هو الإمام محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، تاسع أئمَّة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.
ولادته وشهادته:
وُلد عليه السلام، في المدينة المنوّرة، سنة خمس وتسعين ومائة، واختُلف في الشهر واليوم، فعن بعضهم أنّه في شهر رمضان، لتسع عشرة ليلة خلت منه، أو للنصف منه، ليلة الجمعة، وهو المرويّ عن الإمام العسكريّ عليه السلام.
وعن بعضهم أنّه في يوم الجمعة لعشر خلون من رجب.
ويؤيِّده الدعاء المرويّ عن الناحية المقدّسة الذي رواه الشيخ الطوسيّ عن ابن عيَّاش، أنّه خرج على يد الشيخ الكبير أبي القاسم، رضي الله عنه، هذا الدعاء في أيّام رجب: “اللَّهمَّ إني أسألك بالمولودَيْن في رجب: محمّد بن عليّ الثاني، وابنه عليّ بن محمّد المنتجب، وأتقرّب بهما إليك خير القرب..” الدعاء.
ومضى ببغداد شهيداً مسموماً سنة عشرين ومائتين في ذي القعدة، في آخره، وقيل: في الحادي عشر منه، وقيل: لخمس خلون من ذي الحجّة، وقيل: لستٍّ خلون منه، وقيل في آخر ذي الحجّة، ودُفن في مقابر قريش عند قبر جدّه الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.
بشارة الولادة:
في الحديث المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال لأُبَيّ بن كعب، وقد دخل عليه الإمام الحسين عليه السلام – في حديث طويل- أخبره فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عمّن يكون في ذرِّيَّته، جاء فيه، بعد ذكر الإمام الرضا، عليه السلام، قوله: “..وإنّ الله ركّب في صلبه نطفةً مباركة طيّبة رضيّة مرضيّة، وسمّاها محمّد بن عليّ، فهو شفيع شيعته ووارث علم جدّه، له علامة بيّنة وحجّة ظاهرة، إذا وُلد يقول: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..”.
وعن الإمام الكاظم عليه السلام، في حديث له مع يزيد بن سليط الزيديّ، وقد لقيه في طريقه إلى العمرة، فأخبره الإمام بالنّص على الإمام الرضا عليه السلام، وأنّه سيلقاه في هذا الموضع، ثمّ قال له: “يا يزيد وإذا مررت بهذا الموضع ولقيته وستلقاه فبشّره أنّه سيولد له غلام، أمين، مأمون، مبارك، وسيعلمك أنّك قد لقيتني، فأخبره عند ذلك أنّ الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية جارية رسول الله صلى الله عليه وآله، أمّ إبراهيم، فإن قدرت أن تبلّغها منّي السلام فافعل”، قال يزيد: فلقيت بعد مضيِّ أبي إبراهيم عليه السلام، عليّاً عليه السلام فبدأني، فقال لي: “يا يزيد، ما تقول في العمرة؟” فقلت: بأبي أنت وأمّي، ذلك إليك وما عندي نفقة، فقال: “سبحان الله، ما كنّا نكلّفك ولا نكفيك”. فخرجنا حتّى انتهينا إلى ذلك الموضع فابدأني فقال: “يا يزيد، إنّ هذا الموضع كثيراً ما لقيت فيه جيرتك وعمومتك”، قلت: نعم، ثمّ قصصت عليه الخبر، فقال لي: “أمّا الجارية فلم تجئ بعد، فإذا جاءت بلّغتها منه السلام”، فانطلقنا إلى مكّة فاشتراها في تلك السنة، فلم تلبث إلّا قليلاً حتّى حملت فولدت ذلك الغلام.
