غزوة بدر الكبرى (17 / رمضان / السنة 2 هـ).
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.
في شهر رمضان المبارك، في السنة الثانية من الهجرة كانت واقعة بدر الكبرى، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل قبلها بعدة سرايا، إلاّ أنه لم يقع فيها قتال، وكان سببها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أطلعه الغيب على خروج قافلة تجارية لقريش بقيادة أبي سفيان، فيها أموال كثيرة، قُدّرت بخمسين ألف دينار، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه لأخذها عوض أموالهم التي سلبت في مكة، غير أنّ هذه القافلة سرعان ما أفلتت منهم إلى الشام، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يترقب رجوعها حتى إذ أعلم به انتدب الناس للخروج إليها وسلبها، فخرج المسلمون يريدون العير، وقد علم أبو سفيان بالأمر فأرسل رجلاً إلى قريش يستنفرهم لنجاة العير، فوصل بعد ثلاثة أيام وهو يناديهم: يا آل غالب… يا آل غالب.. اللطيمة اللطيمة. فلما أخبرهم الخبر تجهّزت قريش لحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما بقي أحد من عظمائها إلاّ أخرج ماله لتجهيز الجيش، فخرجت قريش بألف فارس ويزيدون، وأخرجوا معهم المغنيات والدفوف والطبول والخمر، فلما وصل خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشار أصحابه بأمر حربهم، وكان قد قرب بدر، فقام المقداد، فقال يا رسول الله: إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون، ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والله لنقاتلنّ عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك، ولو خضت بحراً لخضناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتبعناك.
فأشرق وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعا له وسرّ لذلك وضحك.
ثم أمر أصحابه بالمسير وأخبرهم بأنّ الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين، النفير أو العير، وفي ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ﴾ وأن الله لن يخلف وعده.
فساروا حتى نزلوا بدراً إلاّ أن المشركين كانوا قد سبقوهم إلى بدر فنزلوا في العُدوة القصوى؛ في جانب الوادي مما يلي مكة، حيث الماء، وكانت العير خلف المشركين، وقد سلمت، لأنّ أبا سفيان قد سلك بها طريق البحر وابتعد عن المدينة وعن سير المسلمين، وكان محلّ نزولهم صلباً، ونزل المسلمون في العدوة الدنيا، أي جانب الوادي مما يلي المدينة، حيث لا ماء، وحيث الأرض رخوة، لا تستقر عليها قدم، فباتوا إلى الليل، واشتد العطش بالمسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: مَن منكم يمضي في هذه الليلة إلى البئر فيستسقي لنا؟ فصمتوا ولم يتقدم منهم أحدٌ على ذلك، فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام قربةً وانطلق، وكانت ليلة باردة ظلماء، ذات رياح وهواء حتى ورد البئر، فلم يجد دلواً يستسقي به فنزل بنفسه في البئر وملأ القربة، وأخذ في الرجوع، فعصفت عاصفة، فجلس حتى سكنت، ثم قام يسير وإذا بعاصفة ثانية فجلس حتى هدأت، ثم قام يسير، وإذا بعاصفة ثالثة فجلس حتى زالت، ثم قام وسلك طريقه حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بُطئه فأخبره بالعواصف الثلاث، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وهل علمت ما هي تلك العواصف يا عليّ؟ فقال: لا. فقال: العاصفة الأولى جبـرائيل عليه السلام، ومعه ألفٌ من الملائكة سلم عليك وسلموا، والثانية كانت ميكائيل ومعه ألف ملك سلم عليك وسلموا، والثالثة كانت إسرافيل ومعه ألف ملك سلم عليك وسلموا، وكلهم هبطوا مدداً لنا.
وإلى هذا المعنى يشير مَن قال: كانت لعليٍ ثلاثة آلاف منقبة في ليلة واحدة.
وفي هذا نزلت الآية الكريمة: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾7.
ولما أصبح يوم الواقعة ورأى المسلمون كثرة المشركين، خافوا وتضرّعوا إلى الله، ولمّا نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى كثرة المشركين، وقلّة المسلمين استقبل القبلة، وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض8. فنزل قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾.
ثم ألقى الله النعاس على المسلمين فناموا ليهدّئ من روعهم وخوفهم، وليتمكنوا في الصباح من مواجهة المشركين بقوة وثبات، وحتى لا تتضخّم الأمور في الليلة البهيم فيأخذهم الاضطراب ويعصف بهم التخمين ويتملكهم الخوف. قال تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدامَ﴾10.
وفي مقابل ذلك فقد ألقى الله سبحانه في قلوب المشركين الرعب والخوف، قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ﴾.
المعركة ونتائجها:
كان أول من برز للقتال عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد، فبرز إليهم ثلاثة من الأنصار، فنادى عتبة أو شيبة: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فندب إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة وعلياً قائلاً: “قم يا عبيدة، قم يا عم، قم يا علي، فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم…”.
فتبارز الثلاثة، وقتل علي الوليد، وجاء فوجد حمزة معتنقاً شيبة بعد أن تثلمت في أيديهما السيوف، فقال: يا عم طأطئ رأسك، وكان حمزة طويلاً، فأدخل رأسه في صدر شيبة، فاعترضه علي بالسيف فطيّر نصف رأس شيبة، وكان عتبة قد قطع رجل عبيدة، وفلق عبيدة هامته، فجاء علي فأجهز على عتبة، وعلى هذا فيكون علي عليه السلام قد شرك في قتل الثلاثة.
وبدأت المعركة بعد المبارزة الفردية، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفاً من الحصباء فرماها في وجوه المشركين فما بقي فرد منهم إلاّ امتلأت عينه منه، ثم أخذ المسلمون يقتلون ويأسرون، وقد قُتل زعماؤهم وقُتل أبو جهل وأمية وأضرابهما…
واستشهد من المسلمين تسعة، وقيل: أحد عشر. وقيل: أربعة عشر؛ ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، كما أنه لم يؤسر من المسلمين أحد، كما أنهم قد غنموا من المشركين مئة وخمسين بعيراً، وعشرة أفراس، وقيل ثلاثين، ومتاعاً وسلاحاً وأنطاعاً وثياباً وأدماً كثيراً.
وكان لعلي عليه السلام الدور الأساس في هذه المعركة، حيث كان نصف القتلى تقريباً بسيفه، وقد ذكر الواقدي أسماء تسعة وأربعين رجلاً ممن قتل في بدر من المشركين، ونصّ على أنّ من قتله منهم أمير المؤمنين علي عليه السلام وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً.
وقال بعضهم: إنّ أهل الغزوات أجمعوا على أنّ جملة من قتل يوم بدر سبعون رجلاً قتل علي منهم إحدى وعشرين نسمة باتفاق الناقلين، وأربعة شاركه فيهم غيره، وثمانية مختلف فيهم.
دروس وعبر من غزوة بدر:
لقد حملت واقعة بدر الكثير من الدروس والعبر للمسلمين جميعاً على مرّ التاريخ، فكل من يقرأ صفحات بدر، وما بذله المسلمون، في سبيل الله تعالى، والقيادة الحكيمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يستحصل حصيلة كبيرة من الفوائد والدروس، ومن أهم تلك الدروس الحصول على نتائج الاعتماد على الله تعالى والتمسك بالقيادة الإلهية الحكيمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان من الواضح جداً أن المسلمين يشكلون في عددهم وعتادهم من الناحية العسكرية الجانب الضعيف في هذه المعركة، غير أنّ المسلمين وبسبب الاعتماد المطلق على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والعزم على إعلاء كلمة التوحيد، صغر كل ذلك في عيونهم، فكان النصر حليفهم.