تمهيد
إنّ سيرة أمير المؤمنين (ع) صفحة خالدة من صفحات المجد والسموّ، نقرأ فيها عالم المثل العادلة ومبادئ العظمة والاستقامة والخصائص الفريدة، نقرأ سيرة رجل عاش لله، وليس فيه شيء لغيره، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ويحب فيه، ويبغض فيه، أعظم الناس جهاداً في سبيله وأكثرهم معرفة بشريعته وعملاً بأحكامها وإحياءً لمعالمها… فجاءت سيرته تجسيداً لرسالة الإسلام، بل كانت إسلاماً يتحرّك على الأرض… إنّه الكتاب الناطق والسنّة الحية.
نسبه (ع)
هو سيِّد العرب، يعسوب المؤمنين، مولى الموحّدين، أسد الله الغالب عليُّ بن أبي طالب بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي، الهاشمي، المكِّي، المدني.
كنيته
أبو الحسن. ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخوه، آخاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّتين. فإنَّ رسول الله آخى بين المهاجرين، ثُم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة. وقال لعليٍّ في كلِّ واحدة منهما: “أنت أخي في الدنيا والآخرة”.
وهو وزير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيُّه وخليفته في أُمَّته، وجامع فضائله وشمائله. ووارث علمه وحكمه.
وأوّل خليفة من بني هاشم، هاجر الهجرتين، ماشياً حافياً، وشهد بدراً وأُحداً والخندق وبيعة الرضوان والمشاهد كلَّها، إلّا معركة تبوك. فقد خلَّفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة، وكان ذلك أحد مواضع قوله له: “أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي” وأبلى في جميع المعارك بلاءً عظيماً. وكان اللواء في أكثر المواضع بيده.
وليد الكعبة
من العجائب التي أضافت صوتاً ضارباً في التاريخ وأحداثه الفريدة التي تفتح الأعين على ما تخفيه من أسرار، أن يصطفي الله لعبد اصطفاه. حتى موضع مولده، ليجمع له ـ مع طهارة مولده ـ شرف المحلّ، محلّ الولادة، ويخصّه بمكرمةٍ ميَّزه بها منذ مولده عن سائر البشر.
هكذا كان مولد عليِّ بن أبي طالب (ع)، في البيت العتيق في الكعبة الشريفة.
وكان ذلك يوم الجمعة، الثالث عشر من شهر رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة، قبل البعثة بعشر سنين. حوالي عام 600 م (23 قبل الهجرة)، وقيل: “ولد سنة ثمان وعشرين من عام الفيل”.
ولعلّه في مثل هذا اليوم الذي وُلِد فيه أمير المؤمنين، قد وُلِد الألوف من البشر، لكنَّ ولادته مثَّلت حدثاً عجيباً تجلَّت به الأسرار، وتلبَّست بالحكمة الربَّانية. فإنَّ أُمَّه فاطمة بنت أسد لمَّا جاءها الطلق، تعلِّقتْ بأستار الكعبة الشريفة، من شدّة المخاض. مستجيرة بالله وَجِلةً، خشية أن يراها أحد من الذين اعتادوا الاجتماع في أُمسياتهم في أروقة البيت أو في داخله. فانحازت ناحية وتوارت عن العيون خلف أستار البيت، واهِنةً مرتعشة أضنتها آلام المخاض, فألصقت نفسها بجدار الكعبة. وأخذت تقول: “يا ربِّ، إنِّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدِّقة بكلام جدِّي إبراهيم وأنَّه بنى البيت العتيق، فبحقِّ الذي بنى هذا البيت وبحقِّ المولود الذي في بطني إلّا ما يسّرت عليَّ ولادتي”.
قال يزيد بن قعنب: فرأيت البيت قد انشقَّ عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنَّ ذلك من أمر الله تعالى، ثُمَّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (ع).
وقد أنشد الحميري (ت 173 هـ) في هذه المناسبة:
وَلدَتْهُ في حرم الإلـه وأمنـه***والبيت حيـث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمـة***طابت وطاب وليدهـا والمولد
ما لُفَّ في خِرَقِ القوابِل مِثلُه***إلاّ ابــن آمنةَ النبيِّ محمّد
يقول الألوسي: “وفي كون الأمير (كرّم الله وجهه) ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين السنّة والشيعة… ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه كما اشتهر وضعه، بل لم تتفق الكلمة عليه. وأحرى بإمام الأئمّة أن يكون وضعه في ما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يصنع الأشياء، وهو أحكم الحاكمين”.
صفته
نشأ (ع) مكين البنيان، شاباً وكهلاً، حافظاً لتكوينه المكين حتى ناهز الستين من عمره الشريف. كان قويَّ البنية، ممتلئ الجسم، كثير الشعر، ربعة في الرجال لا هو بالطويل ولا بالقصير، عريض المنكبين، له مشاش كمشاش السبع الضاري. يغلظ من أعضائه ما استغلظ من أعضاء الأسد ويدقُّ منها ما استدقَّ.
