كان المسلمون ينتظرون بفارغ الصبر ولادة الإمام الجواد من أبيه الإمام الرضا عليه السلام، وذلك لعلمهم بهذا الأمر، ولكن الإمام الرضا عليه السلام كان قد مر على عمره الشريف أكثر من أربعين سنة ولكنه لم يرزق ولداً بعد، وعندما كان يسأل عن ذلك يجيب:“إن اللّه سوف يرزقني ولداً يكون الوارث لي والإمام من بعدي”1.
وأخيراً ولد الإمام سنة (195هـ). وقال الإمام الرضا عليه السلام عند ولادته:”قد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار وشبيه عيسى بن مريم، قدست أم ولدته، قد خلقت طاهرة مطهرة ثم قال عليه السلام: يقتل غصباً فيبكي له وعليه أهل السماء ويغضب اللّه على عدوه وظالمه فلا يلبث إلا يسيراً حتى يعجل اللّه به إلى عذابه”2.
وولادة الإمام عليه السلام أزالت القلق من قلوب أتباع أهل البيت (ع) حيث كان يحزنهم أن لا يكون للإمام الرضا عليه السلام خليفة.
ولكن المسألة الجديرة بالاهتمام هي تولي منصب الخلافة في سن السابعة أو الثامنة من عمره الشريف مما شكل سابقة في الفكر الإمامي، ولكن هذا الأمر ليس بغريب في حياة الأولياء التي فيها الكثير من المعجزات والكرامات التي اخترقت نواميس الطبيعة.
إن الزمان الذي عايشه الإمام الجواد عليه السلام تميز بوجود شخصية متميزة على سدة الحكم ذات دهاء وعلم واسع وأسلوب في العمل تميزت بها عن غيرها من الشخصيات التي توالت على الحكم وتصدت لمواجهة الأئمة،عليهم السلام هو المأمون الذي شهد له التاريخ بأنه أدهى بني العباس3 كما كان معاوية أدهى بني أمية.
فإن من سبق المأمون في الحكم كانوا يواجهون الأئمة عليهم السلام وأتباعهم بشكل مباشر وبالحديد والنار وقد رأى بعينه كيف كان أبوه هارون الرشيد يتعامل مع الشيعة بكل قسوة لكنه علم أن هذا الأسلوب من التعامل مع شيعة أهل البيت (ع) وأئمتهم لن يزيدهم إلا قوة وتمسكاً بخطهم بل أنه سيزلزل حكم بني العباس أيضاً كما زلزل من قبلهم حكم بني أمية واقتلعه من جذوره.
خطة المأمون
لقد اتبع المأمون سياسة أخرى مع الشيعة تتركز على محاولة تضعيف الفكر الشيعي والطعن به من الداخل بشكل يحدث زلزالاً في وجدانهم وعقائدهم فيقضي عليهم بشكل لا تقوم لهم قائمة بعده. وقد لاحظ أن الإمامة هي الحصن الأساسي لهذا الفكر. من هنا كان سعيه بهذا الاتجاه من جهات عدة:
1- محاولة تحطيم عقيدة أهل البيت (ع) بعصمة الإمام عليه السلام من خلال استدعائه إلى دار الخلافة ليعيش في بذخ القصور بشكل يسقط مفهوم العصمة.
2- محاولة تحطيم عقيدتهم بعلم الإمام عليه السلام من خلال تشكيل المناظرات مع أبرز العلماء الذين تصل يده إليهم بحضور رؤساء القوم وأشرافهم علّه يحصل اشتباه أو توقف فيحصل مراد المأمون.
3- إذا لم ينجح في تحطيم فكرة الإمامة فهو على الأقل سيضمن الإمام إلى جانبه كشخص تابعٍ للسلطان فيتحول الشيعة من معارضين إلى اتباع لسلطان بني العباس وحكمهم.
بالإضافة إلى أن عمل الشيعة بالتقية والخفاء يشكل مشكلة حقيقية بالنسبة للدولة، وقرب الإمام من المأمون ووقوعه تحت نظره في جميع الأوقات يسمح للمأمون برصد جميع تحركات الإمام عليه السلام واتصالاته وبالتالي كشف وجهاء الشيعة.
وقد واجه المأمون الإمام الرضا عليه السلام بهذا الاسلوب وبهذه السياسة ولكن سياسته باءت بالفشل الذريع ولم يستطع أن يسجل موقفاً واحداً على الإمام يستطيع أن يستفيد منه في خطته هذه إلى أن فقد الأمل ووجد أن الدّفة تميل لغير صالحه وأن الإمام الرضا عليه السلام وبسبب هذه المناظرات والمواقف وجد شهرة في البلاد وحبا شديداً بين العباد، وشيعته تزداد يوماً بعد يوم، فلم يبق أمامه إلا حل واحد وهو دس السم والتخلص من وجوده الشريف المبارك.
