كان الإمام عليه السلام من أحلم الناس، ومن أكثرهم كظماً لغيظه، فلم يثأر من أي أحد اعتدى عليه أو أساء إليه، وإنّما كان يقابلهم بالصفح والإحسان كشأن أخيه وابن عمّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قابل المعتدين عليه بالصفح، على هذا المنهج سار وصيّه وباب مدينة علمه، فقابل أعداءه وخصومه بالإحسان والصفح الجميل.
وهذه لمحات من بوادر حلمه تنمّ عن نفسه العظيمة التي خلقها الله لتكون مشكاة نور لعباده تهديهم للتي هي أقوم، وهي كما يلي:
١- دعا الإمام عليه السلام غلاماً له فلم يجبه، ثمّ دعاه مرّة ثانية وثالثة فلم يجبه، فقام إليه وقال له:
«ما حملك على ترك إجابتي؟». فردّ عليه الغلام: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك.. فامتلأ قلب الإمام سروراً، وقال عليه السلام: «الحمد لله الّذي جعلني ممّن يأمنه خلقه، إمض فأنت حرّ لوجه الله تعالى». (بحار الأنوار للمجلسي: ج41، ص48، الأمالي للسيد المرتضى: ج2، ص162).
٢- قَصَده أبو هريرة، وكان معروفاً بانحرافه عنه، ومتجاهراً ببغضه، فسأله حاجة فقضاها له، فعاتبه بعض أصحابه على ذلك فقال عليه السلام: «إنّي لأستحي أن يغلب جهله حلمي، وذنبه عفوي، ومسألته جودي». (المناقب لابن شهر آشوب: ج6، ص٣٨٠).
3- كان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب، وكان الإمام عليّ عليه السلام يقول: «ما زال الزّبير رجلاً منّا أهل البيت حتّى شبّ عبد الله»، فلمّا ظفر به يوم الجمل صفح عنه، وقال له: «اذهب فلا أرينّك», ولم يزد على ذلك.
٤- وكان من عظيم حلمه أنّه ظفر بعائشة بعد فشلها في حرب الجمل، ومعها مروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وغيرهما من الحاقدين عليه، الذين أشعلوا نار الحرب، وأعلنوا التمرّد والعصيان المسلّح على حكومته، فعفا عنهم جميعاً، وسرّح عائشة سراحاً جميلاً، وجهّزها جهازاً حسناً، فبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمَّمَهنّ بالعمائم، وقلّدهنّ بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يُذكَر به وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.
وهكذا كانت سيرته الصفح والإحسان ليقلع نزعات الحقد والشرّ من نفوسهم.
5- وحاربه أهل البصرة وضربُوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألاَ لا يُتبَع مُولٍ، ولا يُجهزُ على جريح، ولا يُقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى ألا الصفح والعفو وسار بذلك على سنّةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تُنسَ.
يقول ابن أبي الحديد عن حلم الإمام: أمّا الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن مذنب، وأصفحهم عن مسيء، وقد ظهر حجّة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان من أعدى الناس، وأشدّهم بغضاً له، فصفح عنه.
مقابلة الإساءة بالإحسان:
ومن عظيم حلمه وصفحه عليه السلام أنّ معاوية لمّا زحف لحرب الإمام واستولى على الماء اعتبر ذلك أوّل الظفر، فلمّا جاء الإمام مع جيشه وجد حوض الفرات قد احتلّته جيوش معاوية، فطلب منهم أن يسمحوا لجيشه بالتزوّد من الماء، فقالوا له: لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأً كما مات ابن عفّان، فلمّا رأى ذلك أمر جيشه باحتلال الفرات، فاحتلّته قوّاته وملكوا الماء، وسار أصحاب معاوية في البيداء لا ماء لهم، فقال أصحاب الإمام له: إمنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة واحدة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي، فلا حاجة لك في الحرب، فقال عليه السلام: «لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، أفسحوا لهم عن الشّريعة ففي حدّ السّيف ما يغني عن ذلك». (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1، ص٢٤).
تواضعه عليه السلام:
من أخلاق الإمام عليه السلام التواضع، ولكن لا للأغنياء والمتكبّرين، وإنّما للفقراء والمستضعفين، فكان يخفض لهم جناح البرّ والمودّة، وقد ضارع بذلك أخاه وابن عمّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان للمؤمنين أباً وللفقراء أخاً.. ونعرض فيما يلي لبعض ما أثر عنه عليه السلام.
