(فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ) (آل عمران:153) .. كيف يكون الغم ثواباً ؟ [1]
قال الله تبارك وتعالى (فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً) (آل عمران:153-154).
تقع الآية في أجواء ما جرى في معركة اُحد وما تلاها من أحداث حيث انتصر المسلمون في بداية المعركة ثم وقعت بهم الهزيمة حينما عصوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما أمرهم به من الثبات في مواقعهم وإرجاف بعض المنافقين بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتل فالتّف عليهم خالد بن الوليد ورجاله وأوقعوا بهم خسائر فادحة.
الغم في اللغة يعني الستر والتغطية كما في الأحاديث الشريفة عن الهلال (فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة) أي ستر عليكم ولم تروه، ويطلق الغم على الكرب والحزن والهم لأنه يستولي على القلب ويغطي على انشراحه وانبساطه.
ومن هنا ينشأ السؤال عن التعبير بقوله تعالى (فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً) لأن المرتكز في أذهاننا أن الثواب هو الجزاء الحسن فكيف أثابهم الله تعالى بالغم الذي هو الكرب والحزن، ولو تُرِك التعبير لنا لقلنا (أصابكم)، ويمكن عرض عدة وجوه للجواب مع بيان المراد من الغم الأول والثاني:
1- إن (الثوب) لغة يعني العود والرجوع كما في قولنا ثاب إلى رشده أي رجع إلى عقله وحكمته وسُمّي المنزل مثابة لأن الشخص يرجع إليه بعد أن يخرج منه إلى العمل أو قضاء الحوائج أو أي شيء آخر، قال تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) (البقرة:125) أي محل لتحصيل الأجر يعود على الناس. فالثواب لغة هو مطلق الرجوع بالجزاء على العمل الذي يرجع على صاحبه خيراً أو شراً.
فما ارتكز في أذهاننا من كون الثواب مختص بالجزاء الحسن غير صحيح لأن الثواب هو مطلق الجزاء على الفعل بما يناسبه حسناً كان أو سيئاً فالعقاب ثواب أيضاً ولكن للفعل السيء، قال تعالى (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المطففين:36) وقال تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ) (المائدة:60) .
فالآية محل البحث من هذا القبيل وانهم يستحقون العقوبة بالغم وغيره لما اقترفوه من معصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما أمر إليه من الثبات وعدم ترك مواقعهم.
وهذا الجواب يزيل السؤال والأشكال من اصله، ونريد الآن ان نتجاوزه ونمضي مع فهم العرف ونقول:
إن استعمال الثواب في الجزاء الحسن أكثر وهو المعروف في الاستعمال، حتى في هذه الآية بدليل نتيجة الغم (لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ) وبدليل تفريعها عما قبلها (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) (آل عمران:152) وحينئذ يمكن فهم الآية على هذا المعنى من خلال عدة أشكال نذكرها بنفس التسلسل:
2- إن الله أصابهم بهذا الغم كفارة لما أدخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الغم بهزيمتهم وانفضاضهم عنه وهو يناديهم ارجعوا إليَّ أنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد وُصفِت الحالة في الجزء السابق من الآية (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ) (آل عمران:153) فيكون الغم الأول ما اصابهم هم والغم الثاني ما انزلوه برسول الله (صلى الله عليه وآله) فدفع الله تعالى عنهم العذاب العظيم المقدر لهم على فعلهم الذي توّعد به الفارين من المواجهة قال تعالى (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال:16) بأن اكتفى بما أصابهم من الغم حيث ورد في الآية السابقة عليها (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152)، فهذا الغم ثواب حسن لأن الله تعالى دفع به عنهم عقوبة عظيمة.
3- ان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) اغتموا لما فقدوه من الظفر بالمشركين وفوات الغنائم بعد ان أحرزوا النصر على الأعداء ولكنهم بعصيانهم لأوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحوّل النصر إلى هزيمة وهذا الغم لأجل الدنيا وهو مذموم فبدّل الله تعالى غمهم هذا بغمّ لأجل الآخرة وتفويتهم طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وعصيانهم لأوامره فالغم الأول في الآية أخروي والثاني دنيوي فكان هذا الغم ثواباً لأنه يصلح شأنهم ويصحّح مشاعرهم وسلوكهم ويجعل غمهم للآخرة وليس للدنيا فهو ثواب وجزاء حسن فعلاً ولعل هذا المعنى مناسب لتتمة النص (ِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ) وقد كان هذان الفريقان موجودين في جيش النبي (صلى الله عليه وآله) ، قال تعالى (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْ
هُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) (آل عمران:152) فهذا الغم ابتلاء وتمحيص من الله تعالى ليميّز الفريقين، لذا جاء في بقية الآية في بيان حال الفئة التي نجحت في الامتحان وكان الغم ثواباً لها (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (آل عمران:154).
روي الترمذي والنسائي والحاكم بالإسناد عن أبي طلحة قال ((رفعت رأسي يوم اُحد وجعلت انظر وما منهم يومئذٍ أحد إلا يميل تحت جحفته)) وفي لفظ آخر عنه قال ((غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أُحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه)) فكان هذا النعاس نعمة لذيذة هنيئة على المؤمنين الذين رجعوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن علموا بأنه حي فكانت سبباً لطمأنينتهم وإزالة ما كان بهم من الخوف والرعب من عودة المشركين اليهم لاستئصالهم أما المنافقون فكانوا في قلق وتوجس ولم يستطيعوا النوم فقاموا من حيث لا يشعرون بحراسة المؤمنين النائمين.
4- إن الغم الثاني هو ما أصاب المسلمين في المعركة بسبب ما لحقهم من القتل والجرح، والغم الأول هو ما أصاب المشركين بعد رجوعهم من أُحد حيث تذكر الروايات أنهم تلاموا على عدم إجهازهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه وتأديب أهل المدينة فقرّروا الرجوع فنزل الوحي من الله تعالى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمره بالخروج لملاقاة المشركين بمن كان معه في اُحد فقط، فخرج المسلمون مع ما بهم من الجراح والخوف والأعياء والانهيار النفسي ووصلوا موضعاً يسمى حمراء الأسد انتظار المشركين لكن الله تعالى ألقى الرعب في قلوب المشركين فقرّروا الرجوع إلى مكة فشكر الله تعالى هذا الموقف من المسلمين وأثابهم غماً ورعباً ادخله على المشركين مقابل ما دخلهم من الغم والرعب في معركة أُحد.
5- إن الغم الأول هو ما أصابهم من الحزن والكرب والغم الثاني ما أصابهم في المعركة من القتل والجرح وفقدان الأحبّة فأراد الله تعالى أن يسليهّم عن الثاني بالأول شفقة عليهم ورحمة بهم ولما حصلت التسلية أزال عنهم الغم وابدلهم آمنة نعاساً.
6- أراد الله تعالى أن يبين لهم أن الحياة متصرفة بأهلها ومتقلبة من حال إلى حال فلا يطمئنوا إلى عافية ورخاء ولا يضجروا من شدة وبلاء فلا يوجد في الدنيا ثبات واستقرار قال تعالى (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140) فالنصر الذي حققه المسلمون في بدر ليس من الضروري أن يتكرر في كل المعارك، فيمكن أن يتحول إلى هزيمة اذا لم يتمسكوا بأسباب الانتصار، قال تعالى (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ) (آل عمران:140) (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ)(النساء:104) فليستفد المؤمنون من التجارب وليأخذوا العبر منها ، وعلى هذا فالغم الأول ما أصابهم يوم أحد ، والغم الثاني ما أصاب المشركين في بدر ، وقد لُخِّصت التجربة والعبرة من هذه الواقعة بتكملة الآية (لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ) وفي آية أخرى (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/23).
7- إن الغم الأول هو ما دخلهم من الحزن والندم على هزيمتهم في المعركة وتفويت النصر الذي انزله الله تعالى عليهم في بدايتها بسبب عصيانهم لأوامر القيادة النبوية المباركة، والغم الثاني هو ما أصابهم قبل ذلك من الهلع والرعب بسبب ما اشيع من مقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما انكشف خلاف ذلك ابدلهم الله تعالى غماً وكرباً وندماً بدل حزنهم الأول على مقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكان غمهم بما حل بهم كالفرح بعد ان انكشف لهم ان غمّهم السابق بمقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان وهماً .
8- ما ورد في كلام أهل المعرفة ومنهم سيدنا الأستاذ الشهيد[2] الصدر الثاني (قدس سره) من أن الله تعالى يحدث في قلب السائر في طريق الكمال كُربة عند وقوعه في المعصية ولو كانت قلبية أي على المستوى الأخلاقي وليس الشرعي لتنبيهه والفات نظره وإعادته إلى الصواب نظير ما يعرف بوخز الضمير أو تأنيب الضمير قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف /201) فهذا الغم الذي أصابهم هو نعمة من الله تعالى لتكميل نفوسهم وتطهير قلوبهم ويكون معنى (غم بغم) أي غماً بعد غم .
[1] – كلمة ألقاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج يوم الاثنين 24 / ج1/ 1441 الموافق 20/1/2020
[2] – قناديل العارفين: 290 ، طبعة مؤسسة الرافد 2013