إن الإمام أبو الحسن، علي الهادي (عليه السلام)، هو واحد من السلسلة الذهبية من آل بيت المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وقد حفلت حياته بأسمى معاني الإمامة التي هي امتداد لخط النبوة، فكان لدى التقويم في الميزان، يرجع بجميع أهل ذلك الزمان.
قد تقلد الإمامة وهو في أوائل السنة التاسعة من عمره، فتصدر يومها مجالس الفتوى بين أجلاَّء العصر ومشايخ الفقهاء، وبهر العقول بعلمه وفضله، ثم حمل أعباءها طيلة ثلاث وثلاثين سنة في عصر ظلم وغشم ونفاق، أخذ منه ومن شيعته بالخناق، ولكنه استمر على أدب الله عز وجل، وسيرة رسوله (صلى الله عليه وآله) ونهج آبائه (عليهم السلام) لا يمالئ حاكم، ولا يهادن ظالم، بل يقوم بما انتدب إليه، في قصر السلطان، ومجالس الحكم، وبين الأمراء، وفي كل مكان، يعيش صراحة الدِّين، ويجانب الباطل بجرأة لا يكون لها نظير إلاَّ عند المنتجب من الله تعالى للولاية على الناس. منسجماً مع أمر السماء التي استسفرتهُ لكلمته، وقائماً بقسط الوظيفة التي خلعت عليه سربال ولايته، مثبتاً أنه على مستوى ذلك الأمر في ذلك العصر، تماماً كالسفير الذي لا يخرج عن خط دولته، ويدل صدقُه مع وظيفته على حفظ كرامة الدولة التي سنحت عليه بما وضعته بين يديه من إمكانيات، ليستطيع تمثيلها حقاً وحقيقة.
ولم يعش إمامنا الهادي عمراً طويل، ولكنه قضاه حافلاً بجلائل الأعمال والأقوال، وبما أتى من الحق في مجالس أهل الباطل، وبما كرّس من العدل في مواطن الظلم، وبما أرسى من الإيمان ورسّخ من العقيدة التي ينبغي أن يُدان الله تعالى به، فزاد أتباعه زيادة ملموسة حتى أنه كان يعج بهم قصر الخلافة سراً وظاهر، وكانوا ينتشرون في الجيش بين قوَّاده وأفراده، مضافاً إلى كثيرين من أفراد الرعية والولاة.
وقد كان الإمام الهادي (عليه السلام) إذا تكلم نطق بالصواب فأسكت أهل الفأفأة من مشايخ الفقهاء وقضاء البلاط، وأهل التأتأة من الوزراء والأمراء وسائر الملتقين حول معتلف السلطان، وإذا ظهر للناس في الشارع أو في ردهات القصر وصالاته تقوقع المتعالون وانكفأوا على ذواتهم، وذاب أعداؤه ومناوئوه في لظى حقدهم وحسراتهم، وإذا حضر مجالسهم أحلّوه الصَّدر وانتهى إليه الأمر، وكان فيما بينهم السيد (المفدى) بالنفوس والأهل، وإذا غاب عنهم صرّوا بأنيابهم حنقاً وعضّوا الأنامل من الغيظ.
لقد كان الإمام الهادي (عليه السلام) على جانب كبير من العظمة التي لم تخْفَ على أهل زمانه أصحاباً وأعداءً، وبرهن على أنه فرعٌ زكيٌّ من الشجرة المباركة التي خلَّد ذكرها القرآن الكريم.
فهو (سلام الله عليه) من دوحة العُلى في أعلاه، ومن سدرة المنتهى في منتهاه، وقد أجمع معاصروه على علمه الوافر، وفضله الظاهر، وحكمته البالغة، وسكينته ووقاره، وحلمه وهيبته، فأجَلَّوْه مختارين ومرغمين وانتهوا إلى حكمه في كل مسألة عوصاء، وعملوا بفتواه في كل قضية عجز عن الإفتاء فيها الفقهاء، وكانوا كلما أستَبْهم عليهم أمر دعوه إليه، صلوات الله وسلامه عليه.
قد تقلّد (عليه السلام) منصب الإمامة الإلهي بعد أبيه في الثامنة من عمره الشريف فكان مثالاً آخر للإمامة المبكّرة التي أصبحت أوضح دليل على حقّانية خط أهل البيت الرسالي في دعوى الوصية والزعامة الدينية والدنيوية للامة الإسلامية خلافة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونيابة عنه في كل مناصبه القيادية والرسالية.
وتنقسم حياة هذا الإمام العظيم إلى حقبتين متميّزتين: أمضى الاُولى منهما مع أبيه الجواد (عليه السلام) وهي أقلّ من عقد واحد. بينما أمضى الثانية وهي تزيد عن ثلاثة عقود، عاصر خلالها ستة من ملوك الدولة العباسية وهم: المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز. واستشهد في ايام حكم المعتز عن عمر يناهز أربعة عقود وسنتين. وقد عانى من ظلم العباسيين كما عانى آباؤه الكرام حيث أحكموا قبضتهم على الحكم واتخذوا كل وسيلة لإقصاء أهل البيت النبوي وابعادهم عن الساحة السياسية والدينية، وإن كلّفهم ذلك تصفيتهم جسديّاً كما فعل الرشيد مع الامام الكاظم، والمأمون مع الامام الرضا، والمعتصم مع الامام الجواد (عليهم السلام).
وتميّز عصر الإمام الهادي (عليه السلام) بقربه من عصر الغيبة المرتقب، فكان عليه أن يهيّئ الجماعة الصالحة لاستقبال هذا العصر الجديد الذي لم يُعهد من قبل حيث لم يمارس الشيعة حياتهم إلاّ في ظل الارتباط المباشر بالأئمة المعصومين خلال قرنين من الزمن. ومن هنا كان دور الإمام الهادي(عليه السلام) في هذا المجال مهمّاً وتأسيسيّاً وصعباً بالرغم من كل التصريحات التي كانت تتداول بين المسلمين عامة وبين شيعة أهل البيت خاصة حول غيبة الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أي المهدي المنتظر الذي وعد الله به الاُمم.
وبالرغم من العزلة التي كانت قد فرضتها السلطة العباسية على هذا الإمام حيث أحكمت الرقابة عليه في عاصمتها سامراء ولكن الإمام كان يمارس دوره المطلوب ونشاطه التوجيهي بكل دقّة وحذر، وكان يستعين بجهاز الوكلاء الذي أسسه الإمام الصادق (عليه السلام) وأحكم دعائمه أبوه الإمام الجواد(عليه السلام) وسعى من خلال هذا الجهاز المحكم أن يقدّم لشيعته أهمّ ما تحتاج إليه في ظرفها العصيب. وبهذا أخذ يتّجه بالخط الشيعي أتباع أهل البيت(عليهم السلام) نحو الاستقلال الذي كان يتطلّبه عصر الغيبة الكبرى، فسعى الإمام علي الهادي(عليه السلام) بكل جدّ في تربية العلماء والفقهاء إلى جانب رفده المسلمين بالعطاء الفكري والديني – العقائدي والفقهي والأخلاقي -.
ويمثّل لنا مسند الإمام الهادي (عليه السلام) جملة من تراثه الذي وصل إلينا بالرغم من قساوة الظروف التي عاشها هو ومن بعده من الأئمة الأطهار(عليهم السلام).
فسلام عليه يوم ولد ويوم تقلّد الامامة وهو صبيّ لم يبلغ الحلم ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.