شذرات من تواضعه عليه السلام:
١- وفد عليه رجل مع ابنه فرحّب بهما وأجلسهما في صدر المجلس، ثمّ أمر لهما بطعام، وبعد الفراغ منه بادر الإمام فأخذ الإبريق ليغسل يد الأب ففزع الرجل، وقال: كيف يراني الله وأنت تصبّ الماء على يدي؟ فأجابه الإمام عليه السلام برفق ولطف: «إنّ الله يراني أخاك الّذي لا يتميّز منك، ولا يتفضّل عنك، ويزيدني بذلك منزلة في الجنّة».
أيّ روح ملائكية هذه الروح؟ وأيّ سموّ في الذات هذا السموّ؟
وانصاع الرجل إلى كلام الإمام عليه السلام ، فصبّ الماء على يده، ولمّا فرغ ناول الإبريق إلى ولده محمّد بن الحنفية، وقال له: «يا بنيّ، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت الماء على يده، ولكنّ الله يأبى أن يسوّي بين إبن وأبيه». وقام محمّد فغسل يد الولد. (المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص٣٧٣).
٢ – اجتاز الإمام عليه السلام في رجوعه من صفّين على دهّاقين الأنبار فقابلوه بمزيد من التعظيم والتكريم، وصنعوا له كما يصنعون للملوك والأمراء، فأنكر الإمام عليهم ذلك وقال لهم: «والله ما ينتفع بهذا امراؤكم، وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم، وتشقّون به على آخرتكم. وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وما أربح الرّاحة معها الأمان من النّار». (المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص٣٧٢).
3- عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «خرج أمير المؤمنين عليه السلام على أصحابه وهو راكب، فمشوا خلفه فالتفت إليهم فقال: ألكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبّ أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للرّاكب ومذلّة للماشي. قال: وركب مرّة أخرى فمشوا خلفه، فقال: انصرفوا فإنّ خفق النعال خلف أعقاب الرجال مفسدة». (بحار الأنوار للمجلسي: ج41، ص55).
4- وعن الامام الصادق عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يحطب ويستسقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز.
5- وروي أنّه اشترى تمراً بالكوفة، فحمله في طرف ردائه، فتبادر الناس إلى حمله وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله، فقال عليه السلام: « ربّ العيال أحقّ بحمله». (المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص٣72).
حقّا إنّ هذه الأخلاق أخلاق الأنبياء العظام وأوصيائهم، وقد مثّلها بسيرته وسلوكه سيّد الأوصياء وإمام المتّقين والأخيار.
عيادته عليه السلام للمرضى:
من معالي أخلاق الإمام علي عليه السلام عيادته للمرضى، وكان يحفّز أصحابه على ذلك، ويحثّهم على هذه الظاهرة، فقد كان يقول لهم: «إن للمسلم على أخيه المسلم من المعروف ستا: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات…. الخبر». (الأمالي للشيخ الطوسي: ج2، ص248).
وكان عليه السلام إذا علم أنّ أحداً من أصحابه مريض بادر لعيادته، فقد عاد شخصاً من أصحابه، ولمّا استقرّ به المجلس قال له: «جعل الله ما كان من شكواك حطّاً لسيّئاتك، فإنّ المرض لا أجر فيه، ولكنّه يحطّ السّيّئات، ويحتّها حتّ الأوراق. وإنّما الأجر في القول باللّسان، والعمل بالأيدي والأقدام». (شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج5، ص264).
كراهته عليه السلام للمدح:
كان الإمام عليه السلام يسأم المدح والإطراء، وكان يقول لمن أطراه: «أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك»، وإذا أطرى عليه رجل قال: «اللهمّ إنّك أعلم بي منه وأنا أعلم منه بنفسي، فاغفر لي ما لا يعلم». (الأمالي للسيد المرتضى: ج1، ص198).
إجابته عليه السلام لدعوة من دعاه لتناول الطعام:
ومن معالي أخلاق الإمام عليه السلام أنّه إذا دعي لتناول الطعام أجاب إلى ذلك خصوصاً إذا دعاه فقير، وينقل لنا التأريخ أن رجلاً دعا عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى الطعام، فقال عليه السلام: «نأتيك على ألَّا تتكلَّف ما ليس عندك، ولا تدّخر عنا ما عندك». وكان عليه السلام يقول: «شرّ الإخوان من تكلَّف له». (عيون الأخبار للشيخ الصدوق: ج3، ص255).