هذا وتدلُّ أخباره ـ كما تدلُّ صفاته ـ على قوَّة جسدية، فربَّما رفع فارساً بيده فجلد به الأرض غير جاهد، وما صارع أحداً إلّا وصرعه.
يتكفَّأ في مشيته على نحو ما يقارب مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). الذي جعله أُسوته وقدوته منذ أن نشأ وحتَّى مات.
أسماؤه وألقابه
كثيرة أسماؤه وألقابه (ع)، قال مجاهد: “إنَّ أُمَّه سمَّته عليَّاً عند ولادته”.
وقال عطاء: إنَّما سمَّته أُمُّه حيدرة، بدليل قوله يوم خيبر: “أنا الذي سمَّتني أمِّي حيدرة”، فلمَّا علا على كتفي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكسَّر الأصنام سُمِّي عليَّاً من العلوَّ والرفعة والشرف”.
وقد عُرف عليه السلام بألقاب كثيرة، جاء كثير منها في حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) منها: “يعسوب المؤمنين”. وأصل اليعسوب هو ملك النحل، ومنه قيل للسيِّد: يعسوب، والمؤمنون يتشبَّهون بالنحل، لأنَّ النحل تأكل طيباً.
ويلقَّب أيضاً: الوليّ، والوصيّ، والتقيّ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وشبيه هارون، وصاحب اللوى، وخاصف النعل، وكاشف الكرب، وغيرها كثير.
وكنَّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبي تراب لمَّا رآه ساجداً معفِّراً وجهه في التراب. فكان ذلك من أحبِّ ألقابه إليه.
وجاء في سبب تسميته ـ كما نقله ابن إسحاق عن عمَّار بن ياسر ـ أنَّه قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فلمَّا نزلها رسول الله وأقام بها، رأينا ناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم، فقال لي عليٌّ عليه السلام: “يا أبا اليقظان، هل لك في أن نأتي هؤلاء القوم لننظر كيف يعملون؟” قلت: إن شئت، فجئناهم ونظرنا إلى عملهم ساعة ثُمَّ غشينا النوم، فانطلقت أنا وعليٌّ واضطجعنا في صور من النخل على التراب اللين ونمنا، والله ما أيقظنا إلّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تترَّبنا من تلك البقعة التي نمنا فيها، ففي ذلك اليوم قال الرسول لعليٍّ عليه السلام: “ما لك يا أبا تراب”!.
رواه أيضاً ابن جرير الطبري في تاريخه، ثُمَّ ذكر سبباً آخر في هذه التسمية. خلاصته أنَّه قيل لسهل بن سعد الساعدي: إنَّ بعض أمراء المدينة يريد أن يبعث إليك لتسبَّ عليَّ بن أبي طالب على المنبر. وتقول له: يا أبا تراب، قال: والله ما سمَّاه بذلك إلّا رسول الله.
وأخرجه أحمد بن حنبل من وجه آخر، قال: حدَّثنا ابن نمير، عن عبد الملك الكندي، عن أبي حازم، قال: جاء رجل إلى سهل بن سعد، فقال: هذا فلان يذكر علي بن أبي طالب عند المنبر، فقال: ما يقول؟ قال: يقول: أبو تراب، ويلعن أبا تراب، فغضب سهل وقال: والله ما كنَّاه به إلّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان اسم أحبَّ إليه منه.
ولقَّبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً بأمير المؤمنين. حتَّى قال فيه: “سلِّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين”.
ومن ألقابه أيضاً: المرتضى، ونفس الرسول، وأخوه، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، وقسيم النار، وصاحب اللواء، وسيِّد العرب، وكشَّاف الكرب، والصدِّيق الأكبر، والهادي، والداعي، والشاهد، وباب المدينة ـ أي مدينة العلم ـ وغرَّة المهاجرين، والكرَّار غير الفرَّار، والفقَّار.
واجتمعت في عليِّ بن أبي طالب خلاصة الصفات التي اشتهرت بها أُسرته الهاشمية من النبل والشجاعة.. وممَّا قاله القائلون عن شجاعته: إنَّه ما عُرف عن بطل في العالم إلّا كان مغلوباً حيناً، وغالباً حيناً، إلّا عليٌّ عليه السلام فهو الغالب أبداً ودائماً. ومن هنا كان العرب يفخرون بأنَّ قريبهم قُتل بسيف عليٍّ، ويجعلون من هذا دليلاً على أنَّ صاحبهم بارز عليَّاً، وهو الموت الذي لا بدَّ منه.
وعُرف أيضاً بالمروءة والعلم والذكاء، وقد كان يقول: “لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب”. وهو أعلم أصحاب رسول الله قاطبة بلا منازع، وفي هذا أحاديث كثيرة تشهد له، ووقائع كثيرة تصدّقه.
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية