أولاً: إِنَّ أعظم فضل للتوبة أنّها سبب لمحبة الّربِّ للعبد التائب. وفرقٌ بين أنْ نقول: (إنَّها سببٌ لمحبة الرب للعبد) و (إِنَّها سبب لمحبة العبد للرب)، فمن أنا ليحبّني الملك الجبار؟!
روى الكليني بإسناده إِلَى حَمَّادِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: “مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ أَرْصَدَ لِمُحَارَبَتِي وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ”8.
ماذا لو أحبّك الله؟!
فلنستمع إِلَى صوت الحقّ والحقيقة من خلال ما روي: “إذا أحبَّ اللهُ مؤمناً قال لجبرائيل: إنِّي أحببتُ فلاناً فأحبّه في حبّه ثمّ ينادي في السماء إِنَّ اللهَ يحبُّ فلاناً فأحبّوه، ثمّ يوضع له قبول في أهل الأرض”9.
بعض النّاس في هذه الحياة الدُّنيا يسعد لو كان محبوباً من قِبَلِ زعيمٍ أو مسؤول، فماذا ترى المؤمن يعمل لو كان محبوباً من قِبَل ربّ الأرض والسماء، فيا لها من سعادةٍ ما بعدها سعادة…
ثانياً: أنّها سببٌ لفرح الربّ بالعبد، وإِنَّه فرحٌ لا يلازم التشبيه ولا التجسيم ولا التمثيل…فعن عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: “إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا فَالله أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا”10.
ما أروع هذا التشبيه! تصوّروا لو أَنَّ رجلاً يركب دابةً، قد أودعها من صنوف الطعام والشراب والمؤونة التي يحتاج إليها في طريقه الطويل الموحش، وعندما نزل ليستريح في تلك الأرض القاحلة فقد الدابة وما عليها من زادٍ ومؤونة. وبعد بحث طويل قد أضناه واتبعه، استسلم لقدره ظمآنَ جائعاً، وعندما وصل للرمق الأخير، فإذا به يرى من بعيد تلك الدابة تعود إليه, لتعطيه الحياة ثانيةً. لا شكّ أَنَّ هذا التشبيه بأمرٍ حسّيٍّ يوصل إِلَى أذهاننا ما قصده الإِمام عليه السلام من بيان الفرح والسرور الرباني عند توبة عبده وإيابه إليه.
ثالثاً: أنّها سبب لنور القلب ومحو أثر الذنب، يا له من فضل!! التوبة سبب لنور القلب ومحو أثر الذنب، فلينتبه كلّ مؤمن وكل مؤمنة، فإنّه لا يستغنى عن هذا الموضوع عالم أو حاكم رجل أو امرأة شاب أو شابة، فكلّنا بحاجةٍ إلى التوبة وخصوصاً التوبة النصوح.
إنّ صدق التائب مع الله في توبته يطهّره من كلّ ذنبٍ مهما كَبُر أو صَغُر، فقد روى الديلمي في إرشاد القلوب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،أنّه قال: “إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ كَانَ نُقْطَةً سَوْدَاءَ عَلَى قَلْبِهِ فَإِنْ هُوَ تَابَ وَأَقْلَعَ وَاسْتَغْفَرَ صَفَا قَلْبُهُ مِنْهَا وَإِنْ هُوَ لَمْ يَتُبْ وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ كَانَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ وَالسَّوَادُ عَلَى السَّوَادِ حَتَّى يَغْمُرَ الْقَلْبَ فَيَمُوتُ بِكَثْرَةِ غِطَاءِ الذُّنُوبِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾“11.
فمثل الذُّنوب كمثل سحابةٍ كثيفةٍ مظلمةٍ، تحجب بمرورها ضوء القمر عن الأرض، فإذا انقشعت عاد النّور ساطعاً. فالذنوب كالسحابة، والاستغفار يمثّل حالة انقشاعها.
التوبة واجبة على الجميع:
إذا أقدم الإنسان على المعصية، وكان بالغاً عاقلاً عالماً بحرمة ما ارتكبه غير مضطّر إليها ولا مجبر عليها، يعتبر حينئذٍ عاصياً وتصبح التوبة واجبة عليه. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “التوبة حبل الله ومدد عنايته، ولا بد للعبد من مداومة التوبة على كل حال، وكل فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السر، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الأصفياء من التنفيس، وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله تعالى، وتوبة العام من الذنوب، ولكل واحد منهم معرفة وعلم في أصل توبته ومنتهى أمره وذلك يطول شرحه ها هنا..”12.
أدلة وجوب التوبة:
وهو المستفاد من النصوص الشرعية، فقد جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على وجوب التوبة على المذنبين، فقد تظاهرت وتضافرت أدلّة القرآن الكريم والسنة الشريفة على ضرورة التوبة لكلّ مكلّف لم يعصمه الله من الخطأ, لأنَّ المؤمن لا يخلو من معصية ظاهرة أو باطنة. ومن أجل ذلك وجب عليه أن يجدّد التوبة والأوبة إلى الله بعدد أنفاس حياته حتى يلقى الله عز وجل وهو على توبة ، قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾13.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾14.
فيظهر من هاتين الآيتين توجيه الخطاب إلى المذنبين من المؤمنين. أما المجرمون ونحوهم فإن الله سبحانه كثيراً ما كان يحذرهم في آياته عذاباً أليماً وينذرهم عاقبة أعمالهم السيئة، ثم يدعوهم إلى التوبة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾15.
ومما يدلّ على الوجوب أيضاً قوله جلّ وعلا: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾16.
فالأمر واضح الظهور في الوجوب، وقد ربط الله تعالى الفلاح بالتوبة وفي آيةٍ أخرى يقول جل وعلا: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾17.
وفي مجمع البيان أَنَّه قد صحّ الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان، قال: “كنت رجلاً ذرب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إنّي لأخشى أن يُدخلني لساني النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرة”18. فانظر إِلَى نبيّنا وحبيبنا وهو المعصوم يستغفر الله في اليوم مائة مرّة.
إن كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر كلّ هذه المرات وهو من هو، فحريٌّ بالمسلم الَّذِي لا ينفك عن معصيةٍ صغرت أم كبرت، أنْ يحتاج إلى التوبة بعدد أنفاس حياته في هذه الدنيا.
يقول الشاعر:
دَعْ عَنْكَ مَا قَدْ فَاتَ فِي زَمَنِ الصِّبا**وَاذْكُرْ ذُنُوبَكَ وَابْكِها يَا مُذْنِبُ
لَمْ يَنْسَهَا الملكَانِ حِينَ نَسِيتَها **بَلْ أَثْبَتاها وَأَنْتَ لَاهٍ تَلْعَبُ
وَالرُّوحُ مِنْكَ وَدِيعَةٌ أُودِعْتَها**سَتَرُدُّهَا بِالرّغْمِ مِنْكَ وَتُسْلَبُ
وَغُرُورُ دُنْيَاكَ التي تَسْعَى لَهَا ** دَارٌ حَقِيقَتُها مَتَاعٌ يَذْهَبُ
الْلَّيْلُ فَاعْلَمْ والنَّهَارُ كِلَاهُما **أَنْفَاسُنَا فِيهِما تُعَدُّ وَتُحْسَبُ
قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾19.
وفي الخبر: “إِنَّ الله تَعَالَى أَنْزَلَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْمُنْزَلَةِ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ وَأَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي فَمَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَمَنْ أَتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ أَتَانِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً أَتَيْتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئاً”20.
فيا أيها المؤمن! هيّا إلى هذا الفضل العظيم، فوالله لو عرفت فضل التوبة ما تركتها طرفة عين، فكيف بالتوبة النصوح؟!
قال أمير المؤمنين عليه السلام: “مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعاً لَمْ يُحْرَمْ أَرْبَعاً مَنْ أُعْطِيَ الدُّعَاءَ لَمْ يُحْرَمِ الْإِجَابَةَ وَمَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ الْقَبُولَ وَمَنْ أُعْطِيَ الِاسْتِغْفَارَ لَمْ يُحْرَمِ الْمَغْفِرَةَ وَمَنْ أُعْطِيَ الشُّكْرَ لَمْ يُحْرَمِ الزِّيَادَةَ”21.