انقضت السنة الهجرية السابعة، واستطاع المسلمون بفضل معاهدة صلح الحديبية ان يزوروا معاً بيت اللّه المعظم ويعتمروا في أمان، ويردّدوا في مركز حكومة الوثنيين شعارات قوية لصالح عقيدتهم التوحيدية إلى درجة انهم استطاعوا ان يستميلوا نحو الاسلام قلوب جماعة من سراة قريش وزعماء المشركين امثال “خالد بن الوليد”، “وعمرو بن العاص”1 و”عثمان بن طلحة”، فلم يلبثوا أن جاؤوا طائعين راغبين الى المدينة، واعتنقوا الاسلام وقطعوا علاقاتهم بحكومة مكة الوثنية المشركة التي لم يبق منها إلا جسم من دون روح، وهيكل من دون حياة2.
وذكر بعض المؤرخين اسلام خالد او ابن العاص في السنة الخامسة من الهجرة.
ولكن هذا غير صحيح لأن “خالداً” كان يقود في الحديبية مائتين من فرسان قريش، ونحن نعلم أن اسلام هذين الرجلين تمّ في وقت واحد.
كان ثمت أمن نسبيّ يسود اكثر مناطق الحجاز في أوائل السنة الثامنة، وكان نداء الاسلام قد وصل إلى اكثر النقاط ولم يبق من نفوذ اليهود شيء، ولم تعد قريش تهدّد المسلمين من ناحية الجنوب، ولهذا فكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أن يركز دعوته على سُكان المناطق الحدودية للشام، ويستميل الى الاسلام قلوب اُولئك الاقوام التي كانت في تلك الايام تعاني من ظلم السلطات الروميّة.
ولهذا الغرض وجّه “حارث بن عمير الازدي” مع كتاب إلى “الحارث بن أبي شمر الغساني” ملك “بصرى” الذي كان حاكم الشامات المطلق يومذاك، وكان يحكم من جانب قيصر.
فلما نزل مبعوث النبي “مؤتة” عرف به شرحبيل وكان حاكم المناطق الحدودية، فقبض عليه، وحقق معه، فاعترف له بأنه يحمل كتاباً من جانب رسول الاسلام إلى حاكم الشامات المطلق (الحارث الغساني)، فأمر بان يُوثق وقدمه وضرب عنقه صبراً مخالفاً بذلك كل الأعراف العالمية القاضية باحترام السفراء وحصانتهم.
فعرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بذلك وغضب لمقتل رسوله بشدّة وندب الناس فأخبرهم بمقتل سفيره ومن قتله، ودعا المقاتلين المسلمين الى الخروج للاقتصاص من قاتل “الحارث”.
حادثة أفجع من السابقة:
واتفق أن وقعت في نفس الايام حادثة اُخرى افجع من الاولى، أكدّت عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على تأديب سكان المناطق الحدودية الشامية الذين سلبوا دعاة الاسلام حرية العمل والدعوة، وقتلوا دون رحمة، وعذراً سفير النبي، وجماعة الدعوة والتبليغ واليك مفصل الحادثة الثانية: بعث رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في شهر ربيع الاول سنة ثمان من الهجرة على رأس خمسة عشر رجلاً إلى منطقة “ذات أطلاح” من ارض الشام، خلف وادي القرى لدعوة الناس الى الاسلام، فخرجوا حتى انتهوا إلى تلك المنطقة فدعوا أهلها إلى الاسلام فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل فلما رأى أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله ذلك قاتلوهم اشدّ القتال، حتى قتلوا مؤثرين عز الشهادة على ذل الأسر، وافلت منهم رجلُ جريح من القتلى، فلما جنّ الليل تحامل حتى اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فاخبره الخبر فشق ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فتسبّب العدوانُ على دعاة الاسلام وقتلهم في ان يصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمراً بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى، ووجّه جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتمردين، ومزاحمي دعاة الاسلام.