وهذا من محاسن الآداب، ومن أروع صور الشرف، وسموّ الذات.
سخاؤه عليه السلام:
كان الإمام عليه السلام من أندى الناس كفّاً، ومن أكثرهم برّاً وإحساناً إلى المحتاجين، وكان لا يرى للمال قيمة سوى أن يردّ به جوع جائع أو يكسو به عريان، وكان يؤثر الفقراء على نفسه ولو كانت به خصاصة وهذه شذرات من برّ الإمام عليه السلام وجوده على الفقراء، لم يبغ بما قدّمه لهم من إحسان إلاّ وجه الله تعالى والدار الآخرة:
1- من بوادر جوده أنّه لمّا قسّم بيت مال البصرة على جيشه لحق كلّ واحد منهم خمسمائة درهم، وأخذ هو مثل ذلك، فجاءه شخص لم يحضر الواقعة فقال له: كنت شاهداً معك بقلبي، وإن غاب عنك جسمي، فأعطني من الفيء شيئاً, فدفع إليه ما أخذه لنفسه، ورجع ولم يصب من الفيء شيئاً. (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1، ص205).
2 ـ كان الإمام عليه السلام يملك أربعة دراهم تصدّق بواحد ليلاً، وبالثاني نهاراً، وبثالث سرّاً وبالرابع علانية، فنزلت فيه الآية الكريمة: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾. (كشف الغمّة للأربلي: ص50).
3- كان رجل مؤمن فقير في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساكناً في دار ضيّقة وبجوارها حديقة لشخص موسر وفيها نخل يتساقط تمرها على دار الفقير، فيبادر من حرصه إلى أخذ التمر من أفواه الأطفال، وشكا الفقير ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبادر إلى صاحب الحديقة وطلب منه أن يبيعها عليه، ويأخذ مكانها بستاناً في الفردوس الأعلى، فأبى وقال: لا أبيعك عاجلاً بآجل، فانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم متأثّراً فرأى الإمام، فأخبره بالأمر، فتوجّه الإمام صوب ذلك الرجل وطلب منه أن يبيعه بستانه، فقال له: أبيعك بحائطك الحسن، فرضي الإمام، وباعه عليه، وسارع الإمام إلى الرجل الفقير فوهب له تلك البستان. (بحار الأنوار للمجلسي: ج41، ص37).
هذه بعض البوادر من سخائه وجوده على الضعفاء والفقراء، يقول الشعبي: كان عليّ أسخى الناس، كان على الخُلُق الذي يحبّه الله وهو السخاء والجود، ما قال «لا» لسائل قطّ.
(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1، ص22).
وقد أجمع المؤرّخون والمترجمون له أنّه لم يكن يبغي فيما أنفقه أي غرض من أغراض الدنيا كالجاه والسمعة وذيوع الاسم، فإنّ ذلك لم يفكّر به، وإنّما كان يبغي وجه الله تعالى، وما يقرّبه إليه زلفى.
الرأفة بالفقراء:
من الصفات البارزة لأمير المؤمنين عليه السلام الرأفة الكاملة بالفقراء، فكان لهم أباً، وعليهم عطوفاً، وقد واساهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش وخشونة اللباس، وهو القائل أيام خلافته: «…أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ».
(نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح: ص418).
لقد كان أبو الحسن عليه السلام ملاذاً للفقراء وصديقاً حميماً للبؤساء، وقد تبنّى قضاياهم في جميع مراحل حياته خصوصاً في أيام خلافته.
إنّ من أوّليات المبادئ التي آمن بها واعتنقها هي القضاء على البؤس والحرمان، وتوزيع خيرات الله تعالى على عباده، فلا يختصّ بها فريق دون فريق، ولا قوم دون آخرين، وكانت مواساته للفقراء ومساواتهم للأغنياء من الأسباب الهامّة في بغض البعض له، واندفاعهم إلى مناجزته، ووضعهم العراقيل والسدود أمام مخطّطاته الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في الأرض.
