بقلم: د. ضرغام الأجودي
قبل عدة ليالٍ، زارني في منزلي ثلاثة شباب جامعيون في بداية العشـرينات من العمر، للحديث عن بعض هموم الشباب المعاصر والتحديات التي تواجههم.
ومن بين أسئلتهم وجّهوا لي السؤال التالي: (لماذا تقلد الشيخ محمد اليعقوبي؟)
فأجبتهم بأنني عندما كنت بعمركم في نهاية عام 1999م، كانت الساحة الإسلامية خالية من أية قيادة دينية تماماً، فمكاتب المراجع مفتوحة شكليا ومغلقة فعليا، ولا يمكنك اللقاء أو الحديث مع أي مرجع، مع غياب العمل الإسلامي أو الرسالي نهائياً، نتيجة لاستشهاد السيد محمد الصدر قدست نفسه الزكية، وبطش النظام بأتباعه ومقلديه، وسط صمت الحوزة عن ذلك.
فعادت الأجواء العامة لما قبل نهضة الشهيد الصدر في منصف التسعينات حين كانت الحوزة تغط في سبات عميق تاركة الأمة للفتن تتلقفها يميناً وشمالاً.
لكن الشباب الذين أنعم الله تعالى عليهم بنعمة الإيمان والوعي الرسالي؛ فالتحقوا بنهضة الشهيد الصدر قدس سره، لم يستطيعوا الركون إلى واقع الصمت والخنوع والضياع مجدداً.
فانطلقنا نبحث في أزقة النجف عن مرجع نتوسم فيه الشجاعة والرحمة والقوة والفكر والمعرفة بالزمان، التي كانت عند شهيدنا الصدر العظيم، فكنا نطرق الأبواب ولا من مجيب بل لم تستقبلنا بعض البرانيات.
وفي إحدى المرات سمعنا بوجود مجتهد يطرح نفسه كبديل عن الشهيد الصدر قدس سره، ويريد إكمال مسيرته، فذهبت إليه على رأس وفد من عشـرين طبيبا ومهندسا من البصـرة، فوجدناه لا يمتلك الهيبة ولا المنطق الذي يمتلكه المرجع الشهيد الصدر قدس سره، وكان أغلب حديثه (ليحذر المؤمنون من محمد اليعقوبي) فقلت له: لماذا؟
قال: لأنه يتواصل مع أعداء الشهيد الصدر ويزور السيد السيستاني والشيخ الفياض وتربطه بهم علاقات طيبة!
فاستغربت منه هذا الطرح الغريب، ولم اقتنع به كقائد بديل عن الشهيد الصدر قدس سره، لكنه حفزني على البحث أكثر عن الشيخ محمد اليعقوبي، والذي كنا نعرف أنه أول أهل الخبرة العشـرة، الذين شهدوا للشهيد الصدر بالأعلمية في بداية نهضته.
فكان يصلني عنه أنه صاحب أكبر حلقة لتدريس كتاب كفاية الأصول (وتسمى مرحلة السطوح العليا في الحوزة) في النجف وأنه يمتلك أخلاق الأنبياء في التواضع والعلم والحلم والمروءة.
حتى كان لقائي الأول معه في مسجد الرأس في بداية عام 2000م في مسجد الرأس الملاصق للصحن العلوي الشـريف، وعند دخولي إلى المسجد كان مزدحما جدا بعشـرات الطلبة من الحوزة العلمية، ملتفين حول الشيخ محمد اليعقوبي، مع بعض المواطنين من مختلف المحافظات، والجميع يسأل ويستفسـر، وهو يجيب دون كلل أو ملل.
دام انتظاري للوصول إليه وسط هذه الحشود قرابة الساعة حتى بدأ المؤذن يمجد تمهيداً لأذان الظهر، فقال الشيخ محمد اليعقوبي: (افسحوا لهذا الشاب من البصـرة فقد تأخر كثيرا)، فتخطيت الحشود ووصلت اليه وهمست له بعدة أسئلة، كانت إجاباتها فوق توقعاتي فقد كانت اجابات تنم عن وعي وتجدد وحركية وفكر عميق، ربما سمح لي الوقت لكتابتها في مقالة منفردة، فخرجت فرحا مسـرورا ولدي اجابات عظيمة لأسئلة لم نحصل على إجابات لها لدى غيره.
وبعد خروجي من المسجد، انتبهت إلى أمر مهم، وهو كيف عرف الشيخ محمد اليعقوبي انني من البصـرة؟! ولم يسبق له أن التقى بي ولم يكن معي شخص آخر حتى يعرفني من خلاله!
فعقدت النية بكل يقين على تقليده (رغم عدم إعلانه لاجتهاده وقتها) لكنني كنت مطمئناً جداً كاطمئناني لتقليد الشهيد الصدر قدست نفسه الزكية، فوجدته عارف بزمانه ولديه حلول لكل ما عجزنا عن ايجاد حل له عند غيره.
فصـرت أتحرى أخباره، فوصلتني بعض الكتب التي ألفها أو أشرف على تأليفها في ذلك الحين، فوجدت فيها استمرارا لنهج الشهيد الصدر قدس سره، فبعد منع الجمعة تحولت الخطبة إلى كتب وكراسات عظيمة النفع وتديم الزخم الايماني في المجتمع ومنها: فقه العائلة وفقه الجامعات والحوزة وقضايا الشباب وفقه المرأة المسلمة وفقه المعلمين وفقه باعة العتيق وفقه صالونات الحلاقة وغيرها العشرات من العناوين.
كذلك بدأ الشيخ محمد اليعقوبي مرحلة جديدة، وهي مرحلة الكاسيتات فقد كان يسجل محاضرات أخلاقية وتربويّة وتوجيهية للمجتمع في المناسبات الدينية، ساهمت بشكل كبير في رفع مستوى الثقافة والوعي في المجتمع.
كل هذا النشاط والمخاطرة والتحدي والرعاية للمؤمنين مادياً ومعنوياً والإنتاج الغزير من المؤلفات والمحاضرات من الشيخ محمد اليعقوبي، كان يقابله موت سريري في الحوزة العلمية فلم يصدر عنها كتاب أو بيان أو محاضرة أو استفتاء، للفترة من استشهاد السيد الصدر وحتى سقوط الصنم.
لكل هذه الأسباب، لم يجد الشباب الواعي والمثقف والمؤمن بعالمية الإسلام وانتصاره على الظلم والبغي والتمهيد لدولة العدل الإلهي، مرجعا يلبي حاجاتهم الفكرية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية غير الشيخ محمد اليعقوبي.
إن المجتمع اليوم والشباب بالخصوص يتعرضون لكم هائل من الضغوط لسلبهم دينهم واخلاقهم، من خلال الإعلام بكل وسائله وأساليبه والمؤامرات التي تحيق بالإسلام والمذهب، فلا يتمكن الشباب اليوم من الصمود مالم توجد لهم قيادة تسمعهم وترعاهم وتفهمهم، خبيرة بما يجري من حولها فلم تعد الرسالة العملية كافية لوحدها في قيادة الأمة فالقرآن وحدة ليس كافيا للهداية بدون العترة، فهما معاً ضمان الهداية فالحديث النبوي الشريف يبين (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي)، وكذلك في هذا الزمان الرسالة العملية لوحدها غير كافية، لابد من وجود قائد بابه مفتوح، وصدره رحب، يستمع ويرحب، ويوجه، ويتفقد رعيته، ويشخص أمراض المجتمع ويداويها، وهذا ما لمسته من المرجع محمد اليعقوبي دام ظله، فبابه مفتوح للجميع طيلة أيام الأسبوع، ويسمع من الجميع، الصغير والكبير، والعالم والجاهل، رؤوف ومحب لأبناء بلده، متواضع، لكل حدث وواقعة له موقف، معطاء في فكره، متجدد فلا يُمَل ومبدع يبهرك في فكره، ولا يقف على مسافة واحدة من المحسن والمسيء، بل له موقف حازم بينهما، هذا هو مرجعي فلا تلوموني على الفناء بحبه.
ولست هنا أسيء لغيره من المراجع، بل أن تعدد المراجع نعمة، وزيادة عدد المجتهدين ضرورة ملحة يتطلبها المجتمع والزمان الصعب الذي نحن فيه، فكثرة المجتهدين علامة على صحة وسلامة الحوزة، ولكل مكلف الحق في الاقتداء بمن يراه أهلا للقيادة (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) الرعد: 17