بقلم عبد الهادي الطهمازي
تعدُّ مناسبة محرَّم الحرام وذكرى استشهاد مولانا أبي عبد الله الحسين (ع) من المناسبات العظيمة لدى الموالين لآل البيت (ع)، وتتنوع أساليبهم في التعبير عن حزنهم وألمهم في مصاب السبط الشهيد وأهل بيته وصحبه الكرام، وهذه الطقوس والممارسات التي يمارسها الموالون لآل البيت في هذه المناسبة غدت معروفة للقاصي والداني، وفيها من الفوائد التربوية والأخلاقية والعقائدية ما يعجز القلم عن تناولها.
والمهم أن نستفيد من هذه المناسبة استفادة مثلى بحيث تترشح ثمارها عمليا على حياتنا اليومية وسلوكنا الاجتماعي، فضلاً عن كسب ثوابها فإنها أيام يطلب فيها الأجر، خصوصاً مع وجود الدوافع لإحياء الشعائر الدينية بكل صورها.
فقد نتثاقل في بعض أيام السنة من الحضور إلى مجلس وعظ وإرشاد لهذا السبب أو ذاك، أما في شهر محرَّم فلدينا الاستعداد والرغبة لحضور أكثر من مجلس في اليوم الواحد، والمساهمة في النشاطات الدينية الأخرى.
فينبغي أن نستغل هذا الإقبال على الله والانفتاح على الدين في نفوسنا، فإنها فرصة عظيمة للتقرب الى الله، وبناء الذات وتهذيبها أخلاقياً وثقافياً وسلوكياً، وترميم علاقاتنا الاجتماعية مع المؤمنين الذين يشاطروننا الرأي والعقيدة.
وأجلُّ ما يمكن حصده في هذه المناسبة العظيمة الأجر الأخروي، خصوصاً مع البناء على نظرية تداخل المستحبات، فإن تعدد النية في العمل الواحد تزيد ثواب ذلك العمل، فيمكن أن نحضر مجلس عزاء حسيني بنيات عديدة؛ لينال المؤمن على كل نية منها ثوابها الخاص، فيمكن جمع النيات التالية عند حضور المجلس الحسيني:
1- الاستفادة العلمية والثقافية مما يتناوله الخطباء على المنبر في مختلف مجالات الفكر الإنساني، ففي الحديث الشريف: ((من سلك طريقا يلتمس به علما، سهَّل الله له طريقا إلى الجنة)).
2- مواساة أهل البيت (ع)، إذ لاشك أنها كانت مناسبة أليمة أقضت مضاجع العترة الطاهرة، وأدمت قلوبهم، وأجرت عيونهم، فلنكن كما كانوا، ولنصنع كما صنعوا، ولنحزن كما حزنوا، قال أبو عبد الله الصادق (ع): ((رحم الله شيعتنا، شيعتنا والله المؤمنون، فقد والله شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة)) .
3- وثمة نية ثالثة عظيمة الدرجة، كبيرة الأثر، يمكن أن يستحضرها المؤمن وهو يشارك في الشعائر الحسينية، ألا وهي إغاظة الكافرين والناصبين لآل النبي (ص) الحرب، وهي نوع من الحرب النفسية شجَّع القرآن الكريم عليها كثيرا، قال تعالى: ((مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))، فهذه الجموع الزاحفة إلى أربعين الحسين مثلاً، أو تلك التي تكتظ بها المساجد والحسينيات تشعل جذوة الغيظ في قلوب الكافرين والمعاندين، والذين يرون أن سعيهم الحثيث لطمس ذكرى الحسين (ع) وشعائرها قد خاب ((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)).
4- كما يمكن أن نضيف إلى هذا وذاك نية التزاور والتقاء المؤمنين، وتجاذب أطراف الحديث معهم، ولهذا العمل وحده فضلاً كبيراً بحيث كان يتمنى الإمام الباقر (ع) لو كان حاضراً هذه المجالس، فعن ميسر قال: قال لي أبو جعفر (ع): ((أتخلون وتتحدثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت: إي والله إنا لنخلو ونتحدث ونقول ما شئنا، فقال: أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن، أما والله إني لأحب ريحكم وأرواحكم، وإنكم على دين الله ودين ملائكته فأعينوا بورع واجتهاد)).