ومن مظاهر مواساته للفقراء في آلامهم ومكارههم، أنّه نظر إلى إمرأة على كتفها قربة ماء فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل وترك علي صبياناً يتامى وليس عندي شيء فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس فانصرف وبات ليلته قلقاً، فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام فقال بعضهم: اعطني أحمله عنك، فقال: «من يحمل وزري عني يوم القيامة»، فأتى وقرع الباب فقالت من هذا؟ قال: «أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة فافتحي فان معي شيئا للصبيان» فقالت: رضى الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب ، فدخل وقال: «اني أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين الصبيان لأخبز أنا»، فقالت أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ولكن شأنك والصبيان فعللهم حتى أفرغ من الخبز، فعمدت إلى الدقيق فعجنته وعمد علي إلى اللحم فطبخه وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال له: «يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما مر في أمرك»، فلما اختمر العجين قالت: يا عبد الله سجر التنور، فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول: «ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الأرامل واليتامى»، فرأته امرأة تعرفه فقالت ويحك هذا أمير المؤمنين، قال فبادرت المرأة وهي تقول واحياي منك يا أمير المؤمنين فقال: «بل واحياي منك يا أمة الله فيما قصرت في امرك». (المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص٣٨٢).
عدله وأمانته عليه السلام:
من الصفات التي تميّز بها أمير المؤمنين عليه السلام إقامة العدل، وإيثاره على كلّ شيء، خصوصاً في أيام خلافته، فقد تجرّد عن جميع المحسوبيات، وآثر رضا الله تعالى ومصلحة الأمة على كلّ شيء، فهو بحقّ صوت العدالة الإنسانية، ورائد نهضتها الإصلاحية في جميع الأحقاب والآباد.
وروى المؤرّخون صوراً رائعة من عدله تبهر العقول، وكان من ضروب عدله ما يأتي:
١- وفد عقيل بن أبي طالب على أخيه الإمام علي عليه السلام في الكوفة، فرحّب به الإمام عليه السلام وقال لولده الإمام الحسن عليه السلام: «اكسُ عمّك»، فكساه قميصاً ورداء من ملكه، ولمّا حضر العشاء قدّم له خبزاً وملحاً، فأنكر عقيل ذلك وقال: ليس ما أرى؟ (لقد أراد عقيل أن تقدّم له مائدة شهيّة حافلة بألوان الطعام، فأجابه الإمام عليه السلام بلطف وهدوء): «أو ليس هذا من نعمة الله؟ فله الحمد كثيراً».
فقال عقيل للإمام: أعطني ما أقضي به ديني، وعجّل سراحي حتى أرحل عنك.
قال عليه السلام: «كم دينك يا أبا يزيد؟».
قال: مائة ألف درهم.
قال عليه السلام: «والله ما هي عندي، ولا أملكها، ولكن اصبر حتّى يخرج عطاي(عطائي) فأواسيكه، ولولا أنّه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه».
فقال عقيل: بيت المال بيدك، وأنت تسوّفني إلى عطائك، وكم عطاؤك؟ وما عسى أن يكون؟ ولو أعطيتنيه كلّه.
(فطرح الإمام عليه السلام أمامه حكم الإسلام قائلاً): «وما أنا وأنت فيه (أي في العطاء من بيت المال) إلاّ بمنزلة رجل من المسلمين».
وكانا يتكلمان فوق قصر الأمارة مشرفين على صناديق أهل السوق فقال له علي عليه السلام: «إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصّناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه». (وتوهّم عقيل أنّها من أموال الدولة، فقال للإمام): ما في هذه الصناديق؟ قال عليه السلام: «فيها أموال التّجار». (فأنكر عقيل، وراح يقول بألم ومرارة): أتأمرني أن أكسر صناديق قوم توكّلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟ (فردّ عليه الإمام قائلاً): «أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم، وقد توكّلوا على الله، وأقفلوا عليها، وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعاً إلى الحيرة، فإنّ فيها تجّاراً مياسير، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله».
(والتاع عقيل، وراح يقول بألم): أَوَ سارقاً جئت؟ (فأجابه رائد العدالة الإسلامية قائلاً): «تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً».
(ولم يجد عقيل منفذاً يسلك فيه، فقد سدّ عليه الإمام عليه السلام جميع النوافذ، وصيّره أمام العدل الصارم، الذي لا يستجيب لأي عاطفة، ولا ينصاع إلاّ إلى الحقّ، وراح عقيل يقول بحرارة اليأس): أتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟ فقال عليه السلام له: «أذنت لك».
قال: فأعنّي على سفري. (فأمر الإمام ولده الزكي الإمام الحسن عليه السلام بإعطائه أربعمائة درهم نفقة له)، فخرج عقيل وهو يقول:
سيغنيني الذي أغناك عنّي *** ويقضي ديننا ربّ قريب
(المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص٣٧6 )
لقد تجرّد الإمام عليه السلام من جميع المحسوبيات فلم يقم لها أي وزن وأخلص للحقّ والعدل كأعظم ما يكون الإخلاص، فالقريب والبعيد سواء في ميزانه… لقد احتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة، فلم يؤثر بشيء منها نفسه وأهل بيته، وحمّل نفسه رهقا وشدّة.
٢- ومن صنوف عدله الباهر أنّه نزل ضيفٌ عند الإمام الحسن عليه السلام ، فاستقرض رطلاً من العسل من قنبر خازن بيت المال، فلمّا قام الإمام بتقسيم العسل على المسلمين وجد زقّاً منها ناقصاً، فسأل قنبر عن ذلك، فأخبره بالأمر، فاستدعى ولده الإمام الحسن وقال له: «ما حملك على أن تأخذ منه قبل القسمة؟».
فأجابه الإمام الحسن عليه السلام وقال: «أليس لنا فيه حقّ، فإذا أخذناه رددناه إليه». فقال الإمام لولده الزكي عليه السلام بلطف: «فداك أبوك، وإن كان لك فيه حقّ، فليس لك أن تنتفع بحقّك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم». ثمّ دفع إلى قنبر درهماً، وقال له: «اشتر به أجود عسل تقدر عليه، فاشترى قنبر العسل، ووضعه الإمام في الزقّ وشدّه». (المناقب لابن شهر آشوب: ج1، ص375).
٣- جيء له بمال من أصفهان فقسّمه أسباعاً على أهل الكوفة، ووجد فيها رغيفاً فكسره سبعة كسر، وقسّمه على أهل الأسباع. (بحار الأنوار للمجلسي: ج41، ص١١٨).
هذا هو العدل الذي جعله الإمام عليه السلام أساساً لدولته ليسير عليها حكّام المسلمين من بعده إلاّ أنّهم شذّوا وابتعدوا عن سيرته، وناقضوه، فأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم وملذّاتهم، وأسرفوا في ذلك إلى حدّ بعيد.
سعة علومه عليه السلام:
أجمع الرواة على اختلاف ميولهم وأهوائهم على أنّ الإمام عليه السلام أوسع المسلمين علماً، وأكثرهم فقهاً، وأنّه لا يماثله أحد من الصحابة وغيرهم في قدراته العلمية، فقد غذّاه سيّد الكائنات صلى الله عليه وآله وسلم بملكاته ومواهبه، فهو باب مدينة علمه، وقد تحدّث الإمام عليه السلام عن سعة علومه:
١- عن الأصبغ بن نباتة، قال: لما جلس علي عليه السلام في الخلافة وبايعه الناس، خرج إلى المسجد متعمماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لابساً بردة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منتعلاً نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، متقلداً سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصعد المنبر، فجلس عليه متمكناً، ثم شبك بين أصابعه، فوضعها أسفل بطنه، ثم قال: «يا معشر الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زقاً زقا، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثنيت لي وسادة، فجلست عليها، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً ، فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه؟ ولولا آية في كتاب الله عز وجل لأخبرتكم بما كان وبما يكون، وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية : ﴿يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾».
ثم قال عليه السلام: «سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو سألتموني عن أية آية، في ليل أنزلت، أو في نهار أنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، إلا أخبرتكم».
فقال إليه رجل يقال له ذعلب، وكان ذرب اللسان، بليغاً في الخطب، شجاع القلب، فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة، لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه. فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك؟ فقال: «ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد ربا لم أره».
قال: فكيف رأيته؟ صفه لنا. قال: «ويلك! لم تره العيون بمشاهدة الابصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، ويلك يا ذعلب، إن ربي لا يوصف بالعبد ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بقيام ( قيام: انتصاب) ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمجسة، قائل لا بلفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه ، أمام كل شيء ولا يقال له أمام داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج». فخر ذعلب مغشياً عليه، ثم قال: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عدت إلى مثلها. (الأمالي للشيخ الصدوق: ص422).
2- قال عليه السلام: «لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت». وأعربت هذه الكلمات عن طاقاته العلمية، وما منحه الله تعالى من الفضل والعلم، الأمر الذي جعله في قمّة العلم.
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض صفاته وعناصره النفسية، ومن المؤكّد أنّه لا يضارعه أحد فيما وهبه الله تعالى من الكمالات ومعالي الآداب والأخلاق.