لقد كان الإمام الكاظم عليه السلام يعلم بما سيجري عليه في مستقبل أمره، وعلى يدي مَن؟ وأين؟ وكيف؟ كلّ ذلك بما سبق له من علمٍ لدنّي، ومن إخبار آبائه وأجداده عليهم السلام له بذلك، فقد تقدّم قوله لأبي خالد الزباليّ لمّا أخذه المهديّ العبّاسيّ وأطلق سراحه: “يا أبا خالد، إنّ لهم إليَّ عودة لا أتخلّص منهم”.
وعن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: سمعت عليّ بن جعفر يقول: كنت عند أخي موسى بن جعفر عليه السلام- كان والله حجّة الله في الأرض بعد أبي صلوات الله عليه- إذ طلع ابنه عليّ فقال لي: “يا عليّ هذا صاحبك وهو منّي بمنزلتي من أبي فثبّتك الله على دينه”، فبكيت، وقلت في نفسي نعى والله إليّ نفسه فقال: “يا عليّ، لا بدّ من أن تمضي مقادير الله فيَّ ولي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلم أسوة، وبأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام”، وكان هذا قبل أن يحمله هارون الرشيد في المرّة الثانية بثلاثة أيّام.
السبب في قبض الرشيد على الإمام عليه السلام وحبسه وقتله:
وفي هذا المجال روى الشيخ المفيد في الإرشاد عن جملة من المشايخ أنّه: كان السبب في أخذ موسى بن جعفر عليهما السلام أنّ الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمّد بن الأشعث، فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك، وقال: إن أفضت إليه الخلافة زالت دولتي ودولة ولدي، فاحتال على جعفر بن محمّد – وكان يقول بالإمامة – حتّى داخله وأنس إليه، وكان يكثر غشيانه في منزله فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد، ويزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه.
ثمّ قال يوماً لبعض ثقاته: تعرفون لي رجلاً من آل أبي طالب ليس بواسع الحال، يعرّفني ما أحتاج إليه، فدلّ على عليّ4 بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد، وكان موسى بن جعفر عليه السلام يأنس بعليّ بن إسماعيل ويصله ويبرّه.
فحمل إليه يحيى بن خالد مالاً، ثمّ أنفذ إليه يرغّبه في قصد الرشيد ويعده بالإحسان إليه، فعمل على ذلك، وأحسّ به موسى عليه السلام فدعاه فقال له: “إلى أين يا بن أخي؟” قال: إلى بغداد. قال: “وما تصنع؟” قال: عليّ دين وأنا معلّق. فقال له موسى: “فأنا أقضي دينك وأفعل بك وأصنع” فلم يلتفت إلى ذلك، وعمل على الخروج، فاستدعاه أبو الحسن فقال له: “أنت خارج؟” قال: نعم، لا بدّ لي من ذلك. فقال له: “انظر- يا بن أخي- واتّقِ الله، ولا تؤتم أولادي” وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، فلمّا قام من بين يديه قال أبو الحسن موسى عليه السلام لمن حضره: “والله ليسعينّ في دمي، ويؤتمنّ أولادي”، فقالوا له: جعلنا الله فداك، فأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله! قال لهم: “نعم، حدّثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّ الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله، وإنّني أردت أن أصله بعد قطعه لي، حتّى إذا قطعني قطعه الله”.
قالوا: فخرج عليّ بن إسماعيل حتّى أتى يحيى بن خالد، فتعرّف منه خبر موسى بن جعفر عليهما السلام ورفعه إلى الرشيد وزاد عليه، ثمّ أوصله إلى الرشيد فسأله عن عمّه فسعى به إليه وقال له: إنّ الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب، وأنّه اشترى ضيعة سمّاها اليسيرة بثلاثين ألف دينار، فقال له صاحبها- وقد أحضره المال- لا آخذ هذا النقد، ولا آخذ إلّا نقد كذا وكذا، فأمر بذلك المال فردّ وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه، فسمع ذلك منه الرشيد وأمر له بمائتي ألف درهم تسبيباً على بعض النواحي، فاختار بعض كور المشرق، ومضت رسله لقبض المال وأقام ينتظرهم، فدخل في بعض تلك الأيّام إلى الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته كلّها فسقط، وجهدوا في ردّها فلم يقدروا، فوقع لما به، وجاءه المال وهو ينزع، فقال: ما أصنع به وأنا في الموت؟!.
وخرج الرشيد في تلك السنة إلى الحجّ، وبدأ بالمدينة فقبض فيها على أبي الحسن موسى عليه السلام. ويقال: إنّه لمّا ورد المدينة استقبله موسى بن جعفر في جماعة من الأشراف، وانصرفوا من استقباله، فمضى أبو الحسن إلى المسجد على رسمه، وأقام الرشيد إلى الليل وصار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّي أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر، فإنّه يريد التشتيت بين أمّتك وسفك دمائها.
ثمّ أمر به فأخذ من المسجد فأدخل إليه فقيَّده، واستدعى قبّتين فجعله في إحداهما على بغل، وجعل القبّة الأخرى على بغل آخر، وخرج البغلان من داره عليهما القبّتان مستورتان، ومع كلّ واحدة منهما خيل، فافترقت الخيل فمضى بعضها مع إحدى القبّتين على طريق البصرة، والأخرى على طريق الكوفة، وكان أبو الحسن عليه السلام في القبّة التي مضي بها على طريق البصرة، وإنّما فعل ذلك الرشيد ليعمّي على الناس الأمر في باب أبي الحسن عليه السلام.
وأمر القوم الذين كانوا مع قبّة أبي الحسن أن يسلّموه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور- وكان على البصرة حينئذٍ- فسلّم إليه فحبسه عنده سنة، وكتب إليه الرشيد في دمه، فاستدعى عيسى بن جعفر بعض خاصّته وثقاته فاستشارهم فيما كتب به الرشيد، فأشاروا عليه بالتوقّف عن ذلك والاستعفاء منه، فكتب عيسى بن جعفر إلى الرشيد يقول له: قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدّة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه فما دعا عليك ولا عليّ ولا ذكرنا في دعائه بسوء، وما يدعو لنفسه إلّا بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليّ من يتسلّمه منّي وإلّا خلّيت سبيله فإنّني متحرّج من حبسه. وروي: أنّ بعض عيون عيسى بن جعفر رفع إليه أنّه يسمعه كثيراً يقول في دعائه وهو محبوس عنده: “أللهم إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، أللهمّ وقد فعلت فلك الحمد”. فوجّه الرشيد من تسلّمه من عيسى بن جعفر، وصيّر به إلى بغداد، فسلّم إلى الفضل بن الربيع فبقي عنده مدّة طويلة6.
الرشيد يطلق سراحه ثمّ يعيده إلى السجن:
ويروى أنّه لمّا حبس هارون الرشيد موسى بن جعفر عليه السلام، وجنَّ عليه الليل، قام عليه السلام فجدَّد طهوره، واستقبل بوجهه القبلة، وصلَّى لله عزَّ وجلَّ أربع ركعات، ثمّ دعا بهذه الدعوات، فقال: “يا سيّدي نجّني من حبس هارون، وخلِّصني من يديه، يا مخلِّص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلِّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلِّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلِّص النّار من بين الحديد والحجر، ويا مخلِّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلِّصني من يدي هارون”. فاستجاب الله دعاءه وأطلق هارون عنه، وسلَّمه إلى حاجبه ليسلّمه إلى الدار، فصار موسى بن جعفر عليهما السلام كريماً شريفاً عند هارون، وكان يدخل عليه في كلّ خميس، إلى أن حبسه الثانية فلم يطلق عنه حتّى سلَّمه إلى السِّندي بن شاهك وقتله بالسمّ.
في حبس الفضل بن الربيع:
كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام بضع عشرة سنة كلّ يوم سجدة بعد انقضاض الشمس إلى وقت الزوال، (وهكذا كان من أمره وهو في السجن)، فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبو الحسن عليه السلام فكان يرى أبا الحسن عليه السلام ساجد، فقال للربيع: يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب وإنّما هو موسى بن جعفر عليهما السلام له كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، قال الربيع: فقال لي هارون: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم، قلت: فما لك قد ضيّقت عليه الحبس؟! قال: هيهات لا بدّ من ذلك!.
وعن أحمد بن عبد الله الفرويّ، عن أبيه، قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح، فقال لي: ادن منّي، فدنوت حتّى حاذيته، ثمّ قال لي: أشرف إلى البيت في الدار، فأشرفت فقال: ما ترى في البيت؟ قلت: ثوباً مطروحاً. فقال: انظر حسناً، فتأمّلت ونظرت فتيقّنت، فقلت: رجل ساجد. فقال لي: تعرفه؟ قلت: ل، قال: هذا مولاك، قلت: ومن مولاي؟ فقال: تتجاهل عليَّ؟ فقلت: ما أتجاهل، ولكن لا أعرف لي مولى،فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، إنّي أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلّا على الحال التي أخبرك بها، أنّه يصلّي الفجر فيعقّب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس، ثمّ يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتّى تزول الشمس، وقد وكَّل من يترصّد له الزوال، فلست أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس! إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدّد وضوءاً، فأعلم أنّه لم ينم في سجوده ولا أغفى، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدةً، فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلّى المغرب من غير أن يحدث حدثاً، فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة، فإذا صلّى العتمة أفطر على شويّ يؤتى به، ثمّ يجدِّد الوضوء، ثمّ يسجد، ثمّ يرفع رأسه، فينام نومة خفيفة، ثمّ يقوم فيجدِّد الوضوء، ثمّ يقوم فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام: إنّ الفجر قد طلع! إذ قد وثب هو لصلاة الفجر، فهذا دأبه منذ حوِّل إليّ، فقلت: اتقِ الله، ولا تُحدِثَنَّ في أمره حَدَثَاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءاً إلّا كانت نعمته زائلة، فقال: قد أرسلوا إليَّ في غير مرّة يأمرونني بقتله، فلم أجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أنّي لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني.
فلمّا كان بعد ذلك حُوِّل إلى الفضل بن يحيى البرمكيّ، فحبس عنده…
عند الفضل بن يحيى:
ولمّا أراد الرشيد الفضل بن الربيع عليّ شيء من أمر أبي الحسن عليه السلام فأبى، كتب إليه بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فتسلّمه منه، وجعله في بعض حجر داره ووضع عليه الرصد، وكان عليه السلام مشغولاً بالعبادة يحيي الليل كلّه صلاةً وقراءةً للقرآن ودعاءً واجتهاداً، ويصوم النهار في أكثر الأيّام، ولا يصرف وجهه من المحراب، فوسّع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه، فاتّصل ذلك بالرشيد وهو بالرقّة فكتب إليه ينكر عليه توسعته على موسى ويأمره بقتله، فتوقّف عن ذلك ولم يقدم عليه، فاغتاظ الرشيد لذلك ودعا مسروراً الخادم فقال له: اخرج على البريد في هذا الوقت إلى بغداد، وادخل من فورك على موسى بن جعفر، فإن وجدته في دعة ورفاهيّة فأوصل هذا الكتاب إلى العبّاس بن محمّد ومره بامتثال ما فيه. وسلَّم إليه كتاباً آخر إلى السنديّ بن شاهك يأمره فيه بطاعة العبّاس بن محمّد.
فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد، ثمّ دخل على موسى بن جعفر عليه السلام فوجده على ما بلغ الرشيد، فمضى من فوره إلى العبّاس بن محمّد والسنديّ بن شاهك فأوصل الكتابين إليهما، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى، فركب معه وخرج مشدوهاً دهشاً حتّى دخل على العبّاس بن محمّد، فدعا العبّاس بسياط وعقابين وأمر بالفضل فجرّد وضربه السندي بين يديه مائة سوط، وخرج متغيّر اللون خلاف ما دخل، وجعل يسلّم على الناس يميناً وشمالاً.
في حبس السنديّ بن شاهك:
وكتب مسرور بالخبر إلى الرشيد، فأمر بتسليم موسى عليه السلام إلى السنديّ بن شاهك، وجلس الرشيد مجلساً حافلاً وقال: أيّها الناس، إنّ الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه لعنه الله. فلعنه الناس من كلّ ناحية، حتّى ارتجّ البيت والدار بلعنه.
وبلغ يحيى بن خالد الخبر، فركب إلى الرشيد فدخل من غير الباب الذي تدخل الناس منه، حتّى جاءه من خلفه وهو لا يشعر، ثمّ قال له: التفت- يا أمير المؤمنين- إليّ، فأصغى إليه فزعاً، فقال له: إنّ الفضل حدث، وأنا أكفيك ما تريد، فانطلق وجهه وسرّ، وأقبل على الناس فقال: إنّ الفضل كان قد عصاني في شيء فلعنته، وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولّوه. فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت وقد تولّيناه.
ثمّ خرج يحيى بن خالد على البريد حتّى وافى بغداد، فماج الناس وأرجفوا بكلّ شيء، وأظهر أنّه ورد لتعديل السواد والنظر في أمر العمّال، وتشاغل ببعض ذلك أيّاماً، ثمّ دعا السنديّ فأمره فيه بأمره فامتثله13.
ولمّا حبس هارون الرشيد أبا إبراهيم موسى عليه السلام وأظهر الدلائل والمعجزات وهو في الحبس تحيّر الرشيد، فدعا يحيى بن خالد البرمكيّ فقال له: يا أبا عليّ أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب، ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيراً يريحنا من غمّه؟ فقال له يحيى بن خالد البرمكيّ: الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمنن عليه وتصل رحمه، فقد- والله- أفسد علينا قلوب شيعتنا. وكان يحيى يتولّاه، وهارون لا يعلم ذلك. فقال هارون: انطلق إليه وأطلق عنه الحديد، وأبلغه عنّي السلام، وقل له: يقول لك ابن عمّك: إنّه قد سبق منّي فيك يمين أنّي لا أخلّيك حتّى تقرّ لي بالإساءة، وتسألني العفو عمّا سلف منك، وليس عليك في إقرارك عار، ولا في مسألتك إيّاي منقصة. وهذا يحيى بن خالد (هو) ثقتي ووزيري، وصاحب أمري، فسله بقدر ما أخرج من يميني وانصرف راشداً. فقال أبو إبراهيم عليه السلام ليحيى: “يا أبا عليّ أنا ميّت، وإنّما بقي من أجلي أسبوع، أكتم موتي وائتني يوم الجمعة عند الزوال، وصلِّ عليّ أنت وأوليائي فرادى، وانظر إذا سار هذا الطاغية إلى الرقّة، وعاد إلى العراق لا يراك ولا تراه لنفسك، فإنّي رأيت في نجمك ونجم ولدك ونجمه أنّه يأتي عليكم فاحذروه”، ثمّ قال: “يا أبا عليّ أبلغه عنّي: يقول لك موسى بن جعفر: رسولي يأتيك يوم الجمعة فيخبرك بما ترى، وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه، والسلام”. فخرج يحيى من عنده، واحمرّت عيناه من البكاء حتّى دخل على هارون فأخبره بقصّته وما ردّ عليه، فقال له] هارون: إن لم يدع النبوّة بعد أيّام فما أحسن حالنا، فلمّا كان يوم الجمعة توفّي أبو إبراهيم عليه السلام، وقد خرج هارون إلى المدائن قبل ذلك، فأخرج إلى الناس حتّى نظروا إليه، ثمّ دفن عليه السلام ورجع الناس، فافترقوا فرقتين: فرقة تقول: مات، وفرقة تقول: لم يمت.
وبعث موسى بن جعفر عليهما السلام إلى الرشيد من الحبس رسالة كانت: “إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون”.
وسألت أخت السنديّ بن شاهك أخاها أن تتولّى حبسه- وكانت تتديّن- ففعل، فكانت تلي خدمته، فحكي أنّها قالت: كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجّده ودعاه، فلم يزل كذلك حتّى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلّي حتّى يصلّي الصبح، ثمّ يذكر قليلاً حتّى تطلع الشمس، ثمّ يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثمّ يتهيّأ ويستاك ويأكل، ثمّ يرقد إلى قبل الزوال، ثمّ يتوضّأ ويصلّي حتّى يصلّي العصر، ثمّ يذكر في القبلة حتّى يصلّي المغرب، ثمّ يصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه. فكانت أخت السندي إذا نظرت إليه قالت: خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل، وكان عبداً صالحاً.16
وأنفذ هارون الرشيد إلى موسى بن جعفر عليهما السلام جارية خصيفة لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن فقال: قل له: “بل أنتم بهديّتكم تفرحون لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها”، قال: فاستطار هارون غضباً وقال: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك ولا برضاك خدمناك واترك الجارية عنده وانصرف. قال: فمضى ورجع، ثمّ قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليتفحّص عن حالها فرآها ساجدة لربّها لا ترفع رأسها تقول: قدّوس سبحانك سبحانك، فقال هارون: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأتي بها وهي ترتعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني الشأن البديع إنّي كنت عنده واقفة وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلمّا انصرف من صلاته بوجهه وهو يسبّح الله ويقدّسه، قلت: يا سيّدي هل لك حاجة أعطيكها؟ قال: “وما حاجتي إليك!” قلت: إنّي أدخلت عليك لحوائجك، قال: “فما بال هؤلاء”، قالت: فالتفت فإذا روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أوّلها بنظري ولا أوّلها من آخرها فيها مجالس مفروشة بالوشيّ والديباج، وعليها وصفاء ووصايف لم أر مثل وجوهم حسناً ولا مثل لباسهم لباس، عليهم الحرير الأخضر والأكاليل، والدرّ والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل، ومن كلّ الطعام، فخررت ساجدة حتّى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت، قال: فقال هارون: يا خبيثة لعلّك سجدت فنمت فرأيت هذا في منامك، قالت: لا والله يا سيّدي إلّا قبل سجودي، رأيت فسجدت من أجل ذلك، فقال الرشيد: اقبض هذه الخبيثة إليك فلا يسمع هذا منها أحد، فأقبلت في الصلاة فإذا قيل لها في ذلك، قالت: هكذا رأيت العبد الصالح، فسألت عن قولها قالت: إنّي لمّا عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح حتّى ندخل عليه فنحن له دونك. فما زالت كذلك حتّى ماتت وذلك قبل موت موسى عليه السلام بأيّام يسيرة.
محاولة اغتياله في السجن:
قال المجلسيّ رحمه الله: رأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا: روي أنّ الرشيد لعنه الله لمّا أراد أن يقتل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام عرض قتله على سائر جنده وفرسانه فلم يقبله أحد منهم، فأرسل إلى عمّاله في بلاد الإفرنج يقول لهم: التمسوا لي قوماً لا يعرفون الله ورسوله فإنّي أريد أن أستعين بهم على أمر، فأرسلوا إليه قوماً لا يعرفون من الإسلام ولا من لغة العرب شيئاً، وكانوا خمسين رجلاً، فلمّا دخلوا إليه أكرمهم وسألهم من ربّكم؟ ومن نبيّكم؟ فقالوا: لا نعرف لنا ربّاً ولا نبيّاً أبداً فأدخلهم البيت الذي فيه الإمام عليه السلام ليقتلوه، والرشيد ينظر إليهم من روزنة البيت، فلمّا رأوه رموا أسلحتهم وارتعدت فرائصهم وخرّوا سجداً يبكون رحمة له، فجعل الإمام يمرّ يده على رؤوسهم ويخاطبهم بلغتهم وهم يبكون، فلمّا رأى الرشيد خشي الفتنة وصاح بوزيره أخرجهم وهم يمشون القهقرى إجلالاً له، وركبوا خيولهم ومضوا نحو بلادهم من غير استئذان.
وفي رواية أخرى: أنّ هارون الرشيد لمّا ضاق صدره ممّا كان يظهر له من فضل موسى بن جعفر عليهما السلام وما كان يبلغه عنه من قول الشيعة بإمامته واختلافهم في السرّ إليه بالليل والنهار خشية على نفسه وملكه ففكّر في قتله بالسمّ، فدعا برطب فأكل منه، ثمّ أخذ صينيّة فوضع عليها عشرين رطبة وأخذ سلكاً فعركه في السمّ وأدخله في سمّ الخياط، فأخذ رطبة من ذلك الرطب فأقبل يردّد إليها ذلك السمّ بذلك الخيط حتّى علم أنّه قد حصل السمّ فيها فاستكثر منه، ثمّ ردّها في ذلك الرطب وقال لخادم له: احمل هذه الصينيّة إلى موسى بن جعفر وقل له: إنّ أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب وتنغّص لك به وهو يقسم عليك بحقّه لمّا أكلتها عن آخر رطبة فإنّي اخترتها لك بيدي، ولا تتركه يُبقي منها شيئاً ولا يُطعم منه أحداً. فأتاه بها الخادم وأبلغه الرسالة فقال: “ائتني بخلال”، فناوله خلال، وقام بإزائه وهو يأكل الرطب، وكانت للرشيد كلبة تعزّ عليه فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها من ذهب وجوهر حتّى حاذت موسى بن جعفر عليهما السلام، فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة، ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض وعوت وتهرَّت قطعة قطعة واستوفى عليه السلام باقي الرطب وحمل الغلام الصينيّة حتّى صار بها إلى الرشيد.
فقال له: قد أكل الرطب عن آخره؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فكيف رأيته؟ قال: ما أنكرت منه شيئاً يا أمير المؤمنين، قال: ثمّ ورد عليه خبر الكلبة وأنّها قد تهرّت وماتت، فقلق الرشيد لذلك قلقاً شديداً واستعظمه ووقف على الكلبة فوجدها متهرّية بالسمّ، فأحضر الخادم ودعا له بسيف ونطع وقال له: لتصدقني عن خبر الرطب أو لأقتلنّك، فقال: يا أمير المؤمنين إنّي حملت الرطب إلى موسى بن جعفر وأبلغته سلامك وقمت بإزائه فطلب منّي خلالاً فدفعته إليه، فأقبل يغرز في الرطبة بعد الرطبة ويأكلها حتّى مرّت الكلبة فغرز الخلال في رطبة من ذلك الرطب فرمى بها فأكلتها الكلبة وأكل هو باقي الرطب، فكان ما ترى يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد: ما ربحنا من موسى عليه السلام إلّا أنا أطعمناه جيد الرطب وضيّعنا سمّنا وقتل كلبتن، ما في موسى حيلة.