والملفت في الحديث أن الإمام (ع) لم يقيد الحديث بكونه في ذكر فضائل آل البيت (ع)، بل ما شاؤوا أن يتحدثوا به شرط ألا يكون معصية لله، ومنهم نفهم أن مجرد مجالسة الأخوان وتجاذب أطراف الحديث معهم، وإن كان في أمور الدنيا، ولم يكن فيه معصية مرغوب عند آل البيت، ويتمنى الإمام أن لو يحضر تلك المجالس.
ولهذه الشعائر فوائد أخرى تربوية واجتماعية وثقافية، فيمكن أن تستثمر في تنمية روح التعاون بين أبناء المجتمع، فهذه المناسبة تهب لنا الفرصة لتدريب أنفسنا على التعاون مع الآخرين، وقضاء حوائجهم والاهتمام بشؤونهم.
وفي السياق الاجتماعي هذا يمكن نشر روح المودة والألفة بين المؤمنين.
إن الإنسان بطبيعته يتوجس من الآخرين، ولكن إذا خالطهم وعاشرهم عن قرب يزول ذلك التوجس، وهذا هو سر الدعوة إلى التواصل والاختلاط بالناس، فكثيراً ما نرى أشخاصاً لا تركن إليهم نفوسنا، وربما انتابنا الشعور بكرههم والنفور منهم، ولكن إذا جالسناهم وتحدثنا إليهم تتغيَّر هذه النظرة.
والخلاصة: إن نشر روح المحبة والتوافق بين أبناء المجتمع يحققه الحضور الى مجالس عاشوراء الحسين (ع)، ولذا ركَّز الإسلام على ظاهرة التجمع والتزاور، واعتبرهما غاية مهمة، فما تشريع الوقوف بعرفة، وصلاة الجمعة، والجماعة إلا لتحقيق هدف التقاء الناس ببعضهم والتعارف فيما بينهم، ولو أردنا تعداد فوائد التجمع والتواصل مع الناس لطال بنا الحديث.
وتغذي هذه المجالس والشعائر عامة المد العاطفي، فإن أي مذهب من المذاهب أو عقيدة من العقائد لا يمكن أن تترسخ في قلوب معتنقيها وتستمر ما لم يتح لها عنصران: أولهما علمي، والآخر عاطفي، فالعلم ركيزة هامة في العقيدة، فالدين أو العقيدة يجب أن تتماشى مع أسس العقل والنقل، وتقوم على أساس علمي سليم لا على خرافة أو أسطورة أو فكرة لا مستند لها ولا أساس.
والعاطفة ركيزة أخرى فليس كل الناس يخاطبون بطريق العلم واستدلالاته المنطقية، بل جلُّ الناس يتأثر بالموقف الانفعالي العاطفي، نعم ينبغي أن لا تطغى العاطفة على العلم ويكرَّس القائمون على عملية التبليغ الديني كل جهدهم لها؛ لأن العلم قد يأتي بالعاطفة إلا إن العاطفة لا تأتي بالعلم، قال تعالى: ((قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)) ، فالعاطفة في منظور الآية الشريفة تغذت من العلم وتقوَّت به، ومن دون العلم تظل العواطف تخبط خبط عشواء، وقد لا تهتدي إلى الرشد سبيلاً.
إن مناسبة عاشوراء الحسين (ع) مدرسة متنقلة، وظاهرة فريدة في مجتمعنا، يجب على القائمين عليها استغلالها، لبث الوعي في صفوف أبناء مجتمعنا، وإيقاف الجمهور على المعارف الإسلامية الحقة، فتراثنا يمتد إلى قرون من الزمان، وهو تراث خصب ثرٌّ معطاء، ما أحوجنا إلى لفت أنظار جمهور الأمة إليه لاستلهامه وأخذ العبر والدروس منه، وصدق من قال: إن الحسين (ع) عَبرة وعِبرة.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية