قصة “فتح مكّة” من قضايا التاريخ الإسلامي الجديرة بالمطالعة والتأمل، لما تنطوي عليه هذه الحادثة من دروس وعبر، ولكونها تعكس – بصدق وجلاء – أهداف رسول الإسلام صلّى اللّه عليه وآله المقدّسة، كما تكشفُ عن أخلاقه العالية، وسيرته الحسنة، واُسلوبه الانساني مع الصديق، والعدوّ.
ففي هذا الفصل من التاريخ يتجلّى ما كان يتحلى به خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه وآله من صدق ووفاء، كما يتبيّن صدقُ أصحابه، ووفاؤُهم، واحترامُهم لكلّ ما تعهدوا، والتزموا به للخصم في معاهدة “صلح الحديبية”، بينما يتضح من جانب آخر نفاق المشركين من قريش، وخيانتهم في تنفيذ بنود اتفاقية الصلح، وبالتالي نقضُهم للعهد وبالتالي عدم احترامهم لأيّ شيء من الالتزامات!!.
إن دراسة هذا الفصل تثبتُ لنا حنكة النبي، وحُسن تدبيره، وسياسته الحكيمة في فتح أصعب وآخر قلعة من قلاع العدوّ الكافر، المتصلب في شركه، وكفره، والمتمادي في عناده وتعسّفه، وكأنّ هذا الرجل الالهي قد أمضى شطراً من حياته في إحدى المعاهد العسكرية العليا، فهو يخطط أفضل من أي قائد محنَّك قدير، للفتح، ويكون تخطيطه من الدقة والمتانة، والعمق والحكمة، بحيث يصيب المسلمون فتحاً عظيماً بأقل قدر من المتاعب والمشاكل.
وبالتالي يتجلى في هذا القسم من التاريخ الإسلامي الوجهُ الإنسانيّ الرحيم الذي كان يتسمُ به رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي كان يحرصُ على دماء أعداء الرسالة الألداء، وأموالهم، ويسعى إلى حفظها وصيانتها، كما لو كانوا أصدقاءً لا أعداءً.
فهو يعفو بمروءة كبيرة، وبُعد مدى واسع، ورؤية مستقبليّة عميقة عن قريش، ويغفر لهم جرائمهم وأذاهم ويُصدرُ عفواً عامّاً لم يعرف له تاريخ الفاتحين نظيراً في أسبابه، وعلله، وفي ظروفه وملابساته. وإليك تفاصيل هذه الحادثة الكبرى من بدايتها إلى نهايتها.
تفاصيلُ فتح مكَّة:
لقد قرأنا في ما مضى أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عقدَ في السنة السادسة معاهدة صُلح مع قريش، نصّت المادةُ الثالثة منها على: أنَّ لِكل من قريش والمسلمين أن يتحالفوا مع من شاؤوا من القبائل، فتحالفت “خُزاعة” مع المسلمين، وتعهّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لخزاعة في هذا التحالف بان يدافع عن أرضهم وأموالهم وأنفسهم كلما تعرّضوا لخطر، وطلبوا ذلك. وتحالفت قبيلة “بني كنانة” – وكانوا من أعداء خزاعة التقليديين – مع قريش.
ولقد تم كلُ هذا في ضوء عقد معاهدة صلح مدتُها عشرُ سنوات تعهّد فيها الطرفان بالحفاظ على الأمن الاجتماعي، والسلام الشامل في كافة أرجاء الجزيرة العربية.
ولقد تعهّد الطرفان – في هذه المعاهدة – بأن لا يقوم أيُ واحد منهما بعمليات عسكرية وتحركات عدائية، لا ضدّ الآخر، و لا ضدّ حليف الطرف الآخر، كما لا يحرّك حليفه ضد حليف الطرف الآخر.
ولقد انقَضت سنتان من تاريخ التوقيع على هذه المعاهدة، وعاش الجانبان في هذه الفترة في سلام ورفاه، وأمن وإستقرار إلى درجة أنَّ المسلمين استطاعوا – بعد مضيّ سنة واحدة من التوقيع على تلك المعاهدة، أن يزوروا – بكامل حريتهم – بيت اللّه الحرام، في مكة المكرمة، ويؤدوا مناسك العمرة أمام عُيون الآلاف من أعدائهم الوثنيين وهي العمرة التي سميَت بعدئذ بعمرة القضاء كما عرفت.
ولقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في شهر جمادى الاُولى من السنة الثامنة للهجرة كتيبة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة ثلاثة فرسان من أركان جيشه، إلى تخوم الشام وحدودها، لمعاقبة وتأديب المتمردين والجناة من ولاة الروم وعُمّالهم فيها، وبالضبط اولئك الذين قتلوا دعاة الاسلام – الذين ابتعثهم صلّى اللّه عليه وآله للدعوة والتبليغ – من دون ذنب أو جرم.
والجيشُ الاسلامي وإن استطاع أن ينجو بنفسه من هذه المعركة، ويخرج منها بسلام، من دون أن تكلفه تلك المواجهةُ خسائر كبرى في الأرواح سوى ثلاثة هم قادة الجيش – على ما مر في قصة غزوة مؤتة – إلا أنه ما عاد بانتصار باهر كان يأمله جنودُ الإسلام المجاهدون، بل كانت العملية في هذه المعركة أشبه ما تكون بعميلة الكرّ والفرّ.
وقد أوجب انتشار هذا النبأ جرأة سادة قريش وسراتها، فقد تصوروا أن المسلمين تضاءلت فيهم (أو انعدمت) روحُ الفروسية والإقدام، وروح الشجاعة والبسالة.
من هنا قرّرت قريش أن تخلّ بالأمن والهدوء اللَّذين استتبّا بعد إتفاقية الحديبية، فبادرت – أوّلاً – إلى توزيع الاسلحة على قبيلة “بني بكر” من كنانة، وإلى تحريضهم على أن يبيّتوا “خزاعة” المتحالفين مع المسلمين، فيغيروا عليهم ليلاً، ويقتلوا فريقاً، ويأسروا آخرين!!
بل لم تكتف قريش بهذا، إنما اشترك جماعة من رجالها في هذا العمل الغادر بصورة مباشرة، وبذلك نقضوا عهدهم الذي أعطوه في الحديبية، وأخلّوا عملياً بالأمن والسلام، وأحلُّوا الفوضى والقتال، مكان الاستقرار والهدوء اللذين سادا الجزيرة خلال عامين في أعقاب عقد معاهدة الحديبية!.
أجل، لقد حملت “بنو بكر” ومن ساعدهم من رجال قريش بتحريك من زعامة مكة على “خزاعة” ليلاً، وكان بعضهم نياماً، والبعض الآخر يتهجد ويعبد اللّه ليلاً فقتلوا من خزاعة جماعة، وأسروا آخرين، وغادر – منهم – فريق منازلهم تحت جنح الظلام، ولجأوا إلى مكة التي كانت للعرب بومئذ منطقة أمن لا يجيزون الاعتداء فيها على لاجئ اليها، ودخل الذين لجأوا إلى الحرم دار “بُديل بن ورقاء” وشكوا إليه ما حلَّ بهم على أيدي رجال قريش، وحلفائهم من بني كنانة ليلاً، من قتل وأسر وتشريد!!.
كما وَعَدَ المظلومون من خزاعة إبلاغ مظلمتهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فارسلوا رئيسهم: “عمرو بن سالم” فقدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فوقف عليه وهوَ صلّى اللّه عليه وآله جالس في المسجد بين ظهرانيي الناس، وأخبره بما لحق بحلفائه من خزاعة علي أيدى بني بكر من كنانة بتحريك وتحريض من قريش، وأنشد أبياتاً يستغيث فيها برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إذ قال:
ياربّ إني ناشد محمَّد حِلف أبينا وأبيه الاتلدا
فانُصر هَداكَ اللّه نصراً أعتد وادعُ عبادَ اللّه يأتوا مَددا
فيهم رسولُ اللّه قد تجرد إن سيم خَسفاً وجهُهُ تربّدا
في فيلق كالبحر يجري مزبد إنّ قريشاً اخلفوك الموعدا
وَنَقَضُوا ميثاقَك المؤكَّد وجعلوا لي في كداء رصدا
هم بيتونا بالوتير هُجّد وقتلونا ركّعاً وسُجدا
وقد كان “ابن سالم” يعيد البيت الأخير ويكرّرُه إثارة لمشاعر المسلمين، ويكّرر عبارة: قتلنا وقد أسلمنا. فانزعج رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله من قريش لغدرها ونقضها للعهد، ووعد ” خزاعة” بالنصرة، وقال: “نُصِرتَ يا عمرو بن سالم”.
وقد أفاض هذا الوعد القاطع والقويُ حالة من الطمأنينة على قلب مبعوث خزاعة: “عمرو بن سالم” اذ قد تيقّن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سينتقم لخزاعة ممن غَدَروا بها وبيتوها، وفتكوا بأبنائها، وبخاصة من قريش التي حرّضت بني بكر على خزاعة، واشعلت شرارة هذه الفتنة، وبالتالي كانت السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة النكراء، ولكن ابن سالم ما كان يظن أن هذه المسألة ستنتهي بفتح مكة، وتقويض دعائم الحكومة الوثنية الجاهلية، والقضاء عليها إلى الأبد!!
ولم يلبث أن قدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله “بُديل بن ورقاء” في جماعة من “خزاعة”، وأخبروه بما فعلته قريش وبنو بكر من قتل فتيان خزاعة، ثم عادوا قافلين إلى مكة.
قريشُ توجس خيفة من ردّ النبيّ:
ندمت قريش بشدّة على ما صنعت من تأليب بني بكر على خزاعة ومساعدتهم العملية في العدوان على الأخيرة، وأدركت للتوّ، بأنَّ هذا الذي صنعته هو نقض للمُدّة والعهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لن يدعَ هذه الجريمة النكراء تمرّ دون ردّ قاطع وحاسم، ولهذا بادرت إلى إيفاد زعيمها “أبي سفيان بن حرب بن اُمية” إلى المدينة المنورة لتطييب خاطر النبي صلّى اللّه عليه وآله، وتسكين غضبه وتاكيد إحترام قريش لمعاهدة الصلح.
فتوجّه أبو سفيان إلي المدينة، والتقى في “عسفان” بديل بن ورقاء الخزاعيّ وهو عائد من المدينة، فسأله: هل كان في المدينة؟ وهل أخبر محمَّداً بما أصاب خزاعة؟
فقال بُدَيل: لا، ولكني سرتُ في بلاد كعب وخزاعة في قتيل كان بينهم، فأصلحتُ بينهم.
قال هذا، وواصل سيره باتجاه مكة.
ولكن أبا سفيان عمد – لمعرفة ما إذا كان بُدَيل عائداً من المدينة أو لا – إلى أبعاد لإبل “بُديل” وجماعته، ففتّها فوجد فيها نوى من تمر المدينة فأيقن بأن القوم كانوا في المدينة وأنهم جاؤوا محمَّداً، وأخبروه بما جرى.
قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته “ام حبيبة” زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله طوته اُم حبيبة عنه، فقال: يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنّي؟!
قالت: بل هو فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأنت رجل مشرك نجس، ولم اُحبُّ أن تجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
وفي إمتاع الأسماع أن أبا سفيان لما دخل على ابنته اُم حبيبة ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فطوتهُ دونه وقالت: أنت امرُؤُ نجس مشرك!
فقال: يا بنيةٌ لقد أصابك بعدي شرّ.
قالت: هداني اللّه للاسلام، وانت يا أبتي سيد قريش وكبيرُها، كيف يسقطُ عنك دخولُك في الاسلام وانت تعبد حجراً لا يسمعُ ولا يبصرُ!!
قال: ياعجباه! وهذا منك أيضاً! أأتركُ ما كان يعبد آبائي، واتّبعُ دين محمَّد!؟
أجل هذا هو منطق ابنة رجل حاك مؤامرات عديدة وقاد جيوشاً ضد الاسلام طيلة عشرين عاماً تقريباً، وكانت تربطه باُم حبيبة رابطة الاُبوة والبنوة الوثيقة، ولكن حيث أن تلك المرأة ترعرعت في مهد الاسلام، ونشأت في مدرسة التوحيد حصل لها مشاعر دينية قوية جداً حتى أنها رجحّت المشاعر الدينية على المشاعر العاطفية الشخصية مقاومة في هذا السبيل رغباتها الذاتية، وميولها الشخصية.
لقد انزعج أبو سفيان من سلوك ابنته التي كان يتصور أنها ملجأوها وملاذُها الوحيد في المدينة، فخرج من منزلها فوراً، حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فكلّمه حول تجديد العهد، واستمراره، فلم يرد عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كناية عن عدم اعتنائه به.
فذهب إلى بعض أصحابه صلّى اللّه عليه وآله يطلب منهم ان يشفعوا له عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأن يُقنعوه بتجديد ميثاق الصلح، ولكن دون جدوى.
وأخيراً دخل علي “علي بن أبي طالب” وعنده فاطمة الزهراء عليها السَّلام والحسنُ والحسينُ وهما آنذاك غلامان يدبّان بين أيديهما فقال: يا علي، إنك أمسُّ القوم فيَّ رَحماً، وإني جئتُ في حاجة فلا أرجعَنَّ كما جئتُ خائباً فاشفع لي إلى رسول اللّه.
فقال علّي عليه السَّلام: ويحكَ يا أبا سفيان، واللّه لقد عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على أمر ما نستطيع أن نكلّمَه فيه.
فالتفت إلى فاطمة – وهو يحاول إثارتها عاطفيّاً – فقال: يا ابنة محمَّد هل لك أن تأمري بُنَيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ ولما كانت فاطمة (عليها السَّلام) تعرف بنوايا أبي سفيان الشريرة لذلك قالت: ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إنّهما صبيان وليس مثلهما يجير.
فقال أبو سفيان: يا أبا الحسن إني أرى الاُمور قد اشتدت عليَّ، فانصحني.
فقال علي عليه السَّلام: ما أجد لك شيئاً أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس (أي تعطي الأمان للمسلمين) ثم إلحق بأرضك.
فقال أبو سفيان: أوَترى ذلك مُغنياً عنّي شيئاً؟ قال: لا واللّه، ما أظنُّه، ولكني لا أجد لك غير هذا.
فقام أبو سفيان في المسجد، وكان يثق بصدق عليّ في نصيحته، فقال: أيها الناس، إني قد أجرتُ بين الناس. ثم ركب بعيره، وانطلق راجعاً إلى مكّة، وأخبر سادة قريش بما صنع، وذكر نصيحة “عليّ” إياه، فقال: إن عليّاً نصحني أن اُجير الناس، فناديت بالجوار.
فقالوا: فهل أجاز ذلك محمَّد؟
قال: لا.
قالوا: ويلكَ واللّه ما زاد الرجلُ (ويقصدون عليّاً) على أن لعبَ بك، فما يغني عنك ما قلت، لأن النبي لم يجز أمانه، وما لا يجيزه الطرفان لا قيمة له في ميزان العهود. ثم إنّ سادة قريش عقدوا مجلساً من فورهم للتشاور في ما يطفئ غضب المسلمين، ويثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن عزمه3.
جاسوس يُكتشَف!
إنّ تاريخ رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله يكشف عن انه صلّى اللّه عليه وآله كان يسعى دائماً إلى أن يُقنِع العدوّ بالحق، ويجعله يستسلم لمنطق الدين، ولم يكن يهدف قط الانتقام من العدوّ وإبادته.
ففي الكثير من الغزوات والمعارك التي شارك فيها صلّى اللّه عليه وآله بنفسه أو السرايا التي بعثها كان الهدف الأساسي هو القضاء على مؤامرة العدو، وإفشالها، وتشتيت شمله، وتفريق اجتماعه قبل ان يقوم بعمل يضر بالإسلام والمسلمين، فقد كان النبي صلّى اللّه عليه وآله يعرف جيداً أنه له اُزيلت الموانع ورُفعت عن طريق الدعوة الاسلامية لترك منطقُ الدين الحنيف أثره في المجتمع الحرّ، وكان يعلم بأن الذين يعقدون الاجتماعات، ويقيمون التحالفات النظامية ليحولوا دون تقدم الاسلام، وانتشاره، لو جُرِّدوا من أسلحتهم، واُنهيت حالة الحرب بينهم وبين الاسلام، وتركوا فكرة التغلب على الاسلام عن طريق القوة العسكرية، وسمعوا منطق الاسلام في جوّ بعيد عن صخب القتال، لانجذبوا إلى عقيدة التوحيد بدافع الفطرة وهدايتها، ولاستجابوا لنداء الضمير، وصاروا من أنصار الاسلام، ومؤيديه المخلصين الأوفياء.
ولهذا السبب كانت الجماعات والاقوام التي يتغلب عليهم جنود الاسلام، ثم يتسنى لهم مناخ التفكير الحرّ في العقيدة والتعاليم الاسلامية السامية في جوّ بعيد عن الضوضاء والصخب، تنجذب إلى الاسلام، وترغب فيه، وتعتنق بل تشمرّ عن ساعد الجدّ لنشر العقيدة الاسلامية التوحيدية.
وقد تجلَّت هذه الحقيقة في موضوعنا الراهن وهو فتح مكة بصورة أكمل وأقوى، فقد كان رسولُ اللّه صلّى اللّه عيه وآله يدرك جيّداً لو أنّه فُتِحت مكة، وجُرّد العدوُّ من السلاح ووفرت أجواء حرة آمنة بعيدة عن الكبت والاضطهاد فانه لم يلبث أن يصبح هذا الفريق المعادي والمناهض للاسلام بشدة، من أَنصار هذا الدين، ومِنَ المجاهدين الصادقين، الساعين في نشره. ولهذا يحبُ التغلب على هذا العدوّ، وكسر شوكته، ولكن يجب عدم إفنائه وإبادته، بل ينبغي تجنب إراقة الدماء، وإزهاق الأرواح ما أمكن.
ولأجل الوصول إلى هذه الغاية المقدسة (الغلبة على العدوّ من دون إراقة الدماء) استخدم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله اُسلوب مباغتة العدوّ.
فقبَل أن يفكّر العدوّ في الدفاع عن نفسه، ويجمع قواه، ويستعدَّ للمواجهة، كان النبي صلّى اللّه عليه وآله يحاصر العدوّ في أرضه، ويجرّده من سلاحه، ويجهض محاولته، ومؤامرته. على أنَّ مبدأ “مباغتة العدو” إنما يمكن الاستفادة منه إذا بقيت جميع الاسرار العسكرية للجانب المباغت طي الكتمان، وتمت الترتيبات اللازمة في سرية كاملة، بحيث لم يعرف بها العدوُّ، بل لا يعرف العدو أساساً هل ينوي النبي صلّى اللّه عليه وآله الهجوم عليه، أو لا، وعلى فرض أنه ينوي ذلك لا يخبر أحداً شيئاً عن موعد تحرك الجيش الاسلامي، ووجهته، إذ في غير هذه الصورة لايمكن الاستفادة من مبدأ “مباغتة العدو”.
ولقد أعلن رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن التعبئة العامة لفتح مكة، وتحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية وازالة حكومة قريش الظالمة التي كانت تمثِّلُ أقوى مانع في طريق الدعوة الاسلامية، وانتشارها وتوسعها، وقد طلب من اللّه سبحانه في دعائه أن يعمّي على عيون قريش وجواسيسهم فلا يعرفوا بشيء عن حركة المسلمين ومقصدهم اذ قال: “اللَّهم خُذ العيون والأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها”.
أو قال: “اللَّهم خُذ عَلى قريش أبصارهم، فلا يَروني إلا بغتة، ولا يسمَعون بي إلا فجأة”، فاجتمع في مطلع شهر رمضان ناس كثيرون من مختلف المناطق خارج المدينة، وداخلها. ويذكر المؤرخون جدولاً تفصيلياً بالطوائف والقبائل التي شاركت في هذا الفتح العظيم، واليك ما ذكروه:
المهاجرون: سبعمائة مع ثلاثمائة من الخيل وثلاثة ألوية.
الأنصار: أربعة آلاف مع سبعمائة من الخيل، وألوية كثيرة.
قبيلة مزينة: ألف مع مائة فرس، ومائة درع، ولواءان.
قبيلة جهينة: ثمانمائة مع خمسين فرساً، وأربعة ألوية.
قبيلة بني كعب: خمسمائة مع ثلاثة ألوية.
وكان بقية الجيش من قبائل غفار، واشجع، وبني سليم.
ويقول ابن هشام: كان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني سليم سبع مائة، ويقول بعضهم: ألف، ومن بني غفار أربع مائة، ومن أسلم أربع مائة، ومن مزينة ألف وثلاثة مائة نفر، وسائرهم من قريش، والأنصار وحلفاؤهم وطوائف العرب من تميم، وقيس وأسد.
ولتحقيق مبدأ المباغتة والكتمان وضِعَت جميع الطرق المؤدية إلى مكة تحت المراقبة الشديدة من قِبَل عناصر الحكومة الاسلامية، كما روقب بشدة تردّد المارة والمسافرين بواسطة الحرس.
وبينما كان جيش الاسلام يتهيأ للتحرك باتجاه مكة، نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبره بأنَّ أحدَ البسطاء من المسلمين أقدم على إرسال كتاب إلى قريش، يخبرهم فيه بتوجّه النبي وأصحابه إلى مكة، وأنّه أعطى ذلك الكتاب إلى امرأة تدعى “سارة” – وكانت مغنية من مغنيّات مكة – لتوصله إلى مكة لقاء مال تقبضه.
ولقد كانت “سارة” – كما أسلفنا – مغنية بمكة، تغنّي لأهل مكة، وربما شاركت في مجالس العزاء في قريش أيضاً، وقد تعطّل عملُها بعد معركة “بدر”، ومقتل جماعة من رجال قريش، ودخول الحزن في كل بيوت مكة، فلم تعد تستطيع أن تغنّي وتطرب، من ناحية، ومن ناحية اُخرى كان أبو سفيان قد أمر الناس بأن لا يبكوا، ولا يقيموا المآتم والمناحات على قتلى بدر حتى لا يذهب غيظهم على “محمَّد” صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه الذين قَتلوا رجالاً من قريش في بدر.
من هنا تركت “سارة” مكة بعد عامين وقدمت المدينة، وعندما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمجيئها إلى المدينة سألها: هل أسلمت؟ فقالت: لا، فقال لها رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله: ولما أتيت إلى المدينة؟ فقالت: إنّي مولاتكم، وقد أصابني جهد، وأتيتكم أتعرّضُ لمعروفكم. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فكُسيَت وَحُمِلَت وَجُهّزَت.
ومع أن هذه المرأة قد شملها الاسلام بلطفه ورحمته ولكنها خانت النبي والمسلمين عند ما تطوّعت للقيام بعملية جاسوسية ضد الإسلام والمسلمين بأخذ كتاب “حاطب بن بلتعة” واخفائه في شعر رأسها لتبلغه الى قريش لقاء عشرة دراهم، مفشية بذلك سِرّاً للمسلمين، تضيع – على أثره – جهود النبي صلّى اللّه عليه وآله وتفشل خطته!!
ولما عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بهذا الأمر إثر خبر من السماء بعث ثلاثة رجال من فرسانه الاشاوش هم علي والمقداد والزبير، ليدركوا المرأة الخائنة، على طريق مكة ويأخذوا منها ذلك الكتاب الذي يحذّر قريشاً ممّا أجمع رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليه.
فخرج الرجال الثلاثة في طلبها مجدّين حتى أدركوها في منطقة تدعى “روضة الخاخ” فاستنزلوها، وفتشوا عن الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئاً، فسألوها عنه فانكرت فقال لها علي عليه السَّلام:
“إني أحلِفُ باللّه ما كِذبَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولا كُذِبنا، ولتخُرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك”. ولما رأت تلك المرأة هذا الجِدّ من علي عليه السَّلام وكانت تعرف أن عليّاً لا يتركها حتى ينفّذ أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قالت: إعرض، فأعرضَ عليّ، فحلّت ضفائر شعرها فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فانزعج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لفعل “حاطب” وكان من المسلمين السابقين، فدعاه من فوره وقال له عاتباً ومستفهماً: يا حاطب ما حملك على هذا؟
فحلف حاطب باللّه وبرسوله أنه لم يقصد شراً، وقال: يا رسول الله، أما واللّه إني لمؤمن باللّه ورسوله، ما غيَّرتُ ولا بَدّلتُ، ولكنّي كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه!!
ويستفاد من اعتذار حاطب هذا أن أسياد قريش كانوا يضغطون على من تخلّف في مكة من أقارب المهاجرين وعوائلهم، ويؤذونهم، ولايتركون أذاهم إلا إذا حصلوا منهم على أسرار المسلمين بالمدينة.
وهذا الاعتذار وان كان غير وجيه، لأن ذلك لا يبرر إفشاء أسرار المسلمين لأعدائهم الحاقدين، غير أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أصفح عنه، وخلى سبيله لمصالح معينة منها: سابقة “حاطب” في الاسلام.
إلا أنّ “عمر بن الخطاب” طلب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يضرب عنقه، فقال له النبي صلّى اللّه عليه وآله: “وما يُدريك يا عُمرَ لعلَّ اللّه اطّلعَ يومَ بَدر على أصحاب بَدر فقالَ: اعملوا ما شئتُم فَقد غَفرتُ لكم”، ولكي لا يتكرر مثل هذا العمل الخطر والأثيم أنزل اللّه سبحانه قرآناً بهذا الشأن في عدة آيات إذ يقول:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
﴿يا ايّها الذين ءامنُوا لا تتَخِذُوا عَدِوي وعدُوّكُم أَوليَاء تلقُونَ إِليهم بِالموَدة وَقَد كَفرُوا بِمَا جَاءكُم مِنَ الحَقِّ يُخرجُونَ الرَّسُولَ وإِيّاكُم أَن تؤُمنُوا بِاللّه رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرجتم جَهاداً في سَبيلي وابتِغاء مزِضَاتِي تُسرُّون إِليهم باِلمَودَّة وأَنَا أَعلَمُ بمَا أَخفَيتُم وَمَا أَعلنتُم وَمَن يَفعَلهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَواء السَّبيلِ* إِن يَثقفُوكُم يَكُونُوا لكُم أَعداء وَيَبسطُوا إِليكُم أَيديهُم وَأَلسِنتَهُم بالسُّوء وودُّوا لَو تكفُروُنَ* لَن تنفَعكُم أَرحامُكُم ولا أَولدُكُم يَومَ القِيمةِ يفَصِلُ بينَكُم واللّه بما تعَملُون بَصير* قَد كانَت لَكُم اُسوة حسنة فِي إِبراهِيمَ والَّذينَ معهُ إِذ قالُوا لِقومهم إِنا يُرءاؤا مِنكُم ومِمَّا تَعبدُون مِن دُون اللّه كَفَرنا بِكُم وبَدا بَينَناَ وَبينكُم العَدَاوةُ والبَغضاءُ أَبدَاً حتَّى تُؤمنُوا باللّه وحدَه إِلا قَولَ إِبراهيمَ لأَبيهِ لأَستغفِرنَّ لَكَ وَمَا أَملِكُ لَكَ مِنَ اللّه مِن شَيء رَّبَّنا عَليكَ توَكلنا وإِليكَ أَنبنَا وإِليكَ المصيرُ* ربَّنا لا تجعلنا فِتنَة لِلَّذينَ كفرُوا واغفِر لَنا ربَّنا إِنَّكَ أَنتَ العَزيزُ الحكِيمُ* لَقَد كانَ لَكُم فِيهم أُسوة حسنة لِمَن كَانَ يرجُوا اللّه واليوَمَ الآخِرَ ومَن يَتولّ فإنَّ اللّه هُو الغَنِيُّ الحميدُ* عَسى اللّه أَن يَجعَلَ بَيَنكُم وَبينَ الَّذينَ عادَيتم مِنهُم مَودَّة واللّه قَدير واللّه غفُور رحيم* لا يَنهَكُم اللّه عَنِ الَّذين لَم يُقاتلوكُم في الدين وَلمَ يُخرجُوكُم مِن دياركُم أَن تَبرُّوهُم وَتُقسِطُوا إِليهم إِنَّ اللّه يُحبُّ المُقسِطينَ* إِنما يَنهكُم اللّه عَن الذين قاتلوكُم فِي الدِّين وَأَخرجوكُم مِن دياركُم وظاهرُوا على إخراجكُم أَن تَولُّوهُم ومَن يَتولهُم فاُولئك هُمُ الظالمُون﴾.
النبي يتحرك باتجاه مكة:
أخذاً بمبدأ “المباغتة” كتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله موعد الحركة، ووجهتها، فلم يكن أحد يعرف أين يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على وجه التحديد، وفي اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة أصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أوامره بالخروج، وكان قد أصدر أوامره للمسلمين كافة من قبل بالاستعداد والتهيؤ للخروج.
ثم أنه استخلف على المدينة رجلاً من بني غفار يدعى “أبا رهم” ثم استعرض جيشه خارج المدينة على عادته.
ثم لما كان صلّى اللّه عليه وآله بمكان يدعى “الكديد” طلب شيئاً من الماء أمام المسلمين، وافطر به في تلك الساعة من النهار، وأمر الجند بأن يفطروا اقتداء به هم أيضاً.
فأفطر أكثر المسلمين، وأمسك البعض ولم يفطر ظناً بأن الجهاد في حالة الصوم أفضل، واكبر أجراً، ولم يعرف هؤلاء السذّج غير المفطرين، بأن النبي صلّى اللّه عليه وآله الذي أمر بالإفطار في شهر رمضان في تلك الحال، هو نفسه الذي أمر بالصوم أيضاً.
فإذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قائد حق ودليل سعادة فإنه – في كلتا الحالتين – يريد سعادة الناس، وينشد خيرهم، فلا معنى إذن لأن يطاع في أمره، ولا يطاع في نهيه.
وهذا غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لامتناع ثلة من المسلمين عن الإفطار كما أمر وقال عنهم: “اُولئك العصاة”!!.
وأمرهم بأن يفطروا قائلاً: “إنكم مُصبحو عدوِّكم، والفطرُ أقوى لكم”.
إنَ مِثل هذا التقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتجاهل أمره ما هو في الحقيقة إلا نوع من الانحراف عن الحق، وهو يكشف عن ضعف في ايمان الجماعة العاصية، المتمردة عن أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله.
ولهذا نزل فيه قرآن يلومهم، ويوبِّخهم على عصيانهم إذ قال سبخانه: ﴿يا أيُّها الَّذين آمَنُوا لا تُقدِّمُوا بَين يَدَي اللّه وَرسَولهِ واتّقُوا اللّه إنَّ اللّه سَمِيع عليم﴾، هذا وقد كان “العباسُ بن عبد المطلب” من المسلمين الذين بَقَوا في مكة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليتجسس له الأخبار، ويطلعَه على نوايا قريش، وخططهم أوّلاً بأوّل.
وقد تظاهر العباسُ – بعد فتح خيبر – بإسلامه، ولكنه بقي محافظاً على علاقاته بسادة قريش وزعمائها، فقرّر أخيراً أن يكون آخر من يهاجر من بيوت المسلمين، فغادر مكة متوجهاً إلى المدينة، وصادف خروجُه مسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى مكة، فالتقى ببعض الطريق رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
ولقد كان بقاء العباس بن عبد المطلب في مكة بعد هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مفيداً للجانبين: (قريش والمسلمين) فلو لم يكن العباس، ونشاطاته السياسية، الذكيّة، لما تيسّر فح مكة من دون مقاومة قريش، ومن دون إراقة دماء وإزهاق نفوس.
من هنا لا يبعد أن يكون خروج العباس من مكة في تلك اللحظات والظروف الخطيرة قد كان هو الآخر بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لكي يستطيع القيام بدوره الإصلاحي، الذي سنأتي على ذكره قريباً.
العفو عند المقدرة:
لقد كانت سوابق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المشرفة، وأخلاقه الحميدة، وصدقه وأمانته، طوال حياته من الاُمور الواضحة المعلومة عند أقربائه، وأبناء عشيرته.
فقد كان الجميع يعلم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثماً، ولم يفكر في ذنب، ولم ينو الاعتداء على أحد، ولم يقُل بلسانه سوءاً ولا قبيحاً، ولا خان في امانة، ولا افشى سراً ولا تخلف عن فضيلة.
ولهذا استجاب لدعوته – في الايام الاولى من دعوته العامة – الاكثرية الساحقة من قبيلته (بني هاشم)، والتفُّوا حولَه، وتحمّلوا الدفاع عنه، ودعم مواقفه.
ولقد أشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة، واعتبرها دليلاً على طهارة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وصدقه ونزاهته، فهو يقول: مهما كان المرء متكتمّا متستراً على أعماله وأفكاره فانه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه وأقربائه، ولو كان لمحمد حالات نفسية أو أفعال سيئة لما خفيت على أقربائه، ولما كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السرعة.
نعم يُستثنى من بني هاشم عدة أشخاص أحجموا عن الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والاستجابة لدعوته، ويمكن الاشارة – في هذا المجال – بعد أبي لهب المعروف بل والمصرح بعداوته في القرآن – إلى “أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب” و”عبد اللّه بن أبي اُميّة بن المغيرة” اللذين خاصما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعارضا دعوته بشدة، ولم يكتفيا بعدم الايمان برسالته، بل منعا من انتشار الحق، وآذيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اشدّ الأذى وألّبا عليه اكثر من أي شخص آخر.
ولقد كان أبو سفيان هذا ابنَ عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخاه من الرضاعة، وكان يألف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قبل البعثة، ولكنه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرسالة، وبنى على مخالفته ومعاداته.
وأما عبد اللّه بن أبي اُميّة فهو أخو اُم سلمة ابنة عاتكة عمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وابنة عبد المطلب.
ولقد حدى انتشار الاسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرجلين إلى أن يخرجا من مكة ويلتحقا بالمسلمين.
فقد خرجا قُبيل الفتح من مكة، فلقيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه في أثناء الطريق – وعلى وجه التحديد في نقطة تدعى بثنية العقاب، والنبي قاصد مكة، فاستأذنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليدخلا عليه، وأصرّا على ذلك، فأبى النبيُ صلّى اللّه عليه وآله أن يأذن لهما.
وقد وسّطا اُم سلمة، وطلبا منها بلهجة عاطفية أن تشفع لهما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى يرضى عنهما، فكلّمته فيهما، ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أبى وقال: “لا حاجَة لي بهما، أما ابنُ عميّ فهتَك عِرضي وأما ابنُ عمّتي وصهري فهُو الذي قال بمكة ما قال”.
