لمّا دخلت بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت ترعى أولاد الزهراء (سلام الله عليها) أكثر ممّا ترعى أبناءها، وتؤثرهم على أولادها ؛ تعويضاً لما أصابهم من حزن، وفقدان حنان لموت أمّهم الزهراء البتول.
وقالت يوماً إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يا أبا الحسن: نادني بكنيتي المعروفة ( أم البنين )، ولا تذكر اسمي ( فاطمة )، فقال لها الإمام (عليه السلام): (( لماذا؟ )) قالت: أخشى أن يسمع الحسنان، فينكسر خاطرهما، ويتصدّع قلبهما لسماع ذكر اسم أمّهما ( فاطمة ).
فأيّ امرأة جليلة مؤمنة، صابرة صالحة وقور هذه المرأة ( طيّب الله ثراها، ونوّر ضريحها ) ؟
لذا صار لها جاه عظيم، وشأن كريم عند الله، وعند رسوله، وأهل بيته الغرّ الميامين، فما توجّه إنسان إلى الله العلي العظيم وسأله بحقّها إلاّ قضيت حاجته، ما لم تكن محرّمة، أو مخالفة للمشيئة الإلهية.
ولذلك أغرم الناس بها، وخاصّة أهل النجف، فتراهم يعقدون المجالس، ويطعمون الطعام، ويوزعون الحلوى في ثوابها.
ومن باب عرفان الجميل ومقابلة الإحسان بمثله [ فقد ] ورد عن الزهراء (سلام الله عليها) يوم الحشر تخرج من تحت عباءتها كفين مقطوعين، وهما كفّا أبي الفضل العباس (عليه السلام) وتقول: (( يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين مَنْ قطع هذين الكفّين )).
ولمّا دخلت السيّدة زينب (سلام الله عليها) المدينة بعد قتل الحسين، والرجوع من السبي والتقت نظراتها بنظرات أمّ البنين صاحت: وا أخاه ! وا عباساه ! فأجابتها أمّ البنين: وا ولداه ! واحسيناه !
وأمّا ما ورد في شأن عبادتها وصلاتها، وتوجّهها إلى الله، وتفويض الأمر إليه، فهو شيء جليل مهمّ في سلوك هذه المرأة الحرّة الشريفة الكريمة، ذات الجذر الكريم الأصيل في شتى المكارم والفضائل والسجايا الطيّبة.
يقول أحد الدارسين لشخصيّة أمّ البنين (سلام الله عليها): إنّ سير العظماء في تاريخ الإسلام، أعلام إنسانيّة باذخة، يكبرها لمسلم وغير المسلم، وإنّ أمّ البنين كانت أقوى جرأة وشجاعة، وأصلب المؤمنات على تحمّل الصعاب، تطلب المجد والكرامة، والمجد لا ينال إلاّ بالمصاعب، وركوب المخاطر، والتضحية والاستبسال.
لقد كانت أمّ البنين القدوة الحسنة، والمثل الأعلى الذي يُحتذى [ به ]، وكانت عنواناً للثبات والإخلاص، والبسالة والتضحية، والفداء والشرف، والعزّة والكرامة في سبيل الحقّ والعدالة.
هذه السيّدة المصون ما إنْ بلغها مقتل الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء [ حتى ] خنقتها العبرة، فكانت تبكي بكاء الثكالى، صباح مساء، تعبيراً عن مشاعرها وأحزانها. فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، وليضجّ الضاجّون.
إنّ في حياة هذه السيّدة الجليلة أخباراً طريفة، وآثاراً ممتعة، جعلتها مثالاً صالحاً، وقدوة حسنة في المعارف والصلاح، وإجابة لله وللرسول الكريم حين أمر محمداً (صلّى الله عليه وآله) بودّ أهل البيت وحبّهم، وولايتهم والاتّباع لهم، والتمسّك بعروتهم.
وجدير بكلّ مسلم أنْ يتبع، ويتمثل أمر ربّه، وأمر رسوله الناصح الأمين، وأن لا يعدل عن هذا الأمر قيد أنملة.
وثمّة شيء ينبغي أن يعرف، وهو قد كان لسعة اطّلاعها في الأمور، وإخلاصها الكريم، وماضيها المجيد، أثر حاسم في تعلّق الناس بها، وثقتهم ومحبّتهم التي لا حدّ لها بشخصها، فاستطاعت بحكمتها وصبرها، وبُعد نظرها التغلب على كلّ الصعاب.
وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّما يدلّ [ على ] حنكتها وجلدها، ومعدنها الأصيل ضمن إطار الأخلاق العربية، والتربية الإسلامية الأصيلة، وتقاليدها في التعامل مع الجمهور في احترامها لهم ؛ لأنّ المرأة عظيمة المنزلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في العلم والحلم، والمعارف والصلاح. عظيمة المنزلة عند الناس.
ويظهر للمتتبّع لأخبار أمّ البنين إنّها كانت مخلصة لأهل البيت، متمسّكة بولايتهم، عارفة بشأنهم، مستبصرة بأمرهم، فكانت هذه المبجّلة قد أضاءت طريق الإصلاح، والإصلاح لحالها من دور مهمّ في أحداث التاريخ العربي والإسلامي.