وفي هذه الظروف والأجواء انتقلت المواجهة إلى الإمام الجواد عليه السلام وكان له من العمر ما يقارب الثماني سنوات، وعندها وجد المأمون نفسه أمام الإمام الجواد عليه السلام الذي ما زال في عمره صبياً صغيراً، فتجدد أمله بتحقيق مخططه وعبر اسلوبه القديم، فإن الذي يواجهه الان ليس الإمام الرضا عليه السلام بل هو صبي لم يبلغ الحلم، ومن كان في عمره عادة لن يستطيع أن يناظر كبار العلماء أويصمد أمام مغريات السلطان ودار الخلافة بكل ما فيها.
من هنا نراه يستدعي الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد.
مواجهة الإمام الجواد عليه السلام
لقد واجه الإمام الجواد عليه السلام هذه السياسة من اللحظة الأولى التي وطأت قدماه فيها بغداد، وأسقطها تباعاً:
1- على المستوى العلمي، هيأ المأمون للمناظرات بين الإمام عليه السلام وبين قاضي الزمان يحيى بن أكثم بحضور جمع من الأشراف ورؤساء القوم، وقد صرح المأمون بغرضه من تلك المناظرات حيث قال ليحيى «اطرح على أبي جعفر محمد بن الرضا عليه السلام مسألة تقطعه فيها” ولكنها كانت دائماً تسير لصالح الإمام عليه السلام وكان يتوقف خصمه ويدهش لشدة ما يراه من إحاطة وسعة في علم الإمام عليه السلام.
ومن هذه المناظرات. قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا؟.
فقال أبو جعفر عليه السلام:”قتله في حل أو حرم عالما كان المحرم أو جاهلاً قتله عمداً أو خطأً، حراً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد أم من كبارها، مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟”.
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره.
ثم شرح الإمام عليه السلام بعد ذلك تفصيل هذه المسائل قائلاً:”إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها، فعليه شاة، فان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، و إن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة. وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، وكان إحرامه بالحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه المأ ثم وهو موضوع عنه في الخطاء، والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الاخرة والمصر يجب عليه العقاب في الاخرة”.
وكان من اثار هذه المناظرات أن انتشر الفكر الشيعي وشاع وبانت قوته ومتانته وعلوّه، فانقلب السحر على الساحر.
2- وأما من جهة العصمة، فقد حاول المأمون الطعن بها وتسجيل ولو خطأ واحد على الإمام عليه السلام، وبذل لذلك كل ما أمكنه، فعن محمد بن الريان قال: “احتال المأمون على أبي جعفر عليه السلام بكل حيلة فلم يمكنه فيه شيء فلما أراد أن يبني عليه ابنته دفع إلى مائة وصيفة من أجمل ما يكنّ إلى كل واحدة منهن جاماً فيها جوهر يستقبلون أبا جعفر عليه السلام إذا قعد في موضع الختان، فلم يلتفت إليهن، وكان رجل يُقال له مخارف صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللحية فدعاه المأمون فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، قعد بين يدي أبي جعفر عليه السلام لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً، ثم رفع رأسه عليه، وقال عليه السلام: (اتقِ الله يا ذا العثنون)، قال: فسقط المضراب من يده والعود فلم ينتفع بيده إلى أن مات.
ورغم الحقيقة الراسخة في عصمة الإمام عليه السلام إلا أن المأمون كان قادراً على الاستفادة من وجود الإمام في قصر الخلافة من الجهة الإعلامية ليعكسها بشكل سلبي على الشارع الشيعي، وقد واجه الإمام عليه السلام ذلك أيضاً واسقطه، فقد روي عن الحسين المكاري قال: دخلت على أبي جعفر ببغداد وهو على ما كان من أمره، فقلت في نفسي: هذا رجل لا يرجع إلى موطنه أبداً وما أعرف مطعمه؟4 قال: فأطرق رأسه ثم رفعه وقد أصفر لونه.
فقال عليه السلام:”يا حسين خبز شعير وملح جريش في حرم رسول الله أحب إلي مما تراني فيه”.
3- لم يستطع أن يحول أتباع أهل البيت (ع) إلى المشروع العباسي ويستفيد منهم كأتباع لهذا المشروع، بل على العكس فقد استفاد الإمام عليه السلام من هذه السياسة في تقوية المشروع الإسلامي الأصيل. ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون﴾5
وعلى أي حال فإن المأمون استمر بسياسته هذه يحصد الفشل تلو الاخر إلى أن توفي وحكم بعده أخوه المعتصم، فسار مدة بسيرة المأمون، ولكنه سرعان ما فقد الأمل من تحقيق أهدافه، وفهم الاثار التي تحصل بسبب هذه السياسة التي لم تزد مشروعه إلا ضعفاً ووهنا والشيعة إلا علوا ومتانة، وأحس بالاحباط والفشل فتخلى عن سياسته هذه وتوسل بالحديد والنار شان كل ضعيف لا يقدر على مواجهة الكلمة والفكر، فدس السم له واستشهد عليه السلام على عمر لم يتجاوز الخمسة وعشرين عاماً.