ولادة الإمام الصادق (عليه السلام) وكناه وألقابه:
الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، هو سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وُلد (عليه السلام) بالمدينة المنورة، في السابع عشر من ربيع الأول 83 هـ. وكانَتْ ولادَتُه (عليه السلام) في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مَرْوان، وتربَّى في أحضان أبيه الإمام الباقر وجَدِّه الإمام السجَّاد (عليهما السلام)، كان (عليه السلام) يُكنَّى بأبي عبد الله، وأبي إِسماعيل، وأبي موسى، وأوّلها أشهرها، ويُلقَّب بالصادق، والفاضل، والقائم، والكافل، والمنجي، وغيرها، وأوّلها أيضاً أشهرها، لقَّبه بالصادق جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث قال: (ويخرج الله من صُلبه – أي صُلب محمّد الباقر – كلمة الحق، ولسان الصدق)، فقال له ابن مسعود: فما اسمه يا نبي الله؟ قال: (يقال له: جعفر، صادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن عليّ، والرادّ عليه كالرادّ عليَّ. ..). وبلغ من شهرته بهذا اللقب أنّه صار كالاسم له، حتّى أنّه ليُستغنى به عن ذكر اسمه، ويُعرف به إذا أُطلق، وكذلك كنيته بأبي عبد الله، صارت كالاسم له يُستغنى بها عن اسمه ولقبه، لا سيّما في الأحاديث الشريفة.
– شهادة الإمام الصادق (عليه السلام):
دُسَّ إلى الإمام الصادق (عليه السلام) السمُّ في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الدوانيقي، فاستشهد (عليه السلام) مسموماً في الخامس والعشرين من شوال 148 هـ، بَعد عُمْرٍ مُلِئَ بالعِلْم والسعي، والجهاد والفضل، والتقوى والزُهد، وقد تمَّ دَفنُ الإمام الصادق (عليه السلام) في مقبرة البقيع بالمدينة المنوّرة.
2- الظروف المحيطة:
عاش الإمام في الفترة الانتقالية بين السلطتين الأمويّة والعباسية، حيث أصبحت الدولة الأموية في هوّة انحدارها وازدادت القلاقل والفتن ضدّها، وكانت الدولة العباسية في بداية نشوؤها ونموّها حيث لم تنتهي الثورة بعد، ولم تستقر الدولة، ولم تسيطر على الموقف بشكل قويّ، وبالتالي لا يوجد كيان لدولة متكاملة تستطيع أن تمسك بالسلطة و الحكم، وتنظّم شؤون العباد و إدارة البلاد.
3- مواقف الإمام الصادق (عليه السلام) مع الحكام:
عايش الإمام الصادق (عليه السلام) الحكَّام الأمويين، من عبد الملك بن مروان، حتى سقوط الحكم الأموي سنة (132 هـ).
ثم آلَتْ الخلافة بعد ذلك إلى بني العباس، فعاصر من خلفائهم أبا العباس السفاح، وشطراً من خلافة أبي جعفر المنصور، بحوالي عشر سنوات. وقد شاهد بنفسه خلال مُدَّة إمامته مِحنة آل البيت (عليهم السلام)، وآلام الأمة، وشكواها، إلاَّ أنه لم يكن يملك القدرة على التحرك.
ونورد الآن بعض ما كان من الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي جعفر المنصور، وَوُلاتِه، من المواقف التي يُعلِنُ (عليه السلام) فيها بالحقِّ، غير مكترثٍ بما له من سطوة، ولولاته من قسوة:
بعض مواقفه (عليه السلام) من المنصور:
الموقف الأول: سأل المنصورُ الإمامَ (عليه السلام) يوماً عن الذُّباب، وهو يَتَطايح على وجهه، حتَّى أضجره، قائلاً: يا أبا عبد الله، لِم خلق اللهُ الذباب؟ فقال (عليه السلام): (لِيُذلَّ به الجبابرة).
فسَكَت المنصور علماً منه أنه لو ردَّ عليه لوخزه بما هو أمضُّ جرحاً، وأنفذ طعناً.
الموقف الثاني: كتب المنصور إلى الإمام (عليه السلام) في إحدى المرَّات: لِم لا تغشانا كما تغشانا الناس؟ فأجابه (عليه السلام): (لَيسَ لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فَنُهنِّيك، ولا تَراها نقمة فَنُعزِّيك، فما نصنع عندك). فكتب المنصور إليه (عليه السلام): تصحبنا لتنصحنا.
فأجابه (عليه السلام): (مَنْ أرادَ الدُّنيا لا ينصحك، ومَنْ أرادَ الآخِرَة لا يَصحبُك) فقال المنصور: والله لقد مَيَّز عندي منازل من يريد الدنيا مِمَّن يريد الآخرة، وإنه ممَّن يريد الآخرة لا الدنيا.
الموقف الثالث: استقدم المنصور الإمام الصادق (عليه السلام) مرَّة، وهو – المنصور – غضبان عليه.
فلما دخل الإمام (عليه السلام) على المنصور قال المنصور له: زعم أوغاد الحِجاز ورعاع الناس أنك حَبْر الدهر، وناموسه، وحُجَّة المعبود وترجمانه، وعَيبةَ عِلمه، وميزان قسطه، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور. وأن الله لا يقبل من عامل جهل حدَّك في الدنيا عملاً، ولا يرفع له يوم القيامة وزناً، فنسبوك إِلى غير حدِّك. وقالوا فيك ما ليس فيك، فقل، فإنَّ أوَّل من قال الحقَّ جدُّك، وأوَّل من صدَّقه عليه أبوك، وأنت حريٌّ أن تقتصَّ آثارهما، وتسلك سبيلهما فقال الإمام (عليه السلام): (أنا فرع من فروع الزَّيتُونة، وقِنديل من قناديل بيت النبوة، وأديب السفرة، وربيب الكرام البررة، ومِصباح من مصبايح المِشكاة، التي فيها نور النور، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر).
فالتفت المنصور إلى جلسائه فقال: هذا قد حَالَني على بحر مَوَّاج، لا يُدرَك طرفه، ولا يبلغ عمقه، تُحارُ فيه العلماء، ويغرقُ فيه السُبَحاء، ويضيق بالسابح عرض الفضاء..
4- مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) العلمية:
لقد بلغ الازدهار العلمي والفكري غايته في عهد الإمام الصادق(عليه السلام) فازدهرت المدينة المنوّرة وزخرت بطلاب العلوم ووفود الأقطار الإسلامية، وانتظمت فيها حلقات الدرس، وكان بيته كجامعة إسلامية يزدحم فيه رجال العلم وحملة الحديث من مختلف الطبقات ينتهلون من معين علمه. ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان (الصواعق المحرقة/ 199).
عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبدا لله(عليه السلام) يقول: قد ولدني رسول الله’، وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خبر السماء والأرض، وخبر الجنّة، وخبر النار، وخبر ما كان وما هو كائن، اعلم ذلك كأني انظر إلى كفّي، إن الله يقول: (فيه تبيان كل شيء)» الكافي: 1/61،).
ـ عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث، قال: «علّم رسول الله’ عليّاً(عليه السلام) ألف باب، يفتح كل باب منها ألف باب، إلى أن قال: فإن عندنا الجامعة، صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله’ وإملائه من فلق فيه وخطّ علي(عليه السلام) بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكلّ شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش، وضرب بيده، إلي فقال لي: تأذن لي يا أبا محمّد؟ قال: قلت: جعلت فداك، إنّما أنا لك، فاصنع ما شئت، قال: فغمزني بيده ثم قال: «حتى أرش هذا ـ كأنه مغضب ـ».
ـ عن الحسين بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «إن عندي الجفر الأبيض»، قال: قلت: فأي شيء فيه؟ قال: «زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم والحلال والحرام، ومصحف فاطمة، ما ازعم أن فيه قرآناً وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلى أحد حتى فيه الجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة، وارش الخدش»(الكافي: 1/240،).
وإلى هذا أشار الجاحظ – وهو من شاهد علماء القرن الثالث >جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه. ووصفه أبو حنيفة بأنه (عليه السلام) أعلم الأمة فقال: >ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد وأنّه أعلم الأمة.