الوهابيَّة هي المدرسة التي استطاعت الاستمرار والبقاء بمساعدة الأجانب بقوَّة السيف، وليس بالدعوة، فقد استعان محمّد بن عبد الوهاب بأسرة آل سعود عندما فشل في نشر أفكاره المنحرفة، واستغلَّ آل سعود أيضاً آراء الوهابيّة التكفيريّة للوصول إلى السلطة والاستيلاء على المناطق المختلفة في نَجْد والحجاز، وسحقوا بأطماعهم أرواح المسلمين وأموالهم وأعراضهم..
* تدمير الآثار والأماكن الإسلاميّة:
من الجرائم التي ارتكبها آل سعود والوهابيّة، تخريبُ الآثار والأماكن الإسلاميّة، وسوف نكتفي هنا بالإشارة إلى بعضٍ من تاريخ الوهابيّة وأعمالها في هذا المجال:
يجب أن لا ننسى أنّ الأبنية والآثار التاريخيّة هي الهويّة لأيّ ثقافة، وحتّى آل سعود أنفسهم يحافظون على كثير من الأماكن التاريخيّة المتعلّقة بهم، ومنها قصورهم التاريخيّة، وينفقون مبالغ سنويّة باهظة من أجل المحافظة عليها. ولكن العجيب أنّهم يدمِّرون كلّ الآثار التي ترمز إلى الإسلام والتاريخ الإسلاميّ المُشرق. وهذا أحد أهمّ الاختلافات بين المسلمين والوهابيين الذين يحاولون إبراز ذلك على أنّه اختلاف بين الشيعة والسنّة.
إذ أن المسلمين كانوا يحافظون على جميع الآثار والأماكن الإسلاميّة المقدَّسة إلى ما قبل تواجد الوهابيّة في مدينتَي مكّة والمدينة، ولم يصف أحد منهم زيارة قبور الأكابر بالشرك، ولكنّ الوهابيّين قاموا بتخريب الآثار الإسلاميّة عندما سيطروا على هاتَين المدينتَين، وكادوا يدمّرون المرقد المطهّر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلّا أنّ الخوف من ردود أفعال المسلمين صرفهم عن ذلك.
* مراحل التدمير:
يُمكن تقسيم تدمير الآثار والأبنية الإسلاميّة وأماكن الزيارة من الناحية التاريخيّة إلى مرحلتين:
1- المرحلة الأولى: هدم القبب ونهبها:
أ- مكّة المكرّمة: ترك اثنان من الحكّام الوهابيّين سجلاً أسود في تدمير الأماكن الإسلاميّة وتخريب البقاع المباركة عند المسلمين. أوّلهما: “سعود بن عبد العزيز”، الذي هاجم كثيراً من الأماكن الإسلاميّة ودمّرها بين عامي 1216هـ/ 1801م و1222هـ/ 1807م، وهاجم الجيش الوهابيّ العتبات المقدّسة في العراق في عهده(1)، ودمّر المرقد المطهّر للإمام الحسين عليه السلام. ولكن لم تكن البقاع الشيعيّة وحدها التي تعرّضت لاعتداءات الجيش السعوديّ، فقد هاجم جيش آل سعود مكّة المكرّمة في عام 1218هـ/1803م أيضاً.
في حين قال “زيني دحلان”: “فما أصبح الصباح إلّا وهم سارحون بالمساحي لهدم القبب… فهدموا أوّلاً ما في “المعلى”(2) من القبب فكانت كثيرة، ثمّ هدموا قبّة مولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم… وتتبّعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين، وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنّون، وبالغوا في شتم القبور التي هدموها، وقالوا: إنْ هي إلّا أسماء سمّيتموها…”(3).
وهدموا كذلك قبّة زمزم، والقباب التي حول الكعبة، والأبنية التي هي أعلى من الكعبة(4). وراقب أهل مكّة -الذين كانوا يخافون من الوهابيّين بشدَّة- تدمير الأبنية والآثار الإسلاميّة بهلع. ثمّ منع الوهابيّون أيّ شكل من أشكال الاستغاثة بأولياء الله، وأعلنوا إبطال صلاة باقي المذاهب التي كانت تتمّ بالتناوب في المسجد الحرام، وأجبروا علماء مكّة على تدريس كتاب “كشف الشبهات” لمحمد بن عبد الوهاب(5)، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ الوهابيّين لم يلبثوا أن هُزموا بعد مدَّة من الزمن أمام جيش “الشريف غالب”، وخرجوا من مكّة مطرودين.
ب- المدينة المنوّرة: اقترن الاستيلاء على المدينة المنوّرة بتقلّبات كثيرة، لأنّ أهل المدينة تحمَّلوا ضغوط آل سعود الذين حاصروهم مدَّة طويلة حتّى استطاعوا دخول المدينة في عام 1220هـ(6).
“فلمّا قرب إلى المدينة أرسل إلى أهلها بدخوله، فأبوا وامتنعوا من ذلك، فحمل عليهم مراراً حتّى دخلها بعد وصوله بخمسة وعشرين يوماً، فقتل منها بعض النّاس، حيث سُمّي أهلها “الناكثين”.
لذلك، استباح دمهم حتّى بعد الحرب، فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزاره، ولبث فيها عشرة أيّام لم يحرّك منها ساكناً… وفي يوم الحادي عشر، طلب الخدم السودان الذين يخدمون حرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أريد منكم الدلالة على خزائن النبيّ، فقالوا بأجمعهم… نحن لا نولّيك عليها، ولا نسلّطك، فأمر بضربهم وحبسهم، حتى اضطرّوا إلى الإجابة، فدلّوه على بعض من ذلك، فأخذ كلّ ما فيها، وكان فيها من النقود ما لا يُحصى، وفيها تاج “كسرى أنوشروان”، الذي حصل عليه المسلمون لمّا فُتحت المدائن، وفيها سيف هارون الرشيد، وعقْد كان لزبيدة بنت مروان زوجته، وفيها تحف غريبة من جملة ما أرسله سلاطين الهند لحضرته صلى الله عليه وآله وسلم تزيّناً لقبّته صلى الله عليه وآله وسلم. وأخذ قناديل الذهب، وجواهر عديدة، ثم إنّه رتَّب في المدينة أحداً من آل سعود، وخرج إلى البقيع يريد نجداً، فأمر بتهديم كلِّ قبَّة كانت في البقيع. وتلك القبب قبّة الزهراء فاطمة بنت الرسول(ع) وقبَّة الحسن بن عليّ(ع) وقبّة علي بن الحسين(ع)، وقبّة محمد الباقر، وقبّة جعفر الصادق…”(7).
أدّى هذا الخراب إلى ارتفاع نبرة الاعتراضات واشتعال نيران الغضب في العالم الإسلاميّ، وطُويَ في النهاية سِجِلّ آل سعود في عام 1233هـ على يد محمد علي باشا والي مصر.
2- المرحلة الثانية: التدمير التامّ:
بدأت إعادة تعمير البقاع المباركة والآثار الإسلاميّة بعد طرد الوهابيّين وإخراجهم من مكّة والمدينة(8). وسرعان ما تمّ إعادة بناء كثير من الخرائب التي تركها آل سعود بموافقة العلماء والمساعدات الماليّة التي كانت تصل إلى مكّة والمدينة من الناس ومن الأضرحة التي أُقيمت في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ، من أدناه إلى أقصاه. ويدلّ هذا العمل على عمق الاختلاف بين إسلام الوهابيّين ومعتقدات المسلمين(9).
والشخصيّة الأخرى التي كان لها دور أساس في تخريب الأماكن الإسلاميّة وتدمير هويّة العالم الإسلامي هو “عبد العزيز بن عبد الرحمن”.
في حين كان الجميع يعلم عندما وصل عبد العزيز للسلطة أنّ تدمير القبور سيكون ركناً أساسيّاً بالنسبة إليه، مثله في ذلك كمثل أسلافه، ولهذا فقد طُرحت هذه القضيَّة منذ البداية كواحدة من أهمِّ الهواجس عند المسلمين(10).