فتجمّع ثلاثة آلاف بعد الاذان بالجهاد في معسكر خارج المدينة يدعي “الجرف” فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بنفسه الى ذلك المعسكر، وخطب في المقاتلين خطاباً، هذا نصه:
“اُغزوا بسم اللّه اُدعوهم الى الاسلام فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم والا فقاتلوا عدوّ اللّه وعدوّكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولاتقتلُنَّ امرأةً ولا صغيراً مرضعاً ولا كبيراً فانياً، لا تغرقنَّ نخلاً ولاتقطعنَّ شجراً، ولاتهدموا بيتاً”3.
ثم قال: جعفر بن أبي طالب أمير الناس، فان قُتِلَ فزيدُ بن حارثة، فان اصيب زيد فعبد اللّه بن رواحة فإن اصيب عبد اللّه بن رواحة فليرتضي المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم.
ثم امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المقاتلين بالتحرك نحو الهدف، وخرج فشيّعهم مع جماعة من اصحابه حتى “ثنية الوداع” وهناك ودّعهم وكان المسلمون المشيعون يقولون: دفع اللّه عنكم وردكم سالمين غانمين، صالحين. ولكن ابن رواحة أجابهم قائلاً:
لكننّي أسأل الرحمان مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حرّان مجهزة بحربة تنفذُ الاحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مرّوا على جدثي يا أرشَد اللّه من غاز وقد رشدا4.
وانت أيّها القارئ الكريم يمكنك أن تعرف من خلال هذه الابيات عمق ايمان هذا الفارس القائد وحبه للشهادة في سبيل اللّه.
ثم ان الناس رأوا عبد اللّه بن رواحة لما ودع من ودع بكى، فقالوا ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما واللّه ما بي حبّ الدنيا، ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقرأ آية من كتاب اللّه عزّ وجل يذكر فيها النار: “وَإن مِنكُم إلا وَاردُها كانَ عَلى رَبِّك حَتماً مَقضّياً”5. فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الوُرود6.
خلاف حول من هو الامير الاول؟
لقد كتب بعض المؤرخين: أن الامير الاول كان هو زيد بن حارثة ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالتبني، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد اللّه بن رواحة، ولكن محققي الشيعة يرون عكس هذا فهم يعتبرون جعفر بن أبي طالب قائد الجيش وزيداً وعبد اللّه معاونين أو خليفتين له على الترتيب فيجب ان نرى أي الرأي يوافق الحقيقة.
لتحصيل الحقيقة في هذا المجال هناك طريقان:
1 – ان زيد بن حارثة لم يكن يعادل من ناحية التقوى والعلم والمكانة الاجتماعية جعفر بن أبي طالب (جعفر الطيار). يقول ابن الاثير عنه: جعفر بن أبي طالب كان اشبه الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خَلقاً وخُلقاً، أسلم بعد إسلام أخيه علي بقليل. روي أن أبا طالب رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعلياً رضي اللّه عنه يصليان وعليّ عن يمينه، فقال لجعفر: صِل جناح ابن عمك وصلِّ عن يساره7.
وجعفر رأس المهاجرين إلى الحبشة الذين هاجروا اليها حفاظاً على دينهم وعقيدتهم من الفتنة وهو الذي استمال قلب النجاشي بما تكلم به عنده من الحجة وقرأ عليه آيات من القرآن عن المسيح عليه السَّلام واُمه مريم، واثبت كذب مبعوثي قريش لاستعادتهم إلى ارض الحجاز، وهو الذي وُفقَ لأن يخطب ودَّ النجاشي ويكسب حمايته للمهاجرين الملاحقين إلى درجة أنه طرد مندوبي قريش8.
ان جعفراً هو الشخصية البارزة التي لما رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوم خيبر وقد عاد من الحبشة مشى إليه (12) خطوة وعانقه وضمه وقبّل ما بين عينيه وبكى من فرط الشوق اليه وقال في حقه: “بأيهما اسرّ بقدوم جعفر ام بفتح خيبر”.
إنه هو ذلك الرجل العظيم الذي كان يذكر عليّ عليه السَّلام، بعد استشهاده شجاعته وبساتله، فعندما سمع عليّ عليه السَّلام بمبايعة عمرو بن العاص لمعاوية، وتقررَ أن يوكل معاوية حكومة مصر إلى عمرو إذا غلبا علياً غضب عليّ عليه السَّلام من هذا الامر وتذكر شجاعة عمّه حمزة وأخيه جعفر وقال:
لو أن عندي يابن حرب جعفرا او حمزة القرم الهمام الازهر
رأت قريش نجمَ ليل ظُهرا9.
