالى فقد آمنوا بالله تعالى ووحّدوه ونبذوا ما كان عليه قومهم من الشرك والوثنية وعبادة الطاغوت وهو امبراطور الرومان ولم ترعبهم قوته وبطشه وقسوته ولم يخلدوا إلى الدنيا التي تزيّنت لهم وكانوا فيها مترفين ومن علية القوم، لكنهم آثروا ما عند الله تعالى ووقفوا بشجاعة في وجه الطاغوت وعرّفوه بحقيقته التافهة واعانهم الله تعالى بالتأييد والثبات وقوة القلب ورسوخ الايمان (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف:13-14) وهؤلاء الفتية نعم الأسوة لنا، ولم يكونوا من الأنبياء ولا من المعصومين حتى يقال اننا لا نستطيع بلوغ درجتهم وتكرار نسختهم.
وقد اعطى المعصومون (عليهم السلام) قيمة كبيرة للفتوة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (ما تزيّن الانسان بزينةٍ أجمل من الفتوة)[5] وبيّنوا (عليهم السلام) عدة خصال كريمة يتضمنها معنى الفتوة كبذل المعروف للناس وكف الأذى عنهم واجتناب القبائح ونحو ذلك فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (بعد المرء عن الدنيّة فتّوة)[6] وعنه (عليه السلام) قال (الفتوة نائل ــ أي عطاء ــ مبذول، وأذى مكفوف)[7] وعنه (عليه السلام) قال (نظام الفتوة ــ أي تمامها وكمالها ــ احتمال عثرات الاخوان و حسن تعهد الجيران)[8] .
وقد تجلّت الفتوة بأكمل خصالها في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال (ان اعرابياً أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخرج اليه في ثوب مزيًّن ، فقال: يا محمد لقد خرجت اليَّ كأنك فتى، فقال صلى الله عليه وآله: نعم يا اعرابي أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى، فقال: يا محمد أما الفتى فنعم، وكيف ابن الفتى وأخو الفتى، فقال: اما سمعت الله عز وجل يقول (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) فانا ابن إبراهيم، واما أخو الفتى فان منادياً نادى في السماء يوم أحد: لا سيف الا ذوالفقار ولا فتى الا علي، فعلي أخي وأنا أخوه)[9] .
وصحّح الأئمة أيضاً المعاني المنحرفة لهذه الصفة النبيلة حيث اطلقت على المكر والخداع و(البلطجة) في مصطلح اليوم،
روي ان أصحاب الامام الصادق (عليه السلام) تذاكروا عنده الفتّوة (فقال (عليه السلام): وما الفتوة؟ لعلكم تظنّون أنها بالفسوق والفجور! كلاّ، إنما الفتّوة طعام موضوع، ونأئل مبذول، وبشر مقبول، وعفافُ معروف، واذى مكفوف، واما تلك فشطارة و فسق)[10] أي دهاء وخبث.
ولعله (عليه السلام) يشير إلى الظاهرة الاجتماعية التي انتشرت يومئذٍ بمن يسمّونهم (الشطّار والعيّارين) وكانوا يؤذون الناس ويستهزئون بهم ويسلبونهم أموالهم وممتلكاتهم بعنوان الشطارة وهكذا في كل زمان يوجد من يُلبس الأفعال والمظاهر السيئة عناوين جميلة لتسويقها داخل المجتمع.
وحكى في مجمع البحرين أن هذا الكلام منه (عليه السلام) ((رد على ما كان يزعمه سفيان الثوري وغيره من فقهاء العامة من أن التوبة بعد التفتي والصبوة ابلغ وأحسن في باب التزّهد، من الزهادة والكف عن المعصية رأساً في بدء الأمر))[11] وهذه من شطحاتهم المنكرة.
وقد التصقت الفتوة بالشباب لأن عندهم الأهلية للتحلي بمعانيها الكريمة فأنهم يتصفون بطراوة الفطرة وطهارة النفس وبالشجاعة والقوة والاقدام والتضحية والنخوة والحيوية والمسارعة إلى الخير، حيث يقوم شبابنا اليوم بخدمات إنسانية وفعاليات ميدانية وتعبوية تجسّد معنى الفتوّة .
فلإحياء هذه الصفة الكريمة وبيان معانيها السامية وترسيخها في الفرد والمجتمع وتنقيتها من سوء الاستعمال وتشجيع الفعاليات الميدانية والتعبوية التي يطلق عليها احياناً عنوان (الكشافة) ولبيان سيرة فتيان الإسلام ندعو الى تعيين يوم للفتوة، وقد اخترت له يوم الخامس عشر من شوال لأنه ذكرى معركة أحد وإعلان السماء أن أمير المؤمنين (عليهم السلام) هو فتى الإسلام بلا منازع يوم نادى منادي السماء (لا فتى الا علي).
فأدعوكم إلى إقامة هذه الفعالية وضعوا برامج لاكتساب المجتمع خصوصاً الشباب هذه الخصلة الكريمة لنساهم في ارتقاء الأمة وازدهار البلد، وليقم العلماء والكتّاب والمفكّرون بالتعريف بتفاصيلها والله معكم وهو ناصركم إن شاء الله.
سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي