الزُّهد زينة علي عليه السلام:
هناك العديد من الرّوايات الحاكية عن مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله. بدايةً أُشير إلى أنّ ما رُوي في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لا يقتصر على الشّيعة فقط، بمعنى أنّ الشّيعة ليسوا وحدهم من يرويها أو يأنس بها.
الكثير من فضائل ومناقب أمير المؤمنين عليه السلام يرويه أيضاً غير الشّيعة في كتبهم، فالكثير من المسلمين همّ من المُحبّين والمُريدين والتّابعين لأهل بيت النبوّة الكرام عليهم السلام. ولا سيما ذاك الإمام عظيم الشأن.
إحدى الروايات هي عن “ابن المغازلي” الكاتب الشافعيّ المعروف، الذي يروي في كتابه – وراوي هذا الحديث ليس شيعيّاً – عن أنس بن مالك، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: “إنّ عليّ بن أبي طالب يُضيء في الجنّة لأهل الجنّة، كما يظهر كوكب الصّبح لأهل الدّنيا”، معناه أنّ نور ذلك العظيم يغلب في الجنّة أيضاً على سائر الأنوار.
وهذا الكاتب نفسه، يروي عن عمّار بن ياسر أنّه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: يا عليّ، إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يُزيّن العباد بزينة أحبّ إلى الله منها، الزُّهد في الدنيا”، أي عدم الرغبة بالدّنيا والإعراض عن تلك المظاهر الخادعة التي يلتذّ بها الإنسان، هذه هي الزينة التي أعطاها الله تعالى لعليّ عليه السلام.
فليس المقصود هنا إعمار الدّنيا ولا إحياء الأرض وتزيينها بالزّينة الإلهيّة حتى يستفيد منها عباد الله – وهو ما كان أمير المؤمنين عليه السلام سبّاقاً إليه -، ولكن المقصود بالدنيا هو ما أعددناه – نحن وأنتم – ممّا هو في الأرض لحظوظ النفس ولذّاتها، من مأكل ومشرب ومركب (سيّارة)، أو من شهوات جنسيّة، وهذه هي الدنيا المُشار إليها في الرّوايات. ومن الطبيعيّ، فإنّ الاستفادة بمقدارٍ ما من هذه الأمور مباحٌ، ولعلّه ممدوحٌ أيضاً، أمّا ما نُهينا عنه فهو الغرق في تلك الدنيا السيّئة والخبيثة.
إذاً، الزُّهد في الدّنيا هو زينة عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
ثمّ يقول في بقية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّه قال لعليّ عليه السلام: “وَجعَل الدّنيا لا تنال منك شيئاً”.
والرواية الأخرى التي تُنير قلوب محبّي ذلك العظيم هي رواية “الموفّق الخوارزميّ الحنفيّ”، وهو أيضاً من كتّاب أهل السنّة، وله كتابٌ في المناقب.
ينبغي الاستعداد لنكون عمليّاً من أتباع تلك الشخصيّة العظيمة، وليس بالاسم فقط.
يروي الموفّق أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليّ عليه السلام:
“يا عليّ، إنّي سألتُ ربّي فيك خمس خصال فأعطاني، أمّا أوّلهن فسألتُ ربّي أن تنشقّ عنّي الأرض، وأنفض التراب عن رأسي وأنت معي فأعطاني، وأمّا الثانية فسألتُ ربّي أن يوقفني عند كفّة الميزان وأنت معي فأعطاني، وأمّا الثالثة فسألتُ ربّي أن يجعلكَ حامل لوائي، وهو لواء الله الأكبر، عليه المُفلحون الفائزون في الجنّة، فأعطاني”، يتّضح من هذا الحديث النبويّ أنّ هناك في يوم القيامة ألوية، وأنّ كلّ جمع من الخلائق يُحشرون تحت أحد هذه الألوية، “وأمّا الرّابعة فسألتُ ربّي أن تسقي أُمّتي من حوضي فأعطاني، وأمّا الخامسة فسألتُ ربّي أن يجعلك قائد أُمّتي إلى الجنّة فأعطاني”، أي أنت في المقدّمة وأُمّتي خلفك تقودها إلى الجنّة، والله قَبـِل ذلك، ثمّ يختم الرواية بقوله: “الحمد لله الذي منَّ عَلَيَّ بذلك”. وهنا نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشكر الله على ما منَّ به من المقامات المعنويّة على عليّ بن أبي طالب عليه السلام، والحقُّ أنّه لا مقام يرقى ليصل إلى هذا المقام.
أمير المؤمنين عليه السلام قمّة الزهد:
وَقَعَ اختياري اليوم على رواية وَرَدَت في كتاب الإرشاد للشيخ المُفيد، إلا إنّني نقلتُ نصّها من كتاب “الأربعون حديثاً” للإمام الخميني قدس سره، وهو كتابٌ مهمٌّ جداً، وطابَقْتُهَا مع ما ورد في كتاب الإرشاد.
يقول الراوي: “كنّا عند الإمام الصادق عليه السلام، فجرى ذكر أمير المؤمنين عليه السلام ومَدَحَهُ بما هو أهلُه” (أي الإمام الصادق عليه السلام).
ورأيتُ أنّ كلّ فقرة من الفقرات التي يستند إليها الحديث تشير إلى بُعدٍ من أبعاد شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام. كزهده وعبادته والخصوصيّات الأخرى التي سأعرضها. فالإمام الصادق عليه السلام يمتدح – طبقاً للرواية – أمير المؤمنين عليه السلام وأوّل جملة قالها. هذه: “والله ما أَكَلَ عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الدّنيا حراماً قطّ حتى مضى إلى سبيله”. أي إنّه لم يضع في فمه لقمةَ حرام، وكان يتجنّب أكل الحرام والمال الحرام، ويتجنّب المَنَال الحرام، أي إنّه كان يبتعد حتّى عمّا فيه شبهة.
لاحظوا، لقد بيّن المعصومون عليه السلام هذه الأمور كأصولٍ للعمل، وكنموذجٍ وقاعدة، وأكثر من ذلك على مستوى الفكر والثقافة. وقد أقرّ الإمام الصّادق والإمام الباقر والإمام السجّاد عليه السلام بأنّهم لا يستطيعون تحمّل عيش أمير المؤمنين عليه السلام، فما بالك إذا وصل الدّور لأمثالي؟ فواويلاه!.
ليس الكلام، هنا، أنّه هل يمكننا أنا وأنت العيش هكذا، لا، فتلك الحياة هي قمّة الحياة، والإمام يُشير إليها. ومعنى الإشارة إلى القمّة، أي على الجميع أن يسيروا في هذا الاتّجاه. ولكن من الذي يستطيع بلوغ تلك القمّة؟ في ذلك الحديث يقول الإمام السجاد عليه السلام: أنا لا أستطيع العيش على ذلك النحو.
زهدٌ لا يطيقه أحد:
“وما عَرَضَ له أمران كلاهما لله رِضَاً إلاّ أخذ بأشدّهما عليه في بدنه”، فإن عَرَضَ له شيئان كلاهما يرضى الله به، لا أنّ أحدهما حرام والآخر حلال، كأن يكون كلاهما مثلاً من العبادة، ولكن أحدهما أَشَقُّ على بدنه من الآخر، كان يختاره (أي الأشدّ)، وإن عَرَضَ له نوعان من الطّعام كان يختار أدناهما، وإن عَرَضَ له نوعان من الثياب كان يختار أردأهما، وإن عَرَضَ له عملان، كلاهما حلال، كان يختار أصعَبَهُما عليه. وهذا الكلام ليس صادراً عن متحدِّثٍ عادي، وإنّما المتحدِّث هنا – كما تُشير الرواية- هو الإمام الصّادق عليه السلام، أي إنّ كلامه في غاية الدّقّة. التفتوا كم أنّ التشدّد مع النفس مهمٌّ في الحياة الدنيا ومتاعها.
“وما نَزَلَت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نازلةٌ قطّ إلاّ دعاه فقدّمه ثِقَةً به”، أي إنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم متى ما ألمَّت به مُلمَّة كان يستدعيه وينتدبه لها ويُقدّمه فيها، وذلك
أولاً: لعلمه بأنّه قادرٌ على أدائها على أحسن وجه،
وثانياً: أنّه لم يكن يتهرَّب من الأعمال الشاقّة،
وثالثاً: أنّه كان على استعداد للجهاد في سبيل الله.
ففي “ليلة المبيت”، مثلاً، حين هاجر رسول الله سرّاً من مكّة إلى المدينة، كان يجب أن يبيت أحد في سريره، وهناك قدّم الرسول عليّاً. وفي الحروب كان الرّسول أيضاً يقدّمه…
فالحديث هنا ليس من أجل أن أدّعي – أنا ومن هم أمثالي من المساكين والضِّعاف – أنّنا نريد العمل بهذا الشّكل، لا، ليس كذلك، إنّما القضيّة هي أنّنا يجب أن نسير في هذا الاتّجاه. والإنسان المُسلِم السّائر على نهج علي عليه السلام يجب أن يسير على هذا الخطّ، وأن يتقدّم إلى الأمام بأسرع ما يُمكن.
ثمّ قال: “وما أَطَاقَ أحدٌ عملَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمّة غيره، وإنّه كان ليعمل عَمَلَ رَجلٍ كأنّ وجهه بين الجنّة والنّار”، أي رغم كلّ هذه الأعمال الكبرى وخشيته من الله وإيمانه به، كان سلوكُه سلوكَ إنسانٍ يعيش بين الخوف والرّجاء، فهو كان يخشى الله وكأنّه مُتأرجح بين الجنّة والنّار “يرجو ثواب هذه، ويخاف عقاب هذه”.
وخلاصة هذا الكلام هي أنّه رغم كلّ هذا الجهاد والعناء والبذل والعبادة، لم يغترّ عليه السلام بشيء. في حين أنّه إذا صلّى أحدُنا ركعتيّ نافلة، وقرأ بضع جُملٍ من الأدعية، وأراق دمعتين، فإنّه يُصاب فوراً بالغرور! نعم، ويتصوّر نفسه وكأنّه أصبح طاووس العلّيّين. أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فلم يغترّ بأعماله الصّالحة على كثرتها.
أمّا لماذا يخافُ أشخاصٌ كالرّسول وكأمير المؤمنين والسّجّاد عليه السلام نارَ جهنّم، ويستعيذون بالله منها، وهم الذين خلق الله الجنّة من أجل أمثالهم، فهذا بحثٌ آخر. نحن أُناس ضعاف ونظرُنا قصير، ولا نُدرك عظمة الله. ومَثَلُنا في ذلك كطفلٍ صغيرٍ يلعب أمام شخصيّة علميّة كبرى، يجيءُ ويذهبُ غير آبهٍ لوجودها، لأنّه لا يعرف من هي. أمّا أنت فلأنّك والد ذلك الطّفل الذي يفوقُ عقلُه عقلَ طفله مئة مرّة، فتتواضع لتلك الشخصيّة.
وهكذا حالنا أمام الله تعالى، فنحن لا ندرك عظمته، كأطفالٍ أو كأشخاصٍ غافلين وأُناس وَضِيعين، أمّا الذين انتقلوا من مرحلة العلم إلى مرحلة الإيمان، ومن مرحلة الإيمان إلى مرحلة الشّهود، ومن مرحلة الشّهود إلى مرحلة الفناء في الله، أولئك تتجلّى عظمة الله أمام أبصارهم، إلى الحدّ الذي لا يرون أيّ عملٍ صالح يعملونه قد صدر، ويقولون: أساساً، نحن لم نعمل أيّ عمل. هؤلاء يرون أنّهم دائماً مدينون للذّات الأحديّة المقدّسة.
“ولقد أَعتَقَ من ماله ألفَ مملوكٍ في طلب وجه الله والنّجاة من النّار، ممّا كدّ بيديه ورَشَحَ منه جبينه”، أي إنّ الأموال التي أنفقها على عتق أولئك المماليك لم يحصل عليها بالمجّان، وإنّما حصل عليها بتعب يديه، وعرق جبينه، وبالعمل الشاقّ المضني.
كان عليه السلام يعمل، سواء أفي عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أم في السنوات الخمس والعشرين (بعد وفاة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم)، أم في عهد خلافته، حيث يُستدلّ من بعض الآثار والدّلائل أنّه كان يعملُ أيضاً في زمن خلافته، فكان يحفر القنوات، ويحيي الأراضي ويزرعها، ويحصل على المال من هذا الطّريق. ثم يُنفقه في سبيل الله، وكان يشتري العبيد ويعتقهم، وأَعتَقَ على هذا المنوال ألف عبد.
“وإنّه كان ليقوت أهله بالزّيت والخلّ والعجوة”، أي إنّ طعامه العادي الذي كان في داره هو الزّيت والخلّ والتّمر من الدّرجة المتوسّطة أو الأقلّ. وكان طعامه يُشبه الخبز واللّبن، أو الخُبز والجُبن في عُرف مجتمعنا الحالي.
“وما كان لِباسُه إلاّ كرابيس، إذا فضل شيء عن يده دعا بالجلم فقصَّه”، أي إنّه لم يكن يرتضي لنفسه حتّى الزّيادة في الأكمام، وإذا زاد القماش عن ذلك دعا بمقصٍّ فقصّه، يعني أنّه لم يرضَ حتّى بأن تكون أكمام قميصه طويلة. وكان يقول هذه زيادة، فليستخدم ذلك القماش في خياطة شيء آخر، لأنّ القماش كان قليلاً في ذلك العصر، وكان الناس يواجهون مشكلة في الحصول عليه، بحيث إنّ قطعة صغيرة من القماش تلزم، ويُستفاد منها.
ثمّ تحدّث بعد ذلك عن عبادته، فقد كان عليه السلام قمّة الإسلام وأُسوة للمسلمين. وجاء في هذه الرّواية: “ما أَشبَهَه من وُلدِه ولا أهل بيته أحدٌ أقرب شَبَهَاً به في لباسه وفِقهِه من عليّ بن الحسين”، أي إنّ الإمام الصّادق عليه السلام يقول: لم يشبه أمير المؤمنين عليه السلام في جميع أهل بيته عليه السلام، وأولاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكه وزهده وعبادته، إلاّ الإمام السجّاد عليه السلام.
نخالة السويق درسٌ للوالي:
يُروى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد – على الأرجح – تعيين رجلٍ من ثقيف والياً على إحدى المناطق، فقال عليه السلام له: “إذا صلّيت الظّهر غداً فعُد إليّ”. والمتعارف عليه في زماننا عند تعيين محافظ أو مسؤول، إنّ الحاكم يستدعيه ليبلغه ما لديه من توصيات. يقول هذا الشخص: “فعُدت إليه في الوقت المعيّن، فلم أجد عنده حاجباً يَحبِسُني دونه، فوَجَدتُه جالساً وعنده قدح وكوز ماء، فدعا بوعاءٍ مشدودٍ مختوم، فقلتُ في نفسي: لقد أمّنني حتّى يُخرِج إليّ جوهراً، فكَسَر الختم وحلّه، فإذا فيه سُويق، فأخرج منه فصبّه في القدح وصبّ عليه ماءً، فشرب وسقاني، فلم أَصبِرْ، فقلت: يا أمير المؤمنين: أتصنع هذا في العراق وطعامه كما ترى في كثرته؟ فقال: أمّا والله، ما أختم عليه بخلاً به – أي إنّني لا أخاف أن يأكل أحدٌ ما من هذا الطّحين الرّخيص – ولكنّي أبتاع قدر ما يكفيني من هذا الطّحين، وهو من أرخص الأنواع، فأخاف أن يَنقُص فيُوضع فيه من غيره – أيْ إنّني أخاف أن يضع فيه أحد من غير الطّحين الذي ابتعته – وأنا أكره أن أُدخل بطني إلاّ طيّباً – أيْ إنّني أريد أن آكل طعاماً طيّباً- اشتريتُه من مالي ولا مال فيه لأحد”.
عندما أراد أمير المؤمنين عليه السلام أن يُعلّم هذا الوالي، استدعاه ليريه هذا المشهد، وليقول له هذا الحديث، في حين أنّه كان باستطاعته أن يوصيه في المسجد، لكنّه أحضره ليُفهِمه ويقول له: إنّك ذاهبٌ لتتولّى مدينة فيها جموعٌ من النّاس تكون تحت إمرتك، ولذلك عليك الانتباه لخَرَاجهم وأموالهم وأرواحهم وأعراضهم، فهذه السّلطة ليست مطلقة، فكونك والياً لا يعني أنّك مطلق اليد وحرٌّ في التّصرّف، فالتَفِت، وافهَم ما الذي تقوم به.
ثمّ قال له: “فإيّاك وتناول ما لا تعلم حِلّه”، والتناول لا يقتصر على الأكل. هذه حياة أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا هو درسه وزهده.
رداؤه سمل قطيفة، وبردٌ قارس!