ولما كان “عليّ” عليه السَّلام أعرف الناس بنفسيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخلاقه، وبطريقة استعطافه، فقد كلمّه أبو سفيان في الأمر، فعلّمه علي بن أبي طالب عليه السَّلام أن يأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من قِبَل وجهه فيقول: “قالوا تاللّه لقد آثرَك اللّه علينا وإن كُنّا لخاطئين”.
فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سيجيبه بما قاله يوسف لاخوته اذ قال لهم: “قالَ لا تَثريب عَليكُم اليومَ يَغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين”. لأنه صلّى اللّه عليه وآله لا يرضى بأن يتفوق عليه أحد في حسن القول.
ففعل أبو سفيان هذا ما أشار عليه الامام علي عليه السَّلام ودخل من الطريق الذي بيّنه له، فعفا عنه رسولُ اللّه كما فعل يوسف باخوته، فأنشد أبو سفيان قصيدة أراد بها أن يُكفِّر عما سبق منه، قال فيها:
لعمرك إني يومَ أحمل راية لِتَغلِبَ خيلُ اللات خيلَ محمَّد
فكالمُدلج الحيران أظلم ليلُه فهذا أواني حين اُهدى فأَهتدي.
ويكتب “ابن هشام” في سيرته قائلاً: قال أبو سفيان ومعه ابنه، لما أعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عنه وأبى أن يأذن له: واللّه ليقبلني، أو لأخذتُ بيد إبني هذا فلأذهبنَّ في الارض حتى أهلك عطَشاً وجوعاً وأنت أحلمُ الناس مع رحمي بك”.
وقد سبق أن قالت اُمُّ سلمة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد كلّمته في أبي سفيان: بأبي أنت وَاُمّي يا رسول اللّه ألَم تقل: أنَّ الاسلام يجبُّ ما كان قبله؟ فرقَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهما، وأذن لهما، فدخلا، وقبل إسلامهما.
تكتيك رائع لجيش الإسلام:
تقع “مُرّ الظهران” على بُعد عدة كيلومترات من مكة المكرمة، وقد قاد رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله جيشه العظيم (وقوامه عشرة آلاف) حتى مشارف مكة بمهارة بالغة.
ومع أنَّ عيون قريش وجواسيسها كانت تتجسَّسُ الأخبار وكان هناك من يعمل لصالح قريش، ولكَّنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعرفوا شيئاً عن نوايا رسول اللّه صلّى اللّه عيه وآله وهدفه. ولما وَصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى مشارف مكّة عمد – لإرعاب أهل مكة حتى يتركوا مقاومة المسلمين عند دخول مكة وفتحها، ويتسنّى لهم تحطيمُ الوثنية من دون إراقة الدماء – إلى إصدار أمر لجنوده باشعال النيران فوق الجبال والتلال، وللمزيد من تخويف سكان مكة والإظهار بمظهر القوة أمر بأن يُشعِلَ كلُ واحد من الجنود النار وحده، في شريط طويل على الأَرض.
كانت قريش وحلفاؤها يغطّون في نوم عميق آنذاك من جهة، بينما كانت النيران من جهة اُخرى قد غطَت كلّ المرتفعات المشرفة على مكة فلم تستيقظ إلا على منظر أرعب قلوبهم، ولفت أنظارهم.
وفي هذه الاثناء كان بعض سادة قريش ك: “أبي سفيان بن حرب” و”حكيم بن حزام” وغيرهما قد خرجا من مكة يتجسَّسون الأخبار.
ففكَّر “العباس بن عبد المطلب” الذي لازم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله من منطقة الجحفة، فكر في نفسه بأنه إذا ما اتفق أن واجه جنودُ الاسلام مقاومة من قريش عند دخول مكة لادّى ذلك إلى ان يُقتَل جمع كبير من قريش، ولهذا فان من الأفضل أن يقوم بدور عمليٍّ لصالح الطرفين، ويقنع قريشاً بالتسليم، وعدم المقاومة.
فركب بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله البيضاء وتوَجه صوب مكة ليخبر قريشاً بمحاصرة مكة من قِبَل جنود الاسلام، ويخبرهم بكثرة عددهم، وبمبلغ شجاعتهم وإصرارهم على تحقيق أهداف النبي صلّى اللّه عليه وآله ويقنعهم بأنه لا مناص من التسليم للأمر الواقع.
فبينما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان وبُديل بن ورقاء يتحادثان في جوف الليل فيقول أبو سفيان: ما رأيتُ كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، فيقول بديل: هذه واللّه خزاعة حمشتها الحرب.
فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلُّ وأقلُّ من ان تكون هذه نيرانها وعسكرها.
فصاح العباسُ بأبي سفيان وقال: يا أبا حنظلة.
فقال أبو سفيان: يالبيك، أبو الفضل مالك؟
فقال العباس: هذا رسولُ اللّه في عشرة آلاف من المسلمين.
فارتعد أبو سفيان لما سمعه من العباس حول عظمة القوة الاسلامية، فقال وهو يرتجفُ، وتصطكُّ اسنانه من الفزع: فما الحيلة فداك أبي واُمي؟
فقال العباس: إركب في عَجُز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأستأمنهُ لك.
فركب أبو سفيان خلف العباس، ورجع صاحباه (حكيم وبديل) إلى مكة.
ولقد كان مسعى العباس – كما ترى – في مصلحة الاسلام كله، فقد أرعب شيطان قريش، وزعيمها وعقلها المدبّر أبا سفيان، وكان موفقاً في هذه الخطوة جداً بحيث لم يعد يفكر أبو سفيان إلا في التسليم، وإلقاء السلاح والكفّ عن المقاومة، بل ومَنَعَه العباسُ من العودة إلى مكة، في نفس الليلة (ليلة فتح مكة) وأخذه معه إلى معسكر المسلمين بُغية تقييده، ومنعه من العودة مكة، إذ كان من المحتمل جداً أن يقع فريسة أفكار المتطرفين في الزعامة المكية فيدبّرون معاً خطة لمواجهة جيوش الاسلام، فيقع – حينئذ – ما لا يُحمد عقباه، من سفك الدماء، وذهاب الأنفس والارواح.
العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي:
دخل العباس – وهو على بغلة بيضاء وقد اردف خلفه أبا سفيان – في معسكر المسلمين، وهو يقصد خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من خلال نيران المسلمين التي أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله بإشعالها، وكان كلّما مرَّ بنار من نيرانهم قالوا: عمُّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فلا يمنعون من مروره، حتى اذا لقيا عمر بن الخطاب في الاثناء ورأى عمر أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة، همَّ بقتله في المكان، ولكن عمّ النبي صلّى اللّه عليه وآله أجار أبا سفيان في الحال، ومنع بذلك عمر من إلحاق الأذى به، وهو في جواره.
وأخيراً وصل العباسُ برفقة أبي سفيان الى خيمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فترجّلاً، فاستأذن العباسُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله للدخول مع أبي سفيان عليه فأذن لهما، فوقعت مشادة كلامية شديدة بين العباس وعمر بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حول أبي سفيان وكان عمر يقول: أبو سفيان عدوُّ اللّه فلا بد أن يُقتَل، ولكن العباس كان يقول: يا رسول اللّه إنّي قد أجرته، فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله دابر هذه المناقشة عندما قال: “إذهب يا عَبّاس إلى رَحلك، فاذا أصبحتَ فأتِني به”.
فذهب العباسُ بأبي سفيان إلى رحله، فبات عنده ليلتَه كما أمر، فلما أصبح غدا به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
أبو سفيان بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: لما مثل أبو سفيان عند الصباح بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في خيمته قال له النبي صلّى اللّه عليه وآله: “ويحَك يا أبا سفيان، ألم يأن لكَ أن تعلم أنه لا اله إلا اللّه؟”.
فقال أبو سفيان: بأبي أنت واُمي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلَك واللّه لقد ظننتُ أن لو كان مع اللّه اله غيره، لقد أغنى عنّي شيئاً بعد.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: “ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلمَ أنّي رسول اللّه”؟
قال: بأبي أنت واُمي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك، أما واللّه فإنَّ في النفس منها حتى الآن شيئاً!!
فغضب العباس من شك أبي سفيان، ولجاجته وعناده فقال له: ويحك، أسلِم واشهد أن لا اله الا اللّه، وأن محمَّداً رسولُ اللّه قَبلَ أن يُضرَبَ عنقُك.
فشهد أبو سفيان شهادة الحق، فأسلَم ودخل في عداد المسلمين.
إن إسلام أبي سفيان الذي حصل في جوٍّ من الرعب والتهديد وإن لم يكن بالاسلام الذي كان يريده رسولُ الاسلام صلّى اللّه عليه وآله ويطلبُه دينُه الحنيفُ، ولكنَّ مصالح معيَّنة كانت توجب أن يدخل أبو سفيان في عداد المسلمين كيفما كان ليرتفع بذلك اكبر سدّ، وينزاح أكبر مانع من طريق الدعوة الاسلامية، لأنَّ رجالاً مثل “أبي سفيان” و”أبي جهل” و”عكرمة” و”صفوان بن اُمية” وغيرهم، كانوا قد أوجدوا جوّاً من الرعب والخوف في مكة استمرَّ أعواماً عديدة، فلم يكن يجرؤ أحد من المكيين في مثل هذا الجوّ المشحون بالخوف أن يفكّر في الاسلام، أو يظهر رغبته في إعتناقه، والانضواء تحت لوائه.
فإذا لم يكن إسلام أبي سفيان الظاهريّ والسطحيّ مفيداً من حيث الواقع، ولكنه كان مفيداً جداً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وللذين كانوا تحت سيطرة أبي سفيان ونفوذ زعامته من جماهير مكة، وبالتالي لِمن كانت له علاقات قُربى معه.
ومع ذلك لم يسمح رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بإخلاء سبيل أبي سفيان لأنه لم يكن آمناً – وحتى مع إظهاره الاسلام – من جانبه قبل أن يتمَّ فتح مكّة، ولهذا أمر صلّى اللّه عليه وآله عمَّه العباس بأن يحبسه بمضيق الوادي عند ممر الجنود ليُبصر عظمة القوات الاسلامية، وكثافتها قائلاً: “يا عبّاس احبسه بمضيق الوادي عند خَطم الجبَل (أي انفه) حتى تمرَّ به جنودُ اللّه فَيراها”.
ثم إن العباس قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: يا رسول اللّه إنَّ أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً.
واستجاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لهذا الطلب، ومع أن أبا سفيان كان قد عادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وألّب ضدَّه طيلة عشرين عاماً، وأثار في وجه دعوته الحروب والفتن الكثيرة، ووجّه بذلك ضربات كثيرة إلى الاسلام والمسلمين، فمنحه – رغم ذلك ولمصالح خاصة – مقاماً، وقال كلمته التاريخية في حقه… تلك الكلمةُ التي تكشف عن عظمة أخلاق رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله وسمو روحه، وعمق حكمته اذ قال: “مَندخَل دارَ اَبي سفيان فهو آمِن. ومَن أغلقَ بابَه فهوَ آمِن. ومَن دخل المسجد فهو آمن. ومَن طرَحِ السلاح فهو آمن”.
مكة تستسلم من دون إراقة دماء:
تقدَّم جيشُ التوحيد العظيم نحو مكة، حتى أصبح على مقربة منها. وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عازماً على أن يفتح مكة من دون إراقة دماء، وإزهاق أرواح، وأن يسلّم العدوُّ من دون أيّة شروط.
وكان من العوامل التي ساعَدت على تحقيق هذه الغاية – مضافاً إلى عامل التكتم والتستُّر ومبدأ المباغتة – أن العباس عمّ النبي صلّى اللّه عليه وآله توجّه إلى مكة.