يختلف الفكر الصوفي عن بقية الفرق الإسلامية بثقافة خاصة لا توجد عند غيرهم، وتعليمات وتوصيات ونظريات خاصة، فالتوصية بالعزوبة وعدم الانشغال بالزواج والمبالغة بالجوع والفقر، كما في توصيات الجنيد البغدادي، وترك الأهل كما في قصة إبراهيم بن أدهم الشائعة عندهم، وكراهة دخول الحمام كما عن الرفاعي والفرح بالعري والفقر والذل والمسكنة، وغيرها من التعليمات التي لا تشبه سيرة المسلمين والمتشرعة، وهي ضرورية عند الصوفية لتحقيق الهدف وقد تؤدي إلى تحقيق بعض الظواهر الروحية الاستثنائية، ويرى صاحب كتاب (الغنية لطالبي طريق الحق) أنه وصل إلى مقامات عالية بسبب تركه الحمام لمدة سنة كاملة.
وهذه التعليمات والتوصيات ليست عامة في جميع المتصوفة ولكنها أفكار نشأت في البيئة الصوفية وبذورها موجودة ومقبولة يمكن أن تنمو مجدداً.
وهناك ما هو أكثر حراجة من التعاليم السلوكية وهي النظريات الفكرية التي من المؤكد أنها خاصة بهم دون سواهم من المسلمين، كالتصوُّر والتجلي للإنسان الكامل في كل جيل الذي هو نسخة عن فكرة التناسخ مع بعض الاختلافات، والفيض والعلاقة الوجود بين المخلوقات وبين الله عز وجل عند ابن عربي، والاستيحاء المباشر من الله، وغيرها مما سبب مشاكل تطبيقية في السير والسلوك وأموراً لا يمكن ضبطها.
وربما حفّوها بروايات نبوية وآيات قرآنية لتأييدها، ونسبتها إلى الإسلام، وزعموا أنها مدلولات معمقة للنصوص الإسلامية، وهو ما لم يفهمه سواهم من المسلمين.
وربما يرى البعض أن من الممكن تهذيب هذه الأمور أو تجاوزها إذا أردنا استيراد طرائقهم إلى أبناء المذهب الشيعي والتنازل عن خصوصياتها، والاستفادة من بعض أطروحاتها، ولكنها مغامرة في هذا الميدان الخطير فإن كان بعض العرفاء الشيعة قادراً على أخذ الصحيح من ابن عربي وترك الضعيف فإن غيرهم ممن هو ضعيف العود قد يقع في أمور تكسر ظهره وتلوث فكره أو تضيع عمره في أقل تقدير، وربما وقع في توهم الحلول والوحي والاتحاد والتناسخ وادعاء التكليف الخاص من الله أو من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير بيّنة.
أضف إلى ذلك ما استعان به بعض أعداء الإسلام من تصوير نبوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كتجربة من تجارب الصوفية وفهم الوحي والنبوة كشيء مشابه لما يدعيه الصوفية، حتى قال بعض المعاصرين ببسط التجربة النبوية وبتوهم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أثناء الاستيحاء وغيرها من المشامل التي تسبب بها فهم الإسلام بمنظار مصطلحات الصوفية وتجاربهم.
ولا نجد في الجيل الأول من المتصوفة (في القرن الأول والثاني الهجريين) تلك النظريات ومن المتوقع أن يكون دخولها عبر منفذين
الأول: أن تكون استوردت من ثقافات أخرى غير الإسلام كما يؤيده عدد من الباحثين المسلمين والأجانب عند مقارنة المقولات الصوفية مع تعاليم الديانات الأخرى، وأن التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري كان مشبعاً بالأفكار الهندية, وشبيه بمذهب الفيدانتا الهندية، بل أسهمت فيه الرهبنة المسيحية لا سيما فكرة العزوبية، والأفلاطونية الحديثة في فكرة وحدة الوجود، وكان أوائل الصوفية من غير العرب وممن كان له احتكاك بالثقافات الأخرى كإبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي وأبي يزيد البسطامي، وكان للجنيد البغدادي دور كبير في خلط هذه الثقافات في تعليمات مدرسية أفضل ممن سبقه.
وأعتقد أن هذا الاستيراد لا يمكن الجزم به بمجرد المقارنات، لا سيما وأن المتصوفة أناس متشرعون يطلبون وجه الله بدورهم ويعلمون خطأ التعبد بديانات أخرى، أضف إلى ذلك أن تراث الديانات الأخيرة المعاصر الذي وصل إلينا ليس أصيلاً وكان رجال الدين يهذبونه ويضيفون إليه في كل جيل ولعلهم أخذوا من الصوفية المسلمين عدداً من نظرياتهم.
الثاني: أن تكون مبالغات منهم وإفراد في الالتزام ببعض العبادات، كالصيام المستحب الذي بولغ به إلى درجة استمرار الجوع، والتواضع ونبذ الزخرف الذي بولغ به إلى درجة التذلل ولبس الخرق، والعزوف عن الشهوات الذي بولغ به إلى درجة ترك النساء بالجملة، وهذه الجذور موجودة في كل نفس حتى تبادر بعضها إلى أذهان صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصره ونهاهم عنها بقوله: (لا رهبانية في أمتي، الزواج سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني).
ولا يبد أن يكون العاملان قد اختلطا لتوليد الفكر الصوفي مع استدلالات خاصة وأفكار طيبة استفيدت من التراث الأخلاقي الموجود في الروايات والآيات.
وقد أضاف المتصوفة المسلمون الكثير من الإشارات والمسائل عبر تجاربهم الشخصية واستفاداتهم من النصوص الإسلامية، من دون أن يكون لهم منهج استدلالي متين ولا تنقيح سندي للروايات بل اعتمدوا على آليات خاصة سنأتي على مناقشة بعضها كالذوق والكشف اللذان يمكّنان من تمييز أحقية صدور النص.
ثم جاء ابن عربي فمثل دور التهذيب والإضافة وقام بتأطير كل ذلك بنظريات عن الكون والملائكة والجن أكثر قرباً إلى النصوص الدينية، ولكنها بقيت تحمل في طياتها الثقافة الصوفية الخاصة والتي اتهموا باستيرادها من الأفلاطونية الحديثة، ولا سيما في ما يخص العلاقة الوجودية مع الله التي عُبّر عنها في ما بعد بمصطلح وحدة الوجود، وهذا المصطلح لم يؤسسه ابن عربي ولا تلامذته المباشرين، وربما أسند القول به إلى ابن عربي تشنيعاً كما فعله ابن تيمية، ثم صار يُنسب إليه في القرون الأخيرة مدحاً. ولكن فكرة التأكيد على الوجود والتوجه نحو خصائصه الذاتية والعلاقة مع الرب كانت موجودة في فكر ابن عربي ولها جذور فلسفية في فلسفة أفلوطين الاسكندري.
وقد أدّت تلك النظريات الخاصة بالمتصوفة إلى مشاكل حقيقية في السير والسلوك، سنأتي على ذكر بعضها.
#الفتوحات_المكية
#ابن_عربي
#مصابيح_الطريق
#منهج_الأميين
عماد علي الهلالي