لم تكنْ أمّ البنين(عليها السلام) قد فرضت على زوجها أن يعطيها قصراً منيفاً.. أو يمنحها عيشاً رغيداً.. ولا يُسكنها بيتاً مخمليّاً؛ لأنّه أمير المؤمنين وخليفة رسول ربّ العالمين.. بل طلبت منه أن لا يُناديها باسمها المتطابق مع اسم القدّيسة الأولى سيّدة البيت والكون فاطمة الزهراء(عليها السلام).
فأطلَقَ عليها لقب (أمّ البنين)؛ لكي لا ترتسم ملامح الحزن الدفين فوق شفاه وعيون أبناء زوجها علي أمير المؤمنين(عليه السلام)..
وكانت أمّ البنين(سلام الله عليها) في غاية الأدب والأخلاق، فقد قالت لعليّ أمير المؤمنين(عليه السلام)، لا تسمِّني فاطمة!، لأنّ الحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم(عليهم السلام) يتذكّرون أمّهم ويتأثّرون بذلك. لذا لقّبها (سلام الله عليه) بـ(أمّ البنين) -على ما جرت عليه العادة عند العرب من الكنى-، لا باعتبار الانطباق الخارجيّ بل باعتبار الانتخاب، والله رزَقَها بعد ذلك بأربعة أولاد (مثل بدور الدجى) فصاروا مفخرة البشرية إلى يوم القيامة.
قمّة الوفاء أن نلمس في أريج ذاتها هذا الإحساس القيّم، فكانت نعم الصدر الحاضن لهذه المسيرة العظيمة، وكانت نعم الفكر.
شأنها في كلّ موسم ترعى الصناديد الذين تدّخرهم لنصرة المظلوم، فكانت تسقيهم بألفاظ قدسيّة.. وترعاهم بألفاظ إنسانية.. وترسم في أفقهم معاني التعابير الدينية..
لم تكن سيّدةَ بيتٍ فحسب، بل سيّدةَ رجال وسيّدةَ أمّةٍ ومستقبل، والى الآن ظلّ يشعّ اسمها.. ولم يتمكّن طاعون النسيان أن يلتهم أطراف ذكراها، ولا يعيق مقدارها، وظلّت شامخةً ترفع بكلّ الأزمنة لواء الصمود والخلود والذكر الحميد.
وظلّت مثالاً للوفاء والإخلاص لامتداد الرسالة، لا تريد سوى أن يمرّ ذكر الحسين سامياً ومعافى من الأذى، ولا تريد إلّا أن يرد الى سمعها أنّ الحسين قد أتى مكلّلاً بالحفاوة والنجائب، ولم تشغل بالها يوماً بأبنائها دون الحسين..
كانت أنفاس علي بن أبي طالب(عليه السلام) تراودها.. وصورته تشمخ بعينيها، وهكذا عاشت وعطاؤها غير محدود.. ورحلت وعطاؤها لا يُحدّ.. وبقيت باباً من أبواب العطاء الوافر، وصوتاً يلبّي رغم المدى النداء.. وبلسماً للمُلِمّات والبلاء.