الصيام وليلة التقدير
بقلم الشيخ: عماد العلياوي
من خصائص ليلة القدر المباركة أنها مظهر لتفصيل القرآن الكريم النازل فيها؛ فالقرآن قبل نزوله مفرقا كان محكما بمعنى البساطة وعدم التفريق الذي هو شأن من شؤون عالم الدنيا، أما عنده تعالى فهو محكم بلا تفريق ، كما في قوله تعالى :﴿إِنّا جَعَلناهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعقِلونَ * وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَينا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ﴾[الزخرف: ٣-٤] . وإنما صيغ بصيغ أهل هذا العالم و فرق ليتعقله الناس ويهتدوا به : ﴿وَقُرآنًا فَرَقناهُ لِتَقرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكثٍ وَنَزَّلناهُ تَنزيلًا﴾
[الإسراء: ١٠٦].
فالقرآن المحكم عند الله تعالى مفرق عند الناس ليكون فرقانا لهم .
وهكذا ليلة القدر فهي تفرق الأمر الإلهي المحكم :﴿حم * وَالكِتابِ المُبينِ * إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرينَ * فيها يُفرَقُ كُلُّ أَمرٍ حَكيمٍ * أَمرًا مِن عِندِنا ﴾[الدخان: ١-٥]. فالأمر الإلهي أمر بسيط عند نزوله ، ولكن حال تلبسه بالتقدير يكون مفصلا لما يخص كل إنسان بخصوصه ، من خير أو شر، وما يكون له ، أو عليه ، كما في الرواية :
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» قَالَ: «يُقَدَّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ، خَيْرٍ وَ شَرٍّ وَ طَاعَةٍ وَ مَعْصِيَةٍ وَ مَوْلُودٍ وَ أَجَلٍ وَ رِزْقٍ، فَمَا قُدِّرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَ قُضِيَ فَهُوَ الْمَحْتُومُ، وَ لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِيهِ الْمَشِيئَةُ».(١).
♦️ومن التقدير في هذه الليلة مضاعفة العمل كما في الرواية، قَالَ: قُلْتُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ «١»، أَيُّ شَيْءٍ عُنِيَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: «الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَ لَوْلَا مَا يُضَاعِفُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَا بَلَغُوا، وَ لَكِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ لَهُمُ الْحَسَنَاتِ» «٢».
♦️ولا يختص العمل الصالح بالعبادة ، بل يشمل كل طاعة كما في الرواية المتقدمة:”قَالَ: «الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ” ، فأصلاح ذات البين، وصلة الأرحام، والعفو عن المسيء، وقضاء حوائج الإخوان، وإدخال السرور على الاهل والمؤمنين، ومدارسة العلم من أفضل أنواع الخير ، ومعنى مضاعفة العمل فيها أنه يوازي عمل ألف شهر ، ومن هنا عظم شأنها بقوله :” وما أدراك ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ” ؟..
♦️وللدعاء مدخلية في التقدير الإلهي في هذه الليلة كما يكشف عنه مفردات بعض الأدعية من سؤال المغفرة والحج وأطالة العمر في عافية : “اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِيما تَقْضِي وَتُقَدِّرُ مِنَ الاَمْرِ المَحْتُومِ وَفِيما تَفْرُقُ مِنَ الاَمْرِ الحَكِيمِ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ وَفِي القَضاء الَّذِي لا يُرَدُّ وَلا يُبَدَّلُ أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الحَرامِ المَبْرُورِ حَجُّهُمُ المَشْكُورِ سَعْيُهُمُ المَغْفُورِ ذُنُوبُهُمُ المُكَفَّرِ عَنْهُم سَيِّئاتُهُمْ، وَاجْعَلْ فِيْما تَقْضِي وَتُقَدِّرُ أَنْ تُطِيلَ عُمْرِي وَتُوَسِّعَ عَلَيَّ فِي رِزْقِي وَتَفْعَلَ بِي ما أنت أهله”.(٣).
♦️ فلا ينبغي للمؤمن الذي يشده عالم الغيب ، ويخفق قلبه بحب الحبيب وآله صلوات الله عليهم أجمعين أن يغفل أو يتهاون فى حق هذه الليلة، فقد روي عن رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله )
أنه: كَانَ يَطْوِي فِرَاشَهُ وَ يَشُدُّ مِئْزَرَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَ عِشْرِينَ، وَ كَانَ يَرُشُّ وُجُوهَ النِّيَامِ بِالْمَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ” .
وَ كَانَتْ السيدة فَاطِمَةُ ( عليها السلام ) لَا تَدَعُ أَحَداً مِنْ أَهْلِهَا يَنَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَ تُدَاوِيهِمْ بِقِلَّةِ الطَّعَامِ، وَ تَتَأَهَّبُ لَهَا مِنَ النَّهَارِ، وَ تَقُولُ ” مَحْرُومٌ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا ” (٤) . فإذا كان الحرمان متمثلا في خير هذه الليلة فلا يليق بمؤمن تركها .