ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام ,,
كان يوماً قائضاً شديد الحرارة,ووقت زوال الشمس يقترب,وربّما كانت آخر ساعة من ساعات اللقاء، لقاء الرسول الكريم مع مئة وعشرين ألف من المسلمين. عندما وقف الرسول,وأوقف المسلمين,ليعلن عن ساعة الوداع,ولحظات الوداع غالباً تكون ذات نكهة خاصة وذات طعم لا يُنسى,في تلك الساعة بلّغ الرسول صلّى الله عليه وآله ما أُنزل إليه من ربّه,في ذلك الوقت أعلن أنّ عليّ بن أبي طالب خليفته ووصيه ووارثه,إذ وقف في مكان مرتفع حتّى يراه جميع الناس ويسمعوه,فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال أيّها الناس، يوشك أن أُدعى فأجيب وإنّي مسؤول,وإنّكم مسؤولون,فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنّك قد بلّغت وجاهدت ونصحت,فجزاك الله خيراً.فقال أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله ..وأنّ جنّته حقّ,وأنّ ناره حقّ,وأنّ الموت حقّ,وأنّ البعث حقّ بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور؟ قالوا نشهد بذلك,قال اللهمّ اشهد.ثمّ قال أيّها الناس إنّ الله مولاي,وأنا مولى المؤمنين,وأنا أولى بهم من أنفسهم فمَن كنتُ مولاه,فهذا عليٌّ مولاهُ,اللهمّ والِ مَن والاه,وعادِ من عاداه,وأكمل الرسول خطبته ثمّ نزل وصلّى ركعتين,فأذّن مؤذّنه للظهر,فصلّى بأصحابه ثمّ جلس في خيمته,وأمر علياً أن يجلس في خيمة له.فأمر المسلمين ببيعته في الخلافة.وهكذا مارس الرسول صلّى الله عليه وآله ما من شأنه أن يحفظ مستقبل الرسالة الإسلاميّة,باعتباره رسولاً نبياً, أمره الله تعالى أن يعلن لأهل الأرض كلّهم حاضرهم وغائبهم,ذَكَرهم وأنثاهم,كبيرهم وصغيرهم.وأن يعلن للأجيال التالية جيلاً بعد جيل.وأن يخاطب الدنيا كلّها حتّى آخر لحظة من الحياة أنّ علياً خليفته ووصيّه ووارثه وأنّه الإمام من بعده.وقال في آخر لحظة من حياته آتوني بدواة وقرطاس, أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً.وهكذا خطّط الرسول لمستقبل الأمّة وضمان وحدتها. ونزلت هذه الآية المباركة في يوم الغدير اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً.فما أعظم هذا اليوم,وأيّة فرصة أكبر من لقاء الرسول الأعظم مع مئة وعشرين ألف من المسلمين على بساط الحدث الفريد لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم.
وصال المحبوب,,
ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، تُعتبر من الليالي التي يُرجى فيها أن تكون ليلة القدر.وكان حديث الناس في تلك الليلة في كلّ مكان حول الحرب، بعد أن بثّ الإمام عليه السلام فيهم روح الجهاد، ودبّ إليهم النشاط والعزيمة.
وفي طرف مسجد الكوفة كان يصلّي جماعة من المصريّين، كعادتهم في كلّ ليلة، قريباً منهم عند السرة كان يصلّي جماعة باجتهاد.وهناك في بيت متواضع على طرف تستضيف الإمامَ عليه السلام ابنتُه، فتحمل إليه عند الإفطار رغيفاً من الخبز ولبناً وشيئاً من الملح، فيأمرها برفع اللبن.ولمّا تناول لقمات نهض لصلواته، وبين الفينة والأخرى كان يتطلّع إلى السماء فيقول هي هي الليلة التي وُعدت بها.لا كَذبت ولا كُذِّبت ..مّ يخرج إلى المسجد، ويدخله من ذات الباب الذي اجتمع خلفه أولئك الرجال.
يقول الراوي خرج عليهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند الفجر، فأقبل ينادي ..الصلاة الصلاة، وبعدها رأيت بريق السيف، وسمعت قائلاً يقول الحكم لله لا لك يا عليّ، ثمّ رأيت بريق سيف آخر، وسمعت عليّاً يقول لا يفوتنَّكُم الرجل.وكان الأشعث قال لابن ملجم النجاة لحاجتك قبل أن يفضحك الفجر.
فمن هو الذي اشترك في المؤامرة ضدّ حياة قائد المسلمين؟
إنّهم ثلاثة اجتمعوا في الحجّ وقررّ كّل واحد منهم اغتيال واحد من الثلاثة معاوية، وعمرو بن العاص، والإمام عليه السلام فلم ينجح صاحب عمرو بن العاص، إذ كان قد استناب عنه آخر للصلاة فقُتل، بينما وقع سيف صاحب معاوية على فخذه وجرحه جرحاً بسيطاً.
أمّا ابن ملجم الذي كان قد اشترى سيفه بألف وسمَّمه بألف فقد التقى فيما يبدو بالمعارضة التي تنامت في الكوفة، وكان يقودها ابن الأشعث الذي بدأ يتباكى على مصرع الخوارج، وكان قد دخل الإمام عليه السلام قبل فترة فأغلظ عليه لمؤامرته المستمرّة ضدّ الإسلام، فتوعّده وهدّده بالفتك، فقال له الإمام
أَبِالموت تخوِّفني وتهدِّدني؟ فوالله ما أُبالي وقعتُ على الموت أو وقع الموتُ علَيَّ .
وهكذا تعاون معه في جريمته سبيب بن بجران، ووردان بن مجالد، ولعل رجالاً آخرين من جماعة ابن الأشعث كانوا مساهمين معهم.
ومن خلال الأشعث التقت مصلحة الخوارج بمصالح معاوية الذي كان يخشى هجوماً صاعقاً لجند الإسلام ضدّه. وكان لا يني من توزيع الوعود على الطامعين في الكوفة، للفتك بالإمام عليه السلام.
وبعد تنفيذ الجريمة، حُمل الإمام عليه السلام إلى البيت، وأُحضر عنده ابن ملجم فقال الإمام
النفس بالنفس، إن أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني، وإن سلمتُ رأيتُ فيه رأيي.وأضاف يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين. أَلاَ لا يَقتلنَّ إلاّ قاتلي.
ودخل على الإمام عليه السلام أكبر أطباء الكوفة واسمه أثير بن عمر بن هاني، فلمّا فحصه مليّاً قال يا أمير المؤمنين اعهد عهدَك، فإن عدوّ الله قد وصلت ضربتُه إلى أمّ رأسك.
ويقول الأصبغ بن نباتة دخلتُ على أمير المؤمنين عليه السلام، فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمُه واصفرَّ وجهه.فما أدري وجهه أشدّ صفرة أم العمامة، فاكببتُ عليه فقبّلته وبكيت.فقال لي لا تبكِ يا أصبغ فإنّها والله الجنة.
فقلت له جَعلتُ فداك، إني أعلم والله أنّك تصير إلى الجنّة، وإنمّا أبكي لفقداني إيّاك يا أمير المؤمنين.
وبكت عنده أم كلثوم بعد أن نعى إليها نفسه، فقال لها لا تؤذيني يا أم كلثوم، فإنّك لو ترين ما أرى، إنّ الملائكة من السماوات السبع بعضهم خلف بعض، والنبيّون يقولون انطلق يا عليّ فما أمامك خير لك ممّا أنت فيه .
وبقي الإمام عليه السلام ثلاثاً تشتدّ حالته، حتّى كان ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان، في الثلث الأول منها، وعهد عهده إلى الإمام الحسن وأوصاه وأخاه الإمام الحسين عليهما السلام بآخر وصاياه، ثمّ ودّع أهل بيته، واستقبل ملائكة ربّه بالسلام وفارقت روحه الزكيّة الحياة، وصرخت بناته ونساؤه، وارتفعت الصيحة في بيته، فعلم أهل الكوفة أنّ أمير المؤمنين قد قُبض، فأقبل الرجال والنساء أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة، وارتجَّت الكوفة بأهلها، وكان ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وآلهّ.
ثمّ غسّله الإمام الحسن والإمام الحسين معاً سلام الله عليهم أجمعين، بينما كان محمّد بن الحنفية يصبّ الماء.وحُنِّط ببقية حنوط رسول الله، ووضعوه على سريره، وصلَّى عليه الإمام الحسن عليه السلام، وحُمل في جوف الليل من تلك الليلة إلى ظهر الكوفة فدفن بالنوبة عند قائم الغرَّيين حيث مرقده الشريف الآن.
وكانت الحكمة في كتمان موضع قبره الذي ظل سريّاً عن العامة حتى عهد الإمام الرضا عليه السلام، اتَّقاء شرِّ الخوارج وبني أمية، ثم قتل ابن ملجم وأحرق بالنار.
وطويت صفحة ناصعة من حياة الإمام عليه السلام بشهادته، لتنشر على مدى الدهر صفحات مجده وعزّه، وفضائله، وتابعيه على الهدى والاستقامة.فسلام الله عليه حين ولد في الكعبة، وحين وقع صريعاً في محراب الكوفة، وحين مضى شهيداً وشاهداً على الظالمين، وحين أضحى راية العدالة وعلم الهدى، ومنار التقوى.وسلام الله عليه حين يبعث حيّاً، ليجعله الله ميزاناً يفصل به بين عباده، وقسيماً للجنة والنار ..وسلام على الصدِّيقين الذين اتَّبعوا خطاه، وعلى شيعته الذين تحمّلوا في ولائه ما تعجز عنه الجبال الراسيات.