إنّ المهدي عليه السلام كان لا يظهر إلاّ للمقربين، وقد غاب عن أنظار الناس غيبتين ,الغيبة الصغرى وامتدت تسعاً وستين سنة، كان يتّصل خلافها بوكلائه الخاصين الأمناء، وكانوا هم واسطة الاتصال بينه وبين الناس، يتلقون تعليماته وإرشاداته بواسطة الرسائل التي كانوا يحملونها إليه من كافة الأقطار، ويأخذون منه أجوبتها لأصحابها. كما كانوا يقومون بجباية الأموال الشرعيّة والتصرف بها في وجوهها حسبما تقضي المصلحة.
فـ كان من وكلاءه في تلك الفترة:
عثمان بن سعيد، وابنه محمد بن عثمان، والحسين بن روح، وعلي بن محمد، وكانوا يدعون بالسفراء. وبعد وفاة هذا الأخير انقطع اتصال الإمام بالناس تماماً، وبدأت غيبته الكبرى عليه السلام، وهي ممتدة إلى يومنا هذا وستستمر حتى يأذن الله له بالظهور، عجل الله فرجه الشريف.
هدفت الغيبة الصغرى لتهيئة أذهان الناس لمفهوم الغيبة الكبرى، وتعويدهم تدريجاً على احتجاب الإمام عنهم، كي لا يفاجأوا عند ما يحتجب في غيبته الكبرى، وقد سبقه إلى ذلك أبوه العسكري وجدّه الهادي عليهما السلام، فقد كانا يحتجبان كثيراً عن أعين الناس، في خطوةٍ تعتبر تمهيداً لغياب المهدي عليه السلام واحتجابه.
وكذلك فإنّ الاحتجاب يعود الناس على الاتصال بالسفراء وقبول رعايتهم لشؤونهم، والتوسط بينهم وبين الإمام (ع) في فترة غيبته الصغرى. وقد شغل السفير الأول منها حوالي خمس سنوات، والسفير الثاني حوالي الأربعين عاماً، والسفير الثالث واحداً وعشرين عاماً، والرابع بقي في السفارة ثلاث سنوات. توفي بعدها، وبدأت بوفاته الغيبة الكبرى.
هذا وإنّ أسباب الغيبة الكبرى هي من الأمور الغيبة، وفي روايةٍ عن الإمام الصادق عليه السلام، حين سئل عن ذلك قال:
“إنّ هذا الأمر لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر إلاّ بعد أن افترق عن موسى (ع)، وإنّ هذا أمر من أمر الله، وسر من أسراره، وغيب من غيبه”.
وعن الإمام الحسن عليه السلام، أنّه قال لجماعة لاموه على تسليم السلطة لمعاوية بن أبي سفيان:
«ما منّا أحد إلاّ ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه، إلاّ القائم . . فإنّ الله يخفي ولادته، ويغيّب شخصه، لئلاّ تكون في عنقه بيعة، وهو التاسع من ولد أخي الحسين، يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته، في صورة شاب دون الأربعين، والله على كل شيء قدير».
نعم، الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيءٍ، ويحدّثنا القرآن الكريم عن كثير من المعمّرين، فهذا النبي نوح عليه السلام، قد عمر أكثر من ألف سنة، كما أخبرنا ببقاء عيسى عليه السلام.
والتاريخ أيضاً يحدثنا عن كثيرين: لقمان بن عاد عاش خمسمئة سنة، وقيس بن ساعدة عاش سبعمئة سنة، وعمر بن ربيعة عاش أربعمئة سنة وغيرهم كثير.
ومن الطبيعي أن ينتقل تفكيرنا إلى من يرعى شؤون المسلمين في هذه الفترة – فترة الغيبة الكبرى – ومن يتولى أمورهم، لأنّ ولاية أمر المسلمين مهمة ذات شأن عظيم، وهي تستمد شرعيتها من الآية الكريمة : “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.
وفي غيبته عليه السلام، وإلى أن يأذن الله له بالفرج، على المسلمين أن يرجعوا في أمور دينهم ودنياهم إلى الفقيه العادل الذي تحدد الرواية القدسية أوصافه: “وأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه.”