الولادة:
وكان مولده ومنشؤه على صفة مواليد آبائه عليهم السلام، ويُروى عن حكيمة بنت أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، أنّها قالت: لمّا حضرت ولادة الخيزران أمّ أبي جعفر عليه السلام دعاني الرضا عليه السلام، فقال لي: “يا حكيمة احضري ولادتها وادخلي وإيّاها والقابلة بيتاً”، ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علين، فلمّا أخذها الطلق طفى المصباح وبين يديها طست فاغتممت بطفي المصباح، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه السلام في الطست وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتّى أضاء البيت فأبصرناه، فأخذته فوضعته في حجري ونزعت عنه ذلك الغشاء، فجاء الرضا عليه السلام ففتح الباب وقد فرغنا من أمره، فأخذه فوضعه في المهد وقال لي: “يا حكيمة الزمي مهده”، قالت: فلمّا كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثمّ نظر يمينه ويساره ثمّ قال: “أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله”، فقمت ذعرة فزعة فأتيت أبا الحسن عليه السلام فقلت له: لقد سمعت من هذا الصبي عجباً، فقال: “وما ذاك؟” فأخبرته الخبر، فقال: “يا حكيمة، ما ترون من عجائبه أكثر”.
الإمام الجواد عليه السلام، ومحنة الولادة:
لقد كانت والدة الإمام الجواد عليه السلام، نوبيّة من السودان كما تقدّم، فكان من الطبيعيّ أن يكون الإمام الجواد عليه السلام حائل اللون، أو شديد الأدمة، أي السمرة، بحيث يقرب من السواد.
وقد صار هذا الأمر من المحن والابتلاءات التي تعرّض لها الإمام الرضا عليه السلام وولده الإمام الجواد عليه السلام..
فعن زكريّا بن يحيى بن النعمان الصيرفيّ، قال: سمعت عليّ بن جعفر يحدّث الحسن ابن الحسين بن عليّ بن الحسين فقال: والله لقد نصر الله أبا الحسن الرضا عليه السلام، فقال له الحسن: إي والله- جُعلت فداك- لقد بغى عليه- أي ظلموه- إخوته، فقال عليّ بن جعفر: إي والله ونحن عمومته بغينا عليه، فقال له الحسن: جُعلت فداك، كيف صنعتم فإنّي لم أحضركم؟ قال: قال له إخوته ونحن أيضاً: ما كان فينا إمام قطّ حائل اللون، فقال لهم الرضا عليه السلام: “هو ابني”، قالوا: فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قضى بالقافَّة فبيننا وبينك القافَّة، قال: “ابعثوا أنتم إليهم، فأمّا أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتموهم ولتكونوا في بيوتكم”. فلمّا جاؤوا أقعدونا في البستان واصطفّ عمومته وإخوته وأخواته وأخذوا الرضا عليه السلام وألبسوه جبّة صوف وقلنسوة منها ووضعوا على عنقه مسحاة، وقالوا له: ادخل البستان كأنّك تعمل فيه، ثمّ جاؤوا بأبي جعفر عليه السلام فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس له ههنا أب ولكن هذا عمّ أبيه، وهذا عمّ أبيه، وهذا عمّه، وهذه عمّته، وإن يكن له ههنا أب فهو صاحب البستان، فإنّ قدميه وقدميه واحدة، فلمّا رجع أبو الحسن عليه السلام قالوا: هذا أبوه. قال عليّ بن جعفر: فقمت… ثمّ قلت له (يعني أبا جعفر عليه السلام ): أشهد أنّك إمامي عند الله، فبكى الرضا عليه السلام، ثمّ قال: “يا عمّ! ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبية الطيّبة الفم، المنتجبة الرحم، ويلهم لعن الله الأعيبس وذرِّيَّته، صاحب الفتنة، ويقتلهم سنين وشهوراً وأيّاماً يسومهم خسفاً ويسقيهم كأساً مصبَّرة، وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه وجدّه صاحب الغيبة، يقال: مات أو هلك، أيّ واد سلك؟! أفيكون هذا يا عمّ إلّا منّي؟”، فقلت: صدقت، جُعلت فداك.
كنيته وألقابه:
أمّا كنيته: فأبو جعفر، (كنية جدِّه الإمام الباقر عليه السلام، ويُقال له أبو جعفر الثاني تمييزاً له منه)، والخاصّ أبو عليّ.
وأمّا ألقابه فكثيرة، منها: المنتجب والمرتضى والتقيّ والزكيّ والقانع والجواد (وهو أشهرها)، وكان يعرف بابن الرضا.
والدته المقدّسة:
كانت والدة الإمام الجواد عليه السلام، أُمَّ ولَد، تسمّى سبيكة، أو ريحانة، أو درّة، ثمّ سمّاها الرضا عليه السلام خيزران، وكانت تكنَّى أُمَّ الحسن، وكانت نُوبيّة، من النُوب، وهي بلاد واسعة للسودان، أو جيل من السودان، وقال بعضهم إنّها مَرِيْسِيَّة.
– بالتخفيف- وهي جزيرة في بلاد النوبة كبيرة يجلب منها الرقيق.
ورُوي أنّها كانت من أهل بيت مارية القبطيّة أُمّ إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكانت أفضل نساء زمانها، وعن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال فيها: “قُدِّسَت أُمُّ ولدته، فلقد خُلقت طاهرة مطهّرة”، وفي بعض الروايات أيضاً عنه عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في حقّ الإمام المهديّ عجَّل الله تعالى فرجه: “بأبي ابن خيرة الإماء، ابن النوبيّة، الطيّبة الفم، المنتجبة الرحم”، وسيأتي قول الإمام الكاظم عليه السلام – فيما رُوي عنه- ليزيد بن سليط الزيديّ: “فإن قدرت أن تبلّغها منّي السلام فافعل..”.
مع أبيه الإمام الرضا عليه السلام:
لقد رُزق الإمام الرضا عليه السلام، بولده الجواد عليه السلام، وهو في سنّ متأخّرة نسبيّاً- كان عمره الشريف آنذاك حوالي 47 سنة – ممّا فسح المجال أمام بعض المخالفين لإمامته باستغلال هذا الأمر، والتشكيك بإمامته.
فعن الحسين بن بشّار أنّه قال: كتب ابن قياما- وهو من الواقفة الذين وقفوا في الإمامة على الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، ولم يقولوا بإمامة الإمام الرضا عليه السلام – إلى أبي الحسن عليه السلام كتاباً يقول فيه: كيف تكون إماماً وليس لك ولد؟ فأجابه أبو الحسن الرضا عليه السلام – شبه المغضب-: “وما علمك أنّه لا يكون لي ولد؟ والله لا تمضي الأيّام والليالي حتّى يرزقني الله ولداً ذكراً يفرّق به بين الحقّ والباطل”.
وقد رُوي عن ابن قياما المذكور أنّه قال: دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام، وقد وُلد له أبو جعفر عليه السلام، فقال: “إن الله قد وهب لي من يرثني ويرث آل داود”.
وعن كليم (أو كلثم) بن عمران قال: قلت للرضا عليه السلام: ادع الله أن يرزقك ولداً، فقال: “إنّما أُرزق ولداً واحداً وهو يرثني”، فلمّا وُلد أبو جعفر عليه السلام، قال الرضا عليه السلام، لأصحابه: “قد وُلد لي شبيه موسى بن عمران، فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قُدِّست أُمُّ ولدته، (قد خُلقت طاهرة مطهّرة)”.. وكان طول ليلته يناغيه في مهده.
فلمّا طال ذلك على عدّة ليال قلت له: جُعلت فداك، قد ولد للناس أولاد قبل هذا فكلّ هذا تعوّذه؟ فقال: “ويحك، ليس هذا عوذة، إنّما أغرّه بالعلم غرّاً”.
وعن أبي يحيى الصنعانيّ قال: كنت عند أبي الحسن الرضا عليه السلام فجيئ بابنه أبي جعفر عليه السلام، وهو صغير، فقال: “هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه”.
وعن بنان بن نافع أنّ أبا الحسن عليه السلام، قال له: “يا بن نافع، سلِّم وأذعن له بالطاعة فروحه روحي، وروحي روح رسول الله”.
وعاش مع أبيه عليه السلام سنوات قليلة إلى أن أشخص المأمون أباه الرضا عليه السلام، إلى خراسان لولاية العهد، فحجّ الإمام الرضا عليه السلام، في تلك السنة إلى بيت الله الحرام ومعه ولده الإمام الجواد عليه السلام، (الذي أحسّ بالخطر على أبيه من خلال طوافه حول الكعبة ووداعه لها)، وبعد الطواف، صار أبو جعفر عليه السلام إلى الحجر فجلس فيه فأطال، فقال له موفّق (خادمه): قم جُعلت فداك، فقال: “ما أريد أن أبرح من مكاني هذا إلّا أن يشاء الله”، واستبان في وجهه الغمّ، فأتى موفّق أبا الحسن عليه السلام، فقال: جُعلت فداك، قد جلس أبو جعفر عليه السلام، في الحِجر وهو يأبى أن يقوم، فقام أبو الحسن فأتى أبا جعفر عليه السلام، فقال له: “قم يا حبيبي”، فقال: “ما أريد أن أبرح من مكاني هذا”، قال: “بلى يا حبيبي”، ثمّ قال: “كيف أقوم، وقد ودَّعتَ البيت وداعاً لا ترجع إليه؟!” فقال: “قم يا حبيبي، فقام معه”.
