انقسم العالم الإسلاميّ في عصر الغيبة الصغرى إلى ثلاثة أنظمة سياسيّة إسلاميّة ترفع لواء الخلافة، وكلّ يدّعي أنّه هو الخليفة والقائد السياسيّ للعالم الإسلاميّ.
الأوّل: الحكومة العبّاسيّة في بغداد.
الثاني: الحكومة الأمويّة في قرطبة والأندلس.
الثالث: الحكومة الفاطميّة في مصر.
ب ـ الوضع الفكريّ: ونكتفي فيه باستعراض نقطتين لبيان الوضع الفكريّ في تلك المرحلة:
1ـ ظهور المنهج الأشعريّ: ظهر في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ منهجان فكريّان في العالم الإسلاميّ، ذهب أحدهما إلى إلغاء قيمة العقل والاعتماد على ظواهر الآيات والروايات في فهم المسائل والحقائق، حتّى لو كان ذلك على خلاف حكم العقل، ويُطلق على أتباع هذا المنهج “أهل الحديث”. ووقف المنهج الآخر على النقيض منه، فأقام وزناً للعقل وأعطى أهميّة كبرى له، وأطلق على أتباع هذا المنهج “المعتزلة”.
وحدثت مواجهات عديدة بين المذهبين في عصر ما قبل الغيبة الصغرى، كان النجاح فيها حليف المعتزلة أحياناً، وحليف أهل الحديث أحياناً أخرى، ويعتمد ذلك إلى حدّ بعيد على مدى دعم جهاز الخلافة له، واستمرّ ذلك إلى النصف الأوّل من القرن الرابع مع ظهور أبي الحسن الأشعريّ، الّذي كان يعتنق مذهب الاعتزال حتّى الأربعين من عمره، ثمّ أعرض عنه وأسّس على أطلال منهج أهل الحديث منهجاً جديدأ هو “المنهج الأشعريّ”، وقد حظي بانتشار واسع بفضل دعم وحماية المقتدر العبّاسيّ (295 ـ 320هـ) على حساب الاعتزال، ومنذ ذلك التاريخ بدأ دور الاعتزال بالذبول والخمول على الساحة الفكريّّة تاركاً وراءه المنهج الأشعريّ يصول ويجول4.
2ـ تدوين المصادر الروائيّة: مُنعت كتابة الحديث في أوائل القرن الأوّل الهجريّ بأمر من الخليفة الثاني إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز (99 ـ 101هـ) الّذي أمر بتدوين وضبط الأحاديث النبويّة وحوادث تاريخ الإسلام. لكنّ هذا الأمر لم يلق رواجاً في ظلّ العصر العبّاسيّ الأوّل لا سيّما في عصر المأمون، واستمرّ الوضع كذلك حتّى عصر الغيبة الصغرى، حيث صنّفت فيه كتب عديدة، منها أربعة كتب من أصل ستّة كتب مهمّة لأهل السنّة عرفت فيما بعد بالصحاح الستّة، والأربعة هي: “سنن ابن ماجه، سنن أبي داوود، سنن الترمذيّ، سنن النسائيّ” إضافة إلى المئات من الكتب مثل: فتوح البلدان ـ أنساب الأشراف ـ الأخبار الطوال، تاريخ اليعقوبيّ، تاريخ الطبريّ، تفسير الطبريّ، الفتوح.
ثانياً: فلسفة الغيبة
هذا المبحث وإن كان من المباحث الكلاميّة والعقائديّّة، الفاقدة لأيّة صبغة تاريخيّة، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من الإشارة ولو على نحو الاختصار إلى بعض ما ورد حول فلسفة الغيبة في الروايات، لنستشفّ من ذلك الحكمة المطويّة من وراء غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
1ـ سرّ من أسرار الله: فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “يا جابر إنّ هذا الأمر من أمر الله، وسرّ من سرّ الله مطويّ عن عباده”5.
وفي حديث طويل للإمام الصادق عليه السلام، فيه: “… وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّمه من حجج الله تعالى ذكره. إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره كما لم تنكشف الحكمة فيما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى عليه السلام إلى وقت افتراقهما”6.
2ـ امتحان الإنسان الصالح وتمييزه: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: “أما والله لأُقتلنّ أنا وابناي هذان، وليبعثنّ الله رجلاً من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا، وليغيبنّ عنهم تمييزاً لأهل الضلالة، حتّى يقول الجاهل: ما لله في آل محمّد من حاجة”7.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: “وهو المنتظر غير أنّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ أن يمتحن الشيعة”8.
وقال الإمام الكاظم عليه السلام: “يا بنيّ إنّه لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتّى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنّما هي محنة من الله عزَّ وجلَّ امتحن بها خلقه”9.
3 ـ ظلم الناس: ورد في بعض الروايات أنّ فلسفة الغيبة هي نتيجة ظلم الناس بعضهم بعضاً، روي عن الإمام عليّ عليه السلام: “واعلموا أنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله عزَّ وجلَّ، ولكنّ الله سيعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم”10.
4 ـ الانعتاق من بيعة طواغيت الزمان: وذلك لكي لا يمنع الإمام عليه السلام مانع من الانطلاق بحريّة زمن ظهوره، وأن لا يلتزم بالتقيّة مثل سائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام الّذين بايعوا حكّامهم عن تقيّة، ولولا الغيبة ما تيسّر له هذا الأمر. وفي هذا الشأن وردت أحاديث كثيرة عن الأئمّة عليهم السلام، ولكن نكتفي بما ورد في التوقيع الصادر عن الناحية المقدّسة لإسحاق بن يعقوب بواسطة محمّد بن عثمان العمريّ، إذ جاء فيه: “وأمّا علّة ما وقع من الغيبة فإنّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾، إنّه لم يكن لأحد من أبائي إلّا وقد وضعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي”11.
5ـ الاستعداد العالميّ: يتطلّب ظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ باعتباره خاتم الأوصياء ومنجّي البشريّة، وناشر الإسلام في كافّة ربوع العالم ومظهره على الأديان قاطبة ـ أرضيّة عالميّة صالحة، ومن هنا تتأكّد الحاجة إلى تمهيد مقدّمات قبوله في العالم؛ لكي يتحقّق هذا الهدف.وعليه يمكن القول إنّ غياب تلك الأرضيّة في العالم يعدّ من فلسفة غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.