فهل مع هذه المواصفات والجهات التي نقلنا قسماً منها هنا فقط يجيز العقل أن يفوّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قيادة القوات إلى زيد ويجعل جعفر معاونه او خليفته الاول.
2- ان الأشعار التي انشدها شعراء الاسلام الافذاذ في رثاء هؤلاء القادة بعد استشهادهم حاكية عن ان القائد الاعلى في هذه المعركة الكبرى (مؤتة) كان “جعفر” وكان أمر المعاونة والخلافة يرتبط بالرجلين الآخرين، فهذا “حسان” شاعر عصر الرسالة انشد شعراً بعد أن بلغهُ استشهاد اُولئك القادة بصورته المفجعة قال فيه:
فلا يبعدنَ اللّه قتلى تتابعوا بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد اللّه حين تتابعوا جميعاً وأسباب المنية تخطر10
فكلمة تتابعوا تشهد بجلاء على أن مقتل هؤلاء القادة الذين ذكرهم تمَّ على النحو الذي جاء ذكرهم، يعني أن جعفراً كان اول الشهداء ثم تلاه في قيادة الجيش الاسلامي ثم الشهادة زيد، ثم ابن رواحة.
وان اوضح الادلة على ذلك قصيدة “كعب بن مالك” في رثاء شهداء مؤتة، التي يصرح فيها بان جعفر كان هو القائد الأول، وقد كان صاحب هذه الأبيات ممن شاهد تفويض أمر القيادة العليا للجيش من جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى جعفر.
يقول كعب في قصيدته:
إذ يهتدون بجعفر ولوائه قُدّام أوّلهم فنعم الأولُ11
إن هذه القصائد الرثائية التي اُنشدت في أعقاب استشهاد اولئك القادة، وسلمت من يد التحريف اقوى شاهد على ان ما كتبه مؤرّخو السنّة حول هذا المطلب يخالف الحقيقة، وأن الرواة اختلقوا هذا الترتيب لدوافع وأغراض سياسية لا مجال لذكرها، وبيانها هنا، وقد تبعهم في ذلك كُتّاب السيرة وادرجوه في كتبهم من دون تمحيص وتحقيق.
والعجب أن ابن هشام الذي نقل كل هذه الابيات والقصائد قال: ان جعفر كان المعاون الأول لزيد بن حارثة، وليس القائد الأعلى للجيش، وهو كما ترى تناقض مكشوف12.
جيشا الروم والاسلام يتواجهان:
كانت “الروم” قد اُصيبت يومذاك – نتيجة الحروب العديدة والطويلة مع منافستها ايران – بالفوضى، والهرج والمرج الشديدين.
فمع ان قادة الروم كانوا سكارى من نشوة الانتصار على ايران إلا أنهم قد بلغهم شيء كثير عن شجاعة المسلمين وبسالتهم النابعة من إيمانهم والتي كسبوا عن طريقها أمجاداً عظيمة، وكانوا يراقبون على الدوام تحرك جنود الاسلام ونشاطاتهم العسكرية.
ولهذا لما بلغ هرقل قيصر الروم بموعد جنود الاسلام الى ناحية الشام لتأديب عميله شرحبيل الغساني، أرسل جيشاً عظيماً وقوياً لمواجهة جنود الاسلام البالغ عددُهم ثلاثة آلاف.
وقد اعدّ “شرحبيل” حاكم ارض الشام وحده مائة ألف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الاراضي الشامية ووجهه الى حدود الشام لايقاف تقدم الجيش الاسلامي، وقد أعدّ قيصر قبل ذلك مائة ألف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى “مآب” من مدن البلقاء، واستقّر هناك كقوة احتياطيّة تتدخل عند اللزوم13.
ولقد كان تجميع هذا القدر الهائل من الجنود والمقاتلين لمواجهة جيش يقلّ عدداً بكثير عن هذا القدر نابعاً من الانباء التي بلغت قادة الروم والشام عن فتوحات المسلمين وانتصاراتهم الساحقة، وعن الوقوف على شجاعتهم وبسالتهم التي ذاع صيتُها، وإلا فان عشر هذا العدد، (أي عشرون ألفاً) يكفي لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل مهما كانت شجاعة هؤلاء.
كما أنه لدى المقارنة بين العسكرين كان الجيش الاسلامي أضعف من جيش الروم بكثير، سواء من ناحية العتاد، أو من ناحية المعرفة بفنون القتال وتكتيكاته العسكرية، لان القادة العسكريين الروم كانوا قد كسبوا خبرة حربية واسعة نتيجة المشاركة في الحروب العديدة والطويلة التي دارت بين الروم وبين ايران، وعرفوا بالتالي مفاتيح الانتصار، بينما كانت معلومات الجيش الاسلامي الناشئ معلومات بدائية وبسيطة في هذا المجال.
هذا مضافاً إلي عدم وجود التكافؤ بين الجيش الاسلامي والجيش الروماني في نوعية المعدّات الحربية والاجهزة القتالية ووسائل النقل وما شابه ذلك.
وفوق هذا وذلك فان القوّة الاسلامية كانت تحارب في أرض غريبة عليها، وتقوم بدور المهاجم، بينما كان الرومان يقاتلون في بلادهم دفاعاً وهم يتمتعون بجميع مستلزمات القتال ومتطلبات الحرب.
وفي مثل هذه الحالة يجب أن تكون القوة المهاجمة قوية جداً، بحيث يمكنها ملافاة سلبيات الظروف غير المساعدة.
ومع هذا فأننا سنرى عما قريب كيف أن قادة الجيش الاسلامي قاوموا وآثروا الصمود والقتال على الهروب والفرار مع انهم كانوا يرون الموت على بعد أقدام معدودة منهم، وبهذا أضافوا إلى أمجادهم أمجاداً اُخرى، وسطروا أسطراً اُخرى في سجلّ بطولاتهم.
منذ أن ورد المسلمون المناطق الحدودية للشام عرفوا باستعدادات العدوّ العريضة، وحجم قدراته العسكرية الواسع فشكّلوا من فورهم شورى عسكرية فقال البعض: نكتب الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فنخبره الخبر، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالاً. وكاد هذا الرأي ان يلقى قبولاً من المشاورين الآخرين لولا أن “عبد اللّه بن رواحة” الذي طلب ساعة خروجه من المدينة من اللّه ان يرزقه الشهادة كما اسلفنا، شجعهم على الصمود وقال: “واللّه ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللّه به، انطلقوا، واللّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرَسان، ويوم اُحد فرس واحد، وإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم، فذلكم ما وعدنا اللّه ووعدنا نبينا، وليس لوعده خُلف، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان”.
فقوّت هذه الخطبة الحماسية الصادقة معنويات المقاتلين المسلمين وبثت فيهم روح البسالة والمقاومة.
ثم تواجه الجيشان في منطقة تدعى “مشارف” ولكن جنود الاسلام تأخروا وانسحبوا قليلاً لبعض العلل، ونزلوا في مؤتة. فقسم جعفر بن أبي طالب قائد الجيش، جنود الاسلام إلى اقسام مختلفة، وأمَّر على كل قسم اميراً، ثم بدأت المبارزة الفردية على نحو ما كان متعارفاً في حروب العرب، فكان على جعفر ان يأخذ اللواء بيده ويوجّه صفوف المقاتلين المسلمين، ويقاتل في نفس الوقت.
ثم اننا نكتشف مدى الشجاعة الروحية وثبات الارادة لتحقيق الهدف من خلال الرجز الذي أنشده “جعفر” خلال القتال فقد أخذ يرتجز ويقول:
يا حبّذا الجنة واقترابُها طيبة وبارداً شرابُها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتُها ضِرابُها14
ولقد قاتل قائد الجيش الاعلى (جعفر) قتالاً عظيماً، فلما حاصره الأعداء في ساحة القتال وأيقن بالشهادة وثب الى الارض ثم عقر فرسه في الحال لكلي لا ينتفع به العدوُّ واخذ يقاتل، وهو آخذ باللواء بيمينه، فقطعت يمينهُ فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضُديه حتى لا يسقط لواء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على الأرض حتى قتل وقد وُجد به ثمانون جراحة أو تزيد!!15.
فلما قتل “جعفر” أخذ الراية “زيدُ بن حارثة” معاونه الاول فقاتل ببسالة عظيمة حتى قتل برماح القوم.
فأخذ الراية “عبد اللّه بن رواحة” معاونه الثاني، ثم تقدّم بها وهو على فرسه، فجعل يقاتل ويرتجز، فأحسّ بالجوع أثناء القتال، وألحّ عليه، فأتاه رجل بعرق من لحم ليزيل به جوعه ويشدُّ به صُلبَه، فلم يأكل منه شيئاً حتى سمع صوت هجوم العدوِّ، فالقى الطعام من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتِل.
حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة:
وهنا بدأت حيرة المقاتلين المسملين، فقد قُتِلَ القائد الأعلى للجيش ومعاوناه وعلى الترتيب الذي ذكر.
ولكن النبي صلى اللّه عليه وآله كان قد تحسّب لهذه الحالة، وترك أمر اختيار القائد في مثل هذا الوضع إلى الجنود انفسهم، فأخذ الراية “ثابت بن أقرم” وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: انت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلِحَ على “خالد بن الوليد” الذي كان حديث عهد بالاسلام آنذاك.
ولقد كانت الساعة التي انيط فيها القيادة الى خالد ساعة خطيرة وحساسة جداً، حيث قد تغلّب الخوف والرعب على المسلمين كافة.
فعمد القائد الجديد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف له مثيل، فقد امر بالعسكر إذا جنّ الليل أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه من دون ضجيج فتنتقل الميسرة الى الميمنة، والميمنة الى الميسرة، وتتأخر المقدمة الى مكان القلب، ويتقدم القلب الى موضع المقدمة. ففعل المسملون ذلك، واستمرّت هذه التغييرات حتى طلوع الفجر.
كما أنه امر جماعة من المسلمين المقاتلين أن يخرجوا من الجيش ليلاً، ويذهبوا إلى مكان بعيد فاذا اسفر الصبح التحقوا بالمسلمين سريعاً وهم يكبّرون حتى يظن العدوّ وصول امدادات عسكرية بشرية جديدة الى المقاتلين المسلمين وقد تسبب هذا التكتيك بنفسه في أن يحجم الجيش الكافر عن مهاجمة المسلمين واستئصالهم، بعد ان قتل خيرة قادتهم.
فلما كان الصبح ورأى العدو وجوهاً جديدة، كما رأوا إمداد المسلمين بمجموعة عسكرية جديدة قالوا: قَد جاءهم مدد. فرعبوا وانهزموا فقاتلهم المسلمون، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقُتِل في هذا الاثناء أحدُ الجنود المسلمين.
ثم ساد الموقف صمت رهيب، فاستفاد من هذا الصمت والأمن الذي كان يخيم على الجيش فرجعوا من حيث اتوا.
إن اكبر انتصار للمسلمين هو ان قوة قليلة محدودة واجهت جيشاً عظيماً منظماً ثلاثة أيام، وبالتالي نجوا بأنفسهم، وكان تدبير الامر الجديد تدبيراً حكيماً خلّص المسلمين من موت محتم، فعادوا سالمين إلى المدينة، وكان هذا ممّا يشكرون عليه، ويستحقون الثناء والثناء16.
الجنود يعودون الى المدينة:
وقبل ان يقدم جنود الاسلام من “مؤتة” المدينة كانت قد وصلت إلى المسلمين أنباء انسحابهم وانباء سيئة عن وضع الجيش، من هنا ذهب المسلمون الى منطقة الجرف لاستقبالهم.
ومع ان عمل القائد الجديد كان تكتيكاً حكيماً الا ان مثل هذا الصنيع حيث انه كان يتنافى مع ما حققه المسلمون من أمجاد مشرقة وتنافي مشاعرهم وبسالتهم الذاتية والأصيلة لذلك استقبلوهم بشعارات نابية وانتقادات جارحة والقوا بالتراب والحجارة في وجوه المقاتلين العائدين، وقالوا: يا فُرّار، فررتم في سبيل اللّه؟
وقد كانت ردة فعل بعض المسلمين قويّة جداً الى درجة انه اضطر بعض الشخصيات التي شاركت في تلك المعركة إلى ان يقعد في بيته، ولا يظهر في الملأ، فكان الناس – إذا خرجوا – يشيرون اليهم بالاصابع ويقولون: ألا تقدمت مع أصحابك؟17.
ولقد كانت ردة فعل المسلمين تجاه عملية انسحاب جنود الاسلام الزكية، كاشفة عن روح الشهامة والجهاد التي أوجدها الايمان باللّه والايمان بيوم القيامة في نفوسهم بحيث صاروا يعدّون القتل والشهادة في سبيل اللّه، أفضل من الانسحاب والتأخر.
اُسطورة بدل التاريخ الصحيح:
حيث إن الامام علي بن أبي طالب عليه السَّلام قد اشتهر بين المسلمين بأسد اللّه، لذلك أراد البعض أن ينحتوا تجاه هذا القائد قائداً آخر، ويمنحونه لقب سيف اللّه، ولم يكن ذلك إلا خالد بن الوليد من هنا قالوا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقب خالد بن الوليد بعد رجوعه من معركة “مؤتة” بسيف اللّه18 ولو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله منح مثل هذا اللقب لخالد في مناسبة اخرى لما كان للبحث والنقاش مجال.
ولكن الاوضاع بعد معركة “مؤتة” ما كانت توجب بل ولا تسمح بأن يعطيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مثل هذا اللقب، فهل من يرأس فريقاً يسميه المسلمون الفُرّار، ويحثون في وجوههم التراب يحسن أن يُعطى في مثل هذه المناسبة لقب سيف اللّه؟ أجل، لو أنّ خالداً كان مظهراً لسيف اللّه في غزوات ومعارك اُخرى امكن القبول بذلك، أما في هذه المعركة فلم يكن مظهراً لسيف اللّه، ولم يصدر منه بعد تقليده إمارة الجيش إلا تكتيك نظاميّ حكيم، ولما وصف هو ومن معه بالفراريين، خاصة ان ابن سعد يكتب قائلاً: فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناسُ فكانت الهزيمةُ فتبعهم المشركون فُقتِلَ من قُتِلَ من المسلمين19.
إن مختلقي هذه الاسطورة أضافوا لتاكيد مطلبهم هذه الجملة أيضاً: قال خالد: لقد اندق يومئذ (أي يوم مؤتة) في يدي سبعة أسياف فما ثبت بيدي إلا صفيحة يمانية20.
ان مختلق هذه الكذبة غفل تماماً عن أن خالداً وجنوده لو كانوا ابدوا في هذه المعركة مثل هذه البسالة ولو انجزوا في هذه الحرب مثل هذا العمل العظيم فلماذا سمّاهم أهلُ المدينة بالفرّار؟ ولماذا حثوا التراب في وجوههم؟ ولما وقع الناس في خالد بعينه21، إذ كان من اللازم في هذه الصورة أن يزرعوا طريقهم بالورود، ويقربوا بين أيديهم القرابين إبتهاجاً بعودتهم الظافرة واعجاباً بعملهم الجبار!!
النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر:
لقد بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في مقتل ابن عمه “جعفر” بشدة ولكي تعرف زوجته اسماء بنت عميس بمصرع زوجها دخل عليها، فقال لاسماء: ايتيني ببني جعفر.
فجاءت بهم إليه فضمّهم وشمهم، ثم ذرفت عيناه ثم بكى، فعرفت أسماء بمصرع زوجها فصاحت وبكت ثم خرج رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى اهله وقال: “لا تغفلُوا آلَ جَعفَر مِن أَن تَصنَعوا لَهُم طَعاماً، فإنَّهُم قَد شغِلوا بأمر صاحبهم”. وكان كلما تذكر جعفراً وزيد بن حارية بكى22.