يروي أحدهم حادثة عن أبيه، قال: “دخلتُ على عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يرعد تحت سمل قطيفة – كان الجوّ بارداً، والإمام يجلس على قطيفة رفيعة ويرتجف- فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الله تعالى قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعمّ، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟!”، أي يا أمير المؤمنين، لماذا ترتجف والجوّ بارد؟ ضع شيئاً عليك، فأجابه عليه السلام: “والله ما أرزأكم من أموالكم شيئاً، وإنّ هذه لقطيفتي التي خرجتُ بها من منزلي من المدينة، ما عندي غيرها”.
هذه حال أمير المؤمنين عليه السلام، كان في القمّة وعلى رأس السلطة، ونحن أقلّ منه بأربعة أو خمسة آلاف قدم، فعلينا التوجّه نحوه.
هذا هو درس أمير المؤمنين عليه السلام لنا. والواقع أنّنا كيفما جُلنا في أبعاد حياة هذا العظيم، رأينا المواعظ والدروس.
يقول القطب الرّاونديّ، وهو من كبار علمائنا في القرن السّادس، عن زهد أمير المؤمنين عليه السلام: “ومنها أنّ كلامه الوارد في الزُّهد والمواعظ والتّذكير والزّواجر، إذا فكّر فيه المفكّر ولم يدرِ أنّه كلام عليّ عليه السلام – وهو من كان يَبسط حكومته على جانبٍ كبيرٍ من الأمصار والبلدان، وانهالت عليه كلّ تلك القضايا والمسائل الاجتماعيّة والسياسيّة – لا يشكّ أنّه كلام من لا شُغل له بغير العبادة، ولا حظّ له في غير الزّهادة”. هذا هو زهد أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت كلّ أبعاد شخصيّته كذلك في أوج عظمتها. ثمّ يضيف: “وهذه من مناقبه العجيبة التي جَمَعَ بها بين الأضداد”.
عليّ عليه السلام، أكثر الناس إنتاجاً وزهداً
… فأمير المؤمنين عليه السلام كان المَثَلَ في زهده وإعراضه عن الدّنيا. ولعلّ الزُّهدَ أبرزُ مواضيع نهج البلاغة أو أحدُ أبرزِها. ومع ذلك، فإنّه عليه السلام كان طوال فترة خمسٍ وعشرين سنة بين وفاة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم وتسلّمه الخلافة يُنفق من ماله الخاصّ في الإعمار. إذ كان يزرع البساتين والمزارع، ويحفر الآبار، ويشقّ الأقنية ويسوّي الحقول، والمدهش أنّه كان يتصدّق بكلّ ذلك في سبيل الله.
لا غَرَرَ في أن نعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أكثر النّاس إنتاجاً، وقد نُقل عنه أنّه قال: “إنّ صَدَقَتي اليوم لو وُزِّعَت على بني هاشم لوَسِعَتهم”. هكذا كان إنتاجه. لكنّ هذا الإنسان الثريّ كان يعيش الحياة الأكثر فقراً، لأنّه كان يُنفق كلّ تلك الثّروة في سبيل الله. كان بيديه يحفر الآبار في الأرض، ويقوم بكلّ الأعمال. ينقل الراوي: “رأيتُ الماء قد تدفّق من تلك البئر كأوداج الجمل، فخرج أمير المؤمنين عليه السلام منه وهو مُلطّخ بالطّين، وجلس عند حافتّه، ودعا بورقٍ وكتب فيه بأنّ هذا البئر أوقفه عليّ بن أبي طالب على أشخاصٍ ذَكَرَهم”.
والأمر الذي نلاحظه في عهد حكومة أمير المؤمنين عليه السلام كان امتداداً لحياته الخاصّة ومسيرته (قبل ذلك)، وكان أيضاً يظهر في أثناء خلافته هكذا.
إنّ الزُّهد بالدّنيا لا يتنافى مع بنائها الذي جعله الله واجباً على الجميع، عمّروا الدّنيا، وأحيوا الأرض وأوجدوا الثروة، ولكن لا تتعلّقوا بها، ولا تكونوا عبيداً لها، ولا تكونوا أسرى المال والثّروة، لتتمكنوا من إنفاقها في سبيل الله بسهولة.
هذا هو التّوازن الإسلامي. والأمثلة من هذا الطّراز كثيرةٌ، ولو أردتُ ذكر أمثلةٍ لها لاستغرقت وقتاً طويلاً.
كما يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية