سألني طالب مقدمات طَموح ذات يوم مستغرباً من قول أستاذه الشيخ (أن الاجتهاد مقاعد محجوزة من الله لأولاد المراجع، فلا تفكروا فيه) كيف ذلك
.
فتأسفت في داخلي من قوله وسواء أكان يقول هذا القول مؤمناً به أو متنمراً على الأوضاع ما كان ينبغي إلقاؤه للطلبة في بداية رحلتهم، وكان يمكنهم تركهم يسير بهم الطموح والهمة أينما وصلوا حتى لو رفضهم الله وكبحهم عن الاجتهاد، بينما كان من أول ما سألت الشيخ في بداياتي (هل يحتاج الاجتهاد إلى أمور غيبية؟) فأجاب بدقة (لا يحتاج) وتكلم بكلمة مشجعة أخرى، ثم علمت بتقدم العمر أن الاجتهاد شيء قليل إزاء ما يمكن تحصيله في ارض النجف وسمائها، وأنه لوحده لا يتيح السكينة ومعرفة كل شيء.
والاجتهاد هو القدرة على الاستدلال في المسائل الفقهية استدلالاً يضمن فيه للمكلف أنه بمأمن من مخالفة الشريعة، فحين يبتلى الإنسان بموقف لا يعرف ما هو الحكم الفقهي فيه يأتي المجتهد ليستدل على الحكم الشرعي في ذلك الموقف من الآيات والروايات، فلو سأل سائلك ما حكم المخدرات؟، فيجيب الفقيه هي محرمة لأنها تفعل فعل الخمر والخمر حرام، أو لأنها مسكر وكل مسكر حرام، يستند في كل ذلك إلى النص الديني بطرق استدلال مضمونة أقرّها الدين والمعصومون (عليهم السلام).
وكل تخصص يصل فيه المتمرسون إلى درجة يعرفون اليقين من الظن ويدققون في ما هو حجة وما ليس بحجة، في الطب والهندسة والعلوم وغيرها، من دون الحاجة أن يكونوا من سلالة خاصة ومواهب استثنائية.
ومن المبالغة أيضاً القول أن الاجتهاد يحتاج إلى الإحاطة بكذا عدد من العلوم (اللغة والتأريخ والفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك وو…) فهو لا يحتاج من هذه العلوم إلا بمقدار ما يدخل في موضوع المسائل الفقهية وربما يحتاجها في مناقشة المشاكل الفكرية التي تواجه المسلم ورد شبهات الكافرين، وقد تجد مختصاً باللغة أكثر اطلاعاً وعمقاً من المجتهد ومختصاً بالتأريخ أكثر معرفة بتفاصيل الحوادث التأريخية، ومختصاً بالفلسفة أكثر معرفة بقضايا الفلسفة من المجتهد..
نعم لا بد أن يعرف الفقيه ما هو حجة مما ليس بحجة من مسائل اللغة ليستعمله في دراسة النص الديني، ويعرف من التأريخ ما يعينه على فهم النص الديني والقرائن المساعدة على تفسيره، وهكذا، ولكن هذا لا يتطلب الإحاطة بذلك العلم الذي يحتاج إلى عمر كامل لاستيعاب مسائله، ولعل هذا القائل باشتراط الإحاطة بهذا العلم يريد تعظيم العلماء وتوقيرهم أو أنه استلطف وجود مسائل خارج الفقه في كتبهم من علوم أخرى يتطرقون لها بعض الأحيان، وهذا لا يعني أنهم محيطون بكل تفاصيل تلك العلوم أو لا بد أن يحيط المجتهدون بها، هذا مما يفت في عضد الطلبة.
كما لا يتطلب الاجتهاد حفظ كتاب وسائل الشيعة -كما عن بعض الخطباء-، ولعل أكثر مجتهدينا لا يحفظ القرآن الكريم، وإنما ينبغي له أنه يعرف أين يبحث عن الروايات والآيات ذات العلاقة بالمسألة الشرعية التي يبحث فيها. ولعل جملة منهم لا يراجع كتب الروايات مباشرة بل يراجع الروايات في الكتب الفقهية التي يناقشها وتورد تلك الروايات في سير البحث عن الحكم الشرعي.
ورغم أن الاجتهاد يعني -من ضمن ما يعنيه- أن لا يكون الفقيه تابعاً لفقيه آخر في التفكير والنتائج، إلا أنك قد لا تجد فقيهاً يعيد النظر في كل مسألة من الفقه واحدة واحدة، فقد يترك عدداً كبيراً من المسائل -وهي بالآلاف- ركوناً إلى نتائج من سبقه وقد لا يرى حاجة لإعادة عباراتهم في الفتوى وتغييرها لوضوح المسألة حتى المحققين منهم.
وقد ينال الاجتهاد -أي القدرة على الاستدلال السليم- قبل أن يمر على كل مسائل الفقه تحقيقاً استدلالاً، فينال الاجتهاد ثم يبدأ بالتدريس حتى يكمل مع طلبته دورة فقهية بحثاً واستدلالاً، ونادراً ما تجد فقيهاً أكمل دورة فقهية كاملة مع طلبته.
#صناعة_الوعي
الدكتور عماد علي الهلال