((إن الأمة تحتاج بين وقتٍ وآخر إلى دماء زكية طاهرة تراق لتستيقظ وتنهض وتتحرر، وليشهد الأفذاذ بدمائهم أن الإيمان بالله تعالى حقّ ويستحق التضحية بالغالي والنفيس)).
من أثقل الصعوبات التي واجهها الأنبياء ويواجهها المصلحون في كل زمان، هو خمود الإرادة في الأفراد والأمم في مقابل نشاط العدو في محاربة الدين، فقد يتضح الحق في العقول، ولكن تكون القلوب قاسية مغلّفة بالغفلة ومثقلة بالكلل، فلا يتحرك الإنسان صوب ما يؤمن به.
إن الدين شيء مهم في حياة البشرية على الأرض وهو غاية التأريخ ومحور حركة الكون، ولكن قد ينزل في أولويات الناس إلى مرتبة ثانوية ولا يرونه يستحق التضحية يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا وقفوا في موقف ترجيح فضّلوا الدنيا على الدين بل تاجروا به إن حقق لهم ربحاً دنيوياً.
فمن هنا لا تبقى فائدة للكلام ولا ينفع العلم، فيفكر القادة باقتحام الحواجز التي تمنع القلوب من التفاعل واختراق الحجب، نحو ضمير الإنسان لتحريكه وتفعيله في العمل وإنتاج المنجزات.
ولا يجدون ما يهز قلوب الناس ويسقط رينها سوى التضحية بأنفسهم لإيقاظ الأمة وتنشيطها، فيقدمون دماءهم الزاكية التي هي أطهر المقدسات لأنها أبعد عن الشبهات، فتبرق التضحية للناس وتنير لهم الطريق لتمشي الأمة في هداها زماناً ((وليشهد الأفذاذ بدمائهم أن الإيمان بالله تعالى حقّ ويستحق التضحية بالغالي والنفيس)).
لقد وقف إبراهيم خليل الرحمن في زمان مجدب غير ذي زرع، وكان (عليه السلام) معروفاً في المجتمعات ولكن البشرية في زمانه كانت تعيش الغفلة عن الدين ولا يعرفون أهمية الدين ولا يعملون لأجله، فكانت هناك حاجة لتظهر لهم أهمية الدين عند إبراهيم (عليه السلام) وأسرته بأن يذبح ولده بيده من أجل الدين، ويظهر للناس استعداده للطاعة والتضحية، فكان من قصته ما كان ليعطي للبشرية دفعة عظيمة تجاه الدين والقدوم إلى بيت الله الحرام والتضحية براحتهم وأموالهم في سبيل الله تعالى.
ثم تقسو قلوب الناس بين حين وحين فيحتاجون إلى تضحية جديدة يبقى صداها زماناً آخر في عصور الغفلة، لأنهم لم يحتفظوا ولم يركزوا قلوبهم حول التضحية السابقة، ويعودون إلى الركون إلى الدنيا فيجدون رصيداً جديداً من الدماء الزاكية موقوفة لأجل إنعاش الأمة وإعطائها دفعة جديدة، حتى يولد الجيل الذي يحتفظ بتجارب السابقين ويقدس الدماء التي أريقت في سبيل الله، ويكون قابلاً لتجديد النشاط تلقائياً للعمل من أجل الدين وديمومة الوعي.
وقد شهدنا في تأريخنا الحديث مثل ذلك فما أن يظهر مصلح جديد يأخذ بأيدي الناس إلى الهدى حتى تحاصره شكوك الحاسدين والمبررين لكسلهم والمنظرين لجبنهم، حتى ترين القلوب تجاهه وتقيدها الشكوك عن السير مع خطاه، فلا يجد مناصاً من التضحية في سبيل الله لتجلى القلوب زماناً، ثم يعود المشككون بعد غيابه ونسيان الناس إلى التشكيك به والتشكيك بالمصلحين الجدد وقادة الأمة الحقيقيين، ليضطروهم مجدداً إلى التضحية بعد أن يبخل القادة المزيفون عن الأمة أولئك الذين يسيرون بها عبر الطرق المضللة والمشاريع الفارغة، فيحتاج المصلحون إلى التضحية مجدداً، لإعادتهم إلى الطريق وتقويم مسيرة الأمة المقصرة.
عماد علي الهلالي