وعندما أُخرج الإمام عليه السلام إلى خراسان كان يكتب إلى ولده الجواد عليه السلام، في المدينة. يحدّث أبو الحسين بن محمّد بن أبي عبّاد- وكان يكتب للرضا عليه السلام ضمّه إليه الفضل بن سهل- فيقول: ما كان عليه السلام يذكر محمّداً ابنه إلّا بكنيته، يقول: “كتب إليَّ أبو جعفر عليه السلام، وكنت أكتب إلى أبي جعفر عليه السلام “، وهو صبيٌّ بالمدينة، فيخاطبه بالتعظيم، وترد كتب أبي جعفر عليه السلام، في نهاية البلاغة والحسن، فسمعته يقول: “أبو جعفر وصيّي وخليفتي في أهلي من بعدي”.
وعن إبراهيم بن أبي محمود، قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام ومعي كتب إليه من أبيه، فجعل يقرؤها ويضع كتاباً كثيراً49على عينيه، ويقول: “خطُّ أبي والله”، ويبكي حتّى سالت دموعه على خديه.
من فضائله ومناقبه:
قال الشيخ كمال الدّين بن طلحة: وأمّا مناقبه: فما اتسعت حلبات مجاله، ولا امتدّت أوقات آجاله، بل قضت عليه الأقدار الإلهيّة بقلّة بقائه في الدنيا بحكمها وأنجاله، فقلّ في الدنيا مقامه، وعجّل القدوم عليه لزيارة حِمامه، فلم تطل بها مدّته ولا امتدّت فيها أيّامه.
فمِن لقبه عليه السلام، يُعرف جوده وكرمه كآبائه وأجداده عليهم السلام، يقول الذهبيّ: وكان أحد الموصوفين بالسخاء ولذلك لقِّب بالجواد، وممّا كتب به الإمام الرضا عليه السلام، لولده الإمام الجواد عليه السلام، ما رُوي عن ابن أبي نصر أنّه قال: قرأت في كتاب أبي الحسن الرضا إلى أبي جعفر عليه السلام: “يا أبا جعفر، بلغني أنّ الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير، فإنّما ذلك من بخل منهم، لئلّا ينال منك أحد خير، وأسألك بحقّي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلّا من الباب الكبير، فإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضّة، ثمّ لا يسألك أحد شيئاً إلّا أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تعطه أقلّ من خمسين دينار، والكثير إليك، ومن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقلّ من خمسة وعشرين دينار، والكثير إليك، إنّي إنمّا أريد بذلك أن يرفعك الله، فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقتاراً”.
وأتاه عليه السلام، رجل فقال له: أعطني على قدر مروّتك، فقال: “لا يسعني”. فقال: على قدري. قال: “أمّا ذا فنعم، يا غلام، أعطه مئة دينار”.
ونُقل أنّه عليه السلام، لمّا كان مقيماً في بغداد كان يرسل بعطاياه السنويّة إلى فقراء المدينة، فتُوزَّع عليهم. وفي ذلك يقول الراوي: وكان يبعث إلى المدينة في كلّ عام بأكثر (من) ألف ألف درهم.
ومن فضله العميم، رعايته لشيعته ومحبّيه، فعن أحمد بن زكريّا الصيدلانيّ عن رجل من بني حنيفة من أهل بست وسجستان56قال: رافقت أبا جعفر، عليه السلام، في السنة التي حجّ فيها في أوّل خلافة المعتصم، فقلت له، وأنا معه على المائدة، وهناك جماعة من أولياء السلطان: إنّ والينا- جعلت فداك- رجل يتولّاكم أهل البيت ويحبكم وعليَّ في ديوانه خراج، فإن رأيت- جعلني الله فداك- أن تكتب إليه كتاباً بالإحسان إليّ، فقال لي: “لا أعرفه”، فقلت: جُعلت فداك، إنّه على ما قلت من محبّيكم أهل البيت، وكتابك ينفعني عنده، فأخذ القرطاس وكتب: “بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميل، وإنّ ما لك من عملك ما أحسنت فيه، فأحسن إلى إخوانك، واعلم أنّ الله عزّ وجلّ سائلك عن مثاقيل الذرّ والخردل”، قال: فلمّا وردت سجستان سبق الخبر إلى الحسين بن عبد الله النيسابوريّ وهو الوالي، فاستقبلني على فرسخين من المدينة، فدفعت إليه الكتاب فقبَّله ووضعه على عينيه، ثمّ قال لي: ما حاجتك؟ فقلت: خراج عليّ في ديوانك، قال: فأمر بطرحه عنّي، وقال لي: لا تُؤدِّ خراجاً ما دام لي عمل. ثمّ سألني عن عيالي فأخبرته بمبلغهم، فأمر لي ولهم بما يقوتنا وفضل، فما أدّيت في عمله خراجاً ما دام حيّاً، ولا قطع عنّي صلته حتّى مات.
ومن مواساته لإخوانه ما رواه ابن مهران قال: كتب أبو جعفر الثاني عليه السلام إلى رجل: “ذكرت مصيبتك بعليّ ابنك، وذكرت أنّه كان أحبّ ولدك إليك، وكذلك الله عزّ وجلّ إنّما يأخذ من الوالد وغيره أزكى ما عند أهله، ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة، فأعظم الله أجرك وأحسن عزاك وربط على قلبك، إنّه قدير، وعجّل الله عليك بالخلف، وأرجو أن يكون الله قد فعل، إن شاء الله تعالى”.
ومن دعائه لشيعته ما رواه بكر بن صالح قال: كتب صهر لي إلى أبي جعفر الثاني صلوات الله عليه: إنّ أبي ناصب خبيث الرأي، وقد لقيت منه شدّة وجهداً، فرأيك- جُعلت فداك- في الدعاء لي، وما ترى، جعلت فداك؟ أفترى أن أكاشفه أم أداريه؟ فكتب عليه السلام: “قد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر أبيك، ولست أدعُ الدعاء لك إن شاء الله، والمداراة خير لك من المكاشفة، ومع العسر يسر، فاصبر فإنّ العاقبة للمتقين. ثبّتك الله على ولاية من تولّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الذي لا تضيع ودائعه”. قال بكر: فعطف الله بقلب أبيه (عليه) حتّى صار لا يخالفه في شيء.
ومن قول الشعراء فيه عليه السلام، ما عن المغيرة بن محمّد المهلبيّ قال: أنشدني عبد الله بن أيّوب الخرّيتيّ الشاعر وكان انقطاعه إلى أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، يخاطب ابنه أبا جعفر محمّد بن عليّ، بعد وفاة أبيه الرضا عليه السلام:
يَا بْنَ الذَّبِيْحِ وَيَاْ بْنَ أَعْرَاْقِ الثَّرَى طَاْبَتْ أَرُوْمَتُهُ60 وَطَاْبَ عُرُوْقَا
يَا بْنَ الْوَصِيِّ وَصِيِّ أَفْضَلِ مُرْسَلٍ أَعْنِيْ النَّبِيَّ الصَّاْدِقَ الْمَصْدُوْقَا
مَاْ لُفَّ فِيْ خِرَقِ الْقَوَاْبِلِ مِثْلُهُ أَسَدٌ يُلَفُّ مَعَ الْخَرِيْقِ خَرِيْقَا
يَاْ أَيُّهَاْ الْحَبْلُ الْمَتِيْنُ مَتَى أَغِدْ يَوْماً بِعَقْوَتِهِ61 أَجِدْهُ وَثِيْقَا
أَنَاْ عَاْئِذٌ بِكَ فِيْ الْقِيَاْمَةِ لَاْئِذٌ أَبْغِي لَدَيْكَ مِنَ النَّجَاْةِ طَرِيْقَا
لَاْ يِسْبِقَنِّيْ فِيْ شَفَاْعَتِكُمْ َغداً أَحَدٌ فَلَسْتُ بِحُبِّكُمْ مَسْبُوْقَا.