جواباً على صاحب المنشور العلماني
اطلعتُ على منشور لشخص علماني حالياً ، طالب حوزة سابقاً تضمن مغالطات واضحة أشير لبعضها على عجالة :
اولاً- قول كاتب المنشور ( فالمطالبون بالتعديل يستندون الى حقهم في الانتقال من القانون الوضعي الى قوانين الله، ومن حيث المبدأ هذه قضية صحيحة ولهم الحق فيها، فمن غير المعقول ان نترك قانونا وضعه الله ونتمسك باخر وضعه البشر! ).
التعليق :
أ- كاتب المنشور يقرّ ويعترف بضرورة ترك القانون الذي وضعه البشر ، وهو بذلك يحكم بخطأ الفقرات المتضمنة في قانون الاحوال الشخصية لسنة (١٩٥٩) المتيقن وضعها من قبل عقول بشرية وليست مستندة لنصوص دينية .
ب- مادام انه أقرّ بخطأ اعتماد نصوص قانونية من وضع البشر ، فينحصر الطريق اذن باعتماد النصوص الدينية في تنظيم احوال المسلمين الشخصية .
ثانياً -ويقول كاتب المنشور في مقطع اخر ( ولكن هناك تضليل في الموضوع، فهم عند التطبيق لن يستبدلوا النصوص الوضعية بنصوص الله، بل بنصوص من وضع الفقهاء، أي أنها وضعية هي الأخرى وقد وضعها بشر لا يختلفون عن مشرعي القوانين. وهذا يعني ان مبررات الاستبدال والتعديل ومعاييرهما “كاذبة”.
التعليق : لم نستبدل نصوص الله – كما يعبر هو – بنصوص الفقهاء ، لان جميع الفقهاء متفقون وملتزمون بانه لا يجوز الاجتهاد مقابل النص ، ومادام يعترف هو بوجود نصوص الهية ، فهذا معناه ان المعنى والمقصود من النص ليس ظني الدلالة ، والاّ فان كلامه سيكون تناقضا ، لان معنى النص هو الذي تنحصر دلالته بمعنى ومقصود واحد قطعا ويقيناً ، وهو ما ينقله الفقهاء المختصون بعد ثبوت نصيّته فنعتمده في تنظيم احوالنا الشخصية .
ثالثاً-ويقول كاتب المنشور في مقطع ثالث ( هناك من سيقول بان أحكام الفقهاء هي الأقرب الى احكام الله، وهذا غير صحيح أيضا وهو تضليل من نوع آخر. وإلا لماذا يُكفر هؤلاء الفقهاء بعضهم بعضا او يسفهون اراء بعضهم؟ فمثلا لدينا الفقيه (أ) يُكفّر أو على الأقل يُسفّه احكام الفقيه (ب) والفقيه (ب) أيضاً يُكفّر أو يُسفّه أحكام الفقيه (أ) )
التعليق :
أ- نسأله هل تعتقد انت بان اراء علماء الطب هي الاقرب الى الواقع من غيرهم ممن هم ليسوا مختصين بعلم الطب ؟ سيكون جوابك نعم ليس قولاً فقط ، بل عملياً ايضاً لانك تلتزم دون نقاش او اعتراض على تناول وصفة العلاج التي يصفونها لك حال مرضك ، وتلتزم بارشاداتهم الاخرى المكملة للعلاج من وجوب ترك اغذية معينة او انشطة محددة ، او مزاولة افعال محددة … فلماذا لايكون كذلك وفق نفس المعيار والملاك ان نلتزم رأي الفقهاء المختصين في فنون وعلوم اختصاصهم ، اليس العقل الانساني السليم المتوازن يقرّ برجوع من ليس له خبرة او اختصاص الى من له الخبرة والاختصاص في كل مجالات الحياة ؟
ب- في كل علم توجد مصادر لمعارفه ومسائله واحكامه ، فالطب مثلاً مصدر معارفه هو التجربة المعتمدة على الاستقراء الناقص وليس التام وتسلّم كل العقلاء بنتائجه ، فالتجربة على كفاءة وصلاحية دواء لمعالجة مرض تقتصر على تجريبه على عينات محدودة وليس على كل المرضى الحاليين فضلا عن السابقين او اللاحقين ، فلماذا تسلم بنتائجه قولا وعملاً والتزاما بأخذ هذا العلاج دون تردد ولا نقاش !؟
ج- بينما تحصيل النتائج من مصادر معرفة الحكم الشرعي اوضح لانها ليست ناتجة عن تجربة ناقصة تنتقل من الجزئيات ( الخاص ) الى الكلي ( العام ) كما هو في العلوم التجريبية التي تسلم انت بنتائجها وتلتزمها عملياً .. فالاحكام ان كانت نصوص فهي قطعية الدلالة ، وان كانت ظواهر ظنية فهي تُرجّح بنفس نكتة ترجيح احكام تجارب العلوم التجريبية الظنية المستندة الى الاستقراء الناقص – كما عبّرت – وفيهما يمشي العقل الى محطة الاطمئنان والتسليم بنتائجهما .
د- راجع سيرة فقهائنا الشيعة – رحم الله الماضين وحفظ الاحياء- وبانصاف وموضوعية فإنك لاتجد احدا منهم كفّر الاخر لمجرد الاختلاف في النتيجة العلمية المستندة للمنهج المقرر والمعتمد لآليات البحث العلمي المنصوص والمقطوع بمنهجه وآلياته وادواته العلمية والبحثية ، واذا وجدت عند غيرنا هذه السيرة ( تكفير المخالف بالرأي الفقهي ) فنحن لسنا مسؤولين عن ذلك .. واقصر اشكالك على من ابتلى بهذا الخطأ ! نعم يوجد نقد وتضعيف للرأي الفقهي المخالف وهذا امر طبيعي موجود في كل الحقول العلمية ، فانت ترى علماء الطب مثلا يختلفون وينتقد بعضهم بعضا ، وكذلك الاطباء الاختصاص تسمع منهم احيانا نقد لتشخيص وعلاج زملائهم الاطباء ، فلماذا لم تترك المراجعة لهم اذا كان هذا النقد بينهم سببا للحكم بخطأ كل المهنة والعاملين فيها !!
رابعاً – ويقول كاتب المنشور في مقطع رابع ( هناك من سيقول بان النصوص التي نريد الالتزام بها محل اجماع الفقهاء، وهذا تضليل ثالث، إذ الوصول الى الاجماع غير ممكن لأن الاستقراء التام غير ممكن. )
التعليق :
أ- انت تحصر الحجية في المعارف وتمنحها القيمة العلمية في خصوص ما ينتجه الاستقراء التام ، ولو راجعت سلوك العقلاء في حياتهم وترتيب الاثار والتصرفات فانها يندر جداً تستند للاستقراء التام ، بل بعضها تستند الى قيمة احتمالية اضعف بكثير مما يحققه الاستقراء غير التام ومع ذلك يرتبون اثار حياتهم والتزاماتهم عليها ، ونفس مقولتك هذه بنفي حصول الاجماع مستندة الى ما هو اقل من بعض مراتب الاستقراء الناقص -المقبولة نوعاً – لإنراثبات مقولتك بعدم امكان تحقق الاجماع ناشئة من قناعة شخصية لك او اذا اردنا ان تسايرك -تنزلا – ونصعد قيمتها الاحتمالية فهي لن تتجاوز الاستقراء الناقص الذي انكرت جواز الاستناد اليه في اثبات الحقائق العلمية .
ب- ونحن لانسلم بصحة مقولتك لان موضوع الاستقراء هنا هو خصوص من كان له رأي في المسألة مدار البحث ، ومن لم يكن له رأي ولم يبحث المسألة فموقفه غير منافي للاجماع ، لان الاجماع ينخرم بوجود راي مخالف ، ويمكن استقراء واستقصاء آراء المختصين – الفقهاء – فيحصل استقراء تام في تنقيح واثبات صغرى تحقق الاجماع ، اما اذا كنت تناقش في كبرى حجية الاجماع ، فليكن حجيته مثل التزامك بحجية اجماع واتفاق كل علماء الطب على ان – الاسبرين يزيل الصداع –
خامساً- ويقول كاتب المنشور في مقطع خامس ( فضلا عن أن الشيعة، مثلا، لا يعترفون بإجماع الفقهاء ما لم يستند الى راي المعصوم – الذي هو حكم الله – أو يكشف عنه، وهذا يعني ان اجماع الفقهاء باطل ما لم يكشف عن حكم الله. وهذا الراي أقرب الى النكتة منه إلى التضليل،)
التعليق : يتبين في مقطعك هذا الخلط بين الاستناد الى رأي المعصوم – وهو الاستدلال المباشر المعتمد على قوله عليه السلام – وبين الكشف عن قوله بعد ان لم يصل منه نص معتبر اثبات صدوره عنه … وهو الثاني المقصود به الاجماع .
ب- ولماذا اخذته مسلماً الحكم ببطلان اجماع الفقهاء بحجة انه لم يكشف عن الواقع – على حد تعبيرك – فهذا اول الكلام ونحن نقول ان لم يكشف الاجماع عن راي المعصوم فلاحجة له ، وان كشف فهو حجة ، وانت تمنع حصول الكشف عن راي المعصوم عليه السلام عن طريق الاجماع ، والواقع ان اجتماع متخصصين مأمونين حريصين على تحصيل الحقيقة لعدد كبير على طول عصور التاريخ مما يورث الاطمئنان بالكشف عن الحقيقة العلمية ، على غرار ما لو اتفق تلامذة من علماء الطب الثقات الاكفاء بعدد كبير وعلى طول عصور البحث العلمي الطبي على رأي وتشخيص استاذ متقدم عليهم زمانا ، فان جميع العقلاء يأخذون بنتيجة قناعتهم هذه ويلتزمون باثرها عمليا في حياتهم الصحية
سادساً- يقول كاتب المنشور في مقطع سادس ( فكيف يتحول الاجماع الساعي إلى الكشف عن حكم الله من كونه باطلا إلى كونه حقا لأنه يكشف عن حكم الله ؟ وهل كنا نعرف حكم الله سابقا حتى نعرف بانه كشف عنه؟ وحتى عندما يكون المقصود بأن اجماعهم على الباطل غير ممكن ولذلك نعتبر اجماعهم يوصلنا إلى الحق.
التعليق :
أ- التشوش والاضطراب في هذا المقطع واضح لمن يدقق به ، اضافة الى تناقضه فهو ينفي امكان الكشف عن حكم الله بمبرر ان حكم الله تعالى لم نعرفه سابقا !! وهل الكشف الاّ عن امر لم يكن معروفا سابقا ؟ والاّ لو كان الحكم معروف مسبقا فينتفي موضوع الكشف ، لان حقيقة الكشف تتقوم بالبحث ومحاولة الوصول لمعرفة شئ غير معروف من خلال ادوات معرفية وادلة علمية ثابتة الحجية لدى من يريد الكشف .. فانك تستطيع الكشف عن طلوع الشمس وان لم تراها مباشرة من خلال اثارها ( ضوء النهار ) وهذا هو الكشف الانتقال من الاثار الى المؤثر ، اما ان تقول بان الكشف يتوقف على معرفة المنكشَف مباشرة وبدون واسطة فهذا غير صحيح وواضح البطلان .
سابعاً – تكرر منه الاحتجاج بنفي الحقيقة مالم تكتشف بالاستقراء التام وهذا غريب منه لان اثبات حادثة وقعت في التاريخ او حتى في حياتك المعاصرة قبل ايام تتوقف على نقلها من ثقات وكلما زاد عددهم زاد اطمئنانك لوقوع الحادثة ، وليست هي مشاهدة لظاهرة تحلل اسبابها المخفية وتحاول اكتشافها حتى تحتاج الى استقراء … فمثلا خبر نجاح ابنك بالمدرسة هل يصح ان يكون موضوعا للاستقراء التام ، ام انك تصدق به اذا اخبرك به مدير المدرسة … وهو يقصر اقسام الحجية والاستدلال على الاستقراء التام .. ونقول له هل ان تطبيق قانون عام -اطلعت على تشريعه من قبل الجهة المعنية – على حوادث تمثل جزئيات ومفردات له يتطلب استقراء تام ؟ ام يتطلب تحقق وتأكد من توفر حقيقة موضوع القانون العام في هذه الجزئية لنسري له حكم العام فقط ..
عبد الزهراء الناصري