ورغم اعتداء عبد العزيز على كثير من البقاع المباركة والآثار الإسلاميّة، إلّا أنَّ ذلك قد لا يكون بحجم ما حدث في البقيع. والبقيع هو منطقة تتضمّن الأضرحة التي حظيت باهتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وباقي المسلمين منذ البداية.
ولم تكن هذه الأضرحة خاصّة بمذهب من المذاهب. استولى الجيش الوهابيّ على المدينة المنوّرة في الخامس عشر من جمادى الأولى سنة 1344هـ، وأرسل عبد العزيز بعد ذلك فقيهاً من فقهاء الوهابيّة يُسمَّى “الشيخ عبد الله بن بليهد” إلى المدينة لكي يُمهِّد لتدمير قبور البقيع، وسحق اعتراضات علماء المدينة بجمعهم وتهديدهم وتعريضهم للضغوط النفسيّة.
ومن المؤسف أنّ جميع البقاع المقدّسة في البقيع قد دُمِّرت في السادس من شوّال سنة 1344هـ، ومنها قبور أئمّة الشيعة المباركة، ولم يبقَ منها شيء سوى تلّ من التراب. بدأت الاستنكارات بعد ذلك تتصاعد، وعمَّت الشكاوى والاعتراضات -على تدمير الآثار والأبنية الإسلاميّة- العالم الإسلاميّ كلّه في شكل رسائل وكتب(11).
ويمكن بنظرة إجماليّة إلى أعمال الوهابيّة وآل سعود أن ندرك أنَّ هذه المدرسة قد وجَّهت ضربات إلى جسد العالم الإسلاميّ يصعب التعافي منها، سواء كان ذلك في مجال العمل أو في البُعد الاعتقاديّ، وربما لم يكن العدوّ الخارجيّ يستطيع القيام بمثل ما قاموا به من أعمال.
المصادر والمراجع:
(*) مقتطف من كتاب: السلفيّة والوهابيّة، د. مهدي علي زاده الموسويّ، ترجمة: د. أحمد حسين بكر، ج1، ص274 – 279.
1- كان عبد العزيز الأوّل –والده– سلطان السعوديّة، وكان سعود قائد جيش عبد العزيز، وتمَّت أعمال التدمير والخراب على يديه.
2- تُعرف هذه المقابر بين الشيعة اليوم باسم “مقابر أبي طالب”، وتقع بجوار جسر “الحجون”.
3- خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، أحمد زيني دحلان، ص73.
4- كشف الارتياب في اتّباع محمد بن عبد الوهاب، السيد محسن الأمين العاملي، ص23. نقلاً عن: عبد الله الجبرتي، “المختار من تاريخ الجبرتي”.
5- المختار من تاريخ الجبرتي، عبد الله الجبرتي، ص23-24.
6- عنوان المجد في تاريخ نجد، عثمان بن عبد الله ابن بشر، ج1، ص288.
7- البقيع، قصة تدمير آل سعود للآثار الإسلاميّة في الحجا، يوسف الهاجري، ص83-84. نقلاً عن: حسن جمال بن أحمد الريكي، “مجلة الثورة الإسلاميّة”، عدد 74، ص71.
8- موسوعة العتبات المقدسة، جعفر الخليلي، ص106.
9- تناول المهندس يوسف الهاجري وضع البقيع في السنوات التي تلت عملية إعادة تعمير هذا المكان المقدّس بدراسة الوثائق المختلفة. (يوسف الهاجري، “البقيع، قصة تدمير آل سعود للآثار الإسلاميّة في الحجاز”).
10- كما يُمكن تحديد هذه الهواجس بشكل كامل عند مُمثلي شبه القارة الهنديّة الذين جاءوا إلى المملكة العربيّة السعوديّة:
Sixth World Seminar. The Future of the Haramain-Makkah & Madinah. p.60.
11- للتعرّف إلى هذه الاعتراضات، راجع: البقيع، قصة تدمير آل سعود للآثار الإسلاميّة في الحجاز، م.